معاداة الفن ومباهج الحياة ليس أمرا جديدا في المغرب ، و الحرب ضد الفن لم تنطلق من محاربة مهرجان موازين، منذ سنوات في الواقع، كمعركة ضمن حرب شاملة تستهدف حب الحياة وتجلياته... لقد انطلقت هذه الحرب منذ عقود ، وبشكل خاص منذ أواسط السبعينات عندما بدأت تنتشر الحركة الوهابية في المغرب و مختلف التيارات السلفية المدعومة ماديا و أدبيا من الشرق، و ساهمت الدولة آنذاك بوسائل عديدة منها استقدام أساتذة من الشرق،من المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين و السلفيين، لمحاصرة اليسار و فكر اليسار داخل الفضاء التعليمي.. بدأت الحرب ضد الحياة و مباهج الحياة بمعارك " صغيرة " توجهت بالأساس ضد الأعراس التي كانت في تقاليدنا المغربية بمثابة " مهرجان صغير"، و ضد الأفراح العائلية التي يحضر فيها، بشكل جد طبيعي، الغناء و الرقص و مختلف أشكال التعبير عن الفرح بالصوت و الجسد واللباس... نتيجة ذلك تحول العرس المغربي في مناطق و أحياء معينة يؤطرها السلفيون إلى ما يشبه المآتم (قراءة القرآن و تلاوة أناشيد دينية)... المنطلق المؤطر لهذه الحرب ضد كل أشكال التعبير الفني، و ضد الحياة ، هو أن الفن حرام، و الرقص حرام، و اختلاط الرجال بالنساء حتى في المناسبات العائلية حرام، و الحياة الدنيا فانية ، وينبغي التفكير في عذاب القبروالآخرة... لذلك كانت ثقافة الموت بكل طقوسه و أهواله لمناهضة ثقافة الحياة بكل تجلياتها و تعابيرها.. إنها فلسفة في الحياة في الواقع، أو لنقل أنها فلسفة عفوية لدى الفئات الشعبية التي أصبحت تحت تأثير هذه الثقافة ، أي ممارسة فلسفة دون إدراكها بهذه الصفة ، كما تمارس الإيديولوجية على نطاق و اسع دون إدراك الأسس و المضامين، لأن الإيديولوجية من طبيعتها أن تكون مختبئة حتى تمارس أكبر قدر من تزييف الوعي... المعركة التي خاضها الأصوليون والسلفيون ضد " العرس المغربي" كان في الواقع حربا ضد الثقافة الوطنية و هوية المغرب، فالعرس في التاريخ الثقافي المغربي في عدد كبير من المناطق إن لم يكن أغلبها، هو مهرجان للفرح ( يكون عادة بعد نهاية موسم الحصاد) تتجسد فيه كل التعابير و التجليات الثقافية و الإبداعية ( غناء، رقص جماعي، أزياء ، أواني تقليدية و كل المنتوجات الفنية الشعبية)، و المسخ الذي يعرفه العرس المغربي اليوم أعتبره مسخا للثقافة الوطنية، لأن العرس هو ذاكرة الثقافة الشعبية و إحدى أدوات استمرارها... بالإضافة إلى العرس أبدع الشعب اشكالا آخرى للتلاقي و التعبير عن الفرح الجماعي و عن حب الحياة وهي المواسم، التي أعتبر المهرجانات الفنية الحالية شكلا متطورا للمواسم التقليدية . و ينبغي أن نلاحظ أنه حتى المواسم ذات الطبيعة الدينية يحضر فيها الفرح و التجليات الفنية المختلفة و تعابير الجسد.. و لاحظ أن التصوف الشعبي يوظف كثيرا من التعبير الجسدي سواء لدى النساء أو الرجال، فتحضر الحياة و يحضر الجسد حتى فيما يمكن اعتباره قريبا من ثقافة الموت، لذلك حارب السلفييون المواسم باعتبارها بدعة... العرس ملتقى مصغر، و الموسم ملتقى أكبر منه يهم منطقة أو قبيلة.. و المهرجان الفني يتسع أكثر ليشمل جهة أو الوطن برمته.. وكل ذلك في إطار إبداع الشعب و المجتمع لأشكال من الفرح الجماعي و التعبير عن حب الحياة.... ثقافة الموت، كثقافة وافدة و تنتشر لعوامل عديدة ليس هنا مجال تحليلها، كان لابد أن تواجه و تصارع نقيضها، و كانت واجهة المهرجانات الفنية، وليست الحملة ضد " موازين" سوى جزء من الحرب الشاملة ضد الفن و الإبداع و الفرح الجماعي .. لكن لماذا ينظم جزء من اليسار( الجذري أو المتطرف) لهذه الحملة و بالتالي لهذه المعركة ضد الفن و ضد الحياة؟ الواقع أن هذا الصنف من اليسار حارب الفن بطريقته منذ عقود.. و أتذكر أن هذا اليسار الذي كانت له السيادة المطلقة في الجامعات المغربية في السبعينيات من القرن الماضي و نسبية في الثمانينات منه ، كان يمارس ديكتاتورية حقيقية داخل الحرم الجامعي ، هذا اليسار كان يمنع، بصرامة ، الاستماع لأغاني ام كلثوم او عبد الحليم حافظ أو غيرها من الأهرام الفنية العربية، أو الاستماع إلى الأغاني المغربية الشعبية و العصرية.. لأنها أغاني رجعية ! الفن الغنائي الذي كان مسموحا به في مقاصف الجامعة و ساحاتها، هو أغاني الشيخ إمام و سعيد المغربي ثم مارسيل خليفة ببعض التحفظ خاصة عندما تمرد عن حصره في " الفن الملتزم" و انطلق يغني للحب و الحياة.. الفرق بين الأصوليين و اليسار الجذري بهذا الخصوص هو أن عناصر هذا الأخير ، تعيش سكيزوفرينيا حقيقية، محاربة الفن كإبداع في الخطاب و في الساحة العامة و إطلاق أغاني رويشة والشيخات في السهرات الخاصة و المغلقة خاصة تلك التي تحضر فيها المشروبات الروحية.. لأن اليساري المتطرف غير مؤطر ، إيديولوجيا و ثقافيا ، بثقافة الموت بل بثقافة الحياة ، فهو " محب للحياة إن استطاع إليها سبيلا". هذه الازدواجية ( التي يعيشها الكثير من المغاربة بالمناسبة) هي التي تجعل أحدهم ينخرط في حملة محمومة ضد موازين و قد تجده أول الحاضرين لأمسية شاكيرا مثلا! ببساطة لأنه يمارس الإيديولوجية لكنه يحب الحياة ! الكثيرون يستغربون من انخراط بعض اليساريين في معركة ليست معركتهم بل هي معركة الأصوليين ، مثل المعركة ضد المهرجانات و ضد موازين ، لكن كل الذين عايشوا تجربة ما يسمى ب " اليسار الجديد" عندما كان جديدا، أي منذ حوالي 40 سنة، يعرفون أن الالتقاء بين اليسار المتطرف واليمين المتطرف أمر ليس بجديد ، التقاء موضوعي حتى بدون تخطيط و اتفاق مسبقويحدث بشكل متواصل دون ادنى اشكال... ما استغرب له شخصيا هو انخراط شباب مليء بالحياة و بحب الحياة، حداثي عصري في كل تجليات حياته، و ليس أصوليا و لا سلفيا و لا يساريا متطرفا، انخراطه في هذه المعركة، معركة إلغاء المهرجانات في البلاد، و موازين مجرد خطوة لرفع السقف في مرحلة لاحقة... و بالمناسبة أقول أن " موازين" و مختلف المهرجانات الفنية هي مكاسب للثقافة و الفن، وللشعب، و لحقه في الفرح و الاستمتاع بسماع و مشاهدة فنانين يحبهم بالمجان، و للتذكير فإن ذلك لا يتم، خارج المهرجان، سوى بما يعادل أجرة شهر كامل لعامل أو موظف صغير و ينبغي عدم نسيان ذلك).... الأشخاص المسئولون اليوم عن المهرجان عابرون و المكسب و التقليد سيرسخ و سيستمر و يتطور في مضمونه و تدبيره .المعركة الحقيقية لمحبي الحياة ،إن كان لابد من معركة ، هي العمل على تطوير و حسن تدبير المهرجانات الفنية و الثقافية عامة... وربطها أكثر بالتقاليد الوطنية لتكون أداة لتطوير هذه الثقافة وبوابة انفتاحها على الثقافات العالمية، أما الرفض المبدئي للمهرجانات فهي معركة حاملي ثقافة الموت ورافضي الفرح و مباهج الحياة..