لاشك أن المتتبع لما يعتمل داخل الوطن العربي منذ أشهر من ثورات وانتفاضات وحراك يدرك ان ثمة شئ ما تغير، ومرد ذلك يعود لكون هذه الرقعة من العالم لم تكن يوما ما مصنفة ضمن خانة صناعة الحدث أو البناء الإرادي لأي عمل، بقدر ما كان قدرها الارتهان لردة الفعل لا الفعل والجواب لا السؤال والمسايرة لا الاستقلالية والانكفاء لا الاكتفاء والانصياع لا الرفض والتبعية لا الزعامة، مثلما كانت مختبرا تجريبيا لمخططات أو استراتيجيات الآخرين أو معملا تصنيعيا لسلعهم وبضاعاتهم. ولعل كثيرين اليوم سنحت لهم فرصة الكتابة أو التوثيق أو الدراسة بعد أن انقشع غبار المفاجآت وهدأ رماد بعض الميادين مما يمكن الباحثين والدارسين على حد سواء من إلتقاط أنفاسهم أولا، وأخذ المسافات الكافية ثانيا، ومسك زمام الاستكشاف والبحث للانكباب على تحليل المعطيات والتفاصيل للوقوف على أسباب وخلفيات ومسارات وتداعيات مختلف التطورات والأحداث التي يشهدها العالم العربي منذ بداية هذه السنة ثورة أو انتفاضة أو حتى مجرد مظاهرات مطالبة بالإصلاح او الحرية أو التغيير. لكن للأسف فإن بعض المحللين والباحثين و الدارسين العرب (وعلى رأسهم المفكر المحترم الدكتور عزمي بشارة وغيره كثيرين) الذين بدؤوا بالفعل في التشريح والتشخيص من خلال الكتابات والدراسات والتقارير و الأفلام التوثيقية والوثائقية قفزوا بغير زانة وعن سابق إصرار على بعض الحقائق الدامغة والواضحة وضوح الشمس، والتي تتعلق بالأساس ببدايات وخلفيات ومحفزات وشرارة هذا الحراك الذي انتشر سعيره في الجغرافية العربية، وأقصد هنا الدور الكبير والأساسي والمحوري الذي لعبه مخيم " أكديم إزيك " الاحتجاجي الشهير الذي نظمه الصحراويين احتجاجا على حرمانهم من حقوقهم السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية بتاريخ أكتوبر 2010، شرق مدينة العيونالمحتلة كبرى مدن الصحراء الغربية، والذي كانت نهايته مأساوية وكارثية بسبب الهجوم والتفكيك الدموي الذي وقعته السلطات والأجهزة المغربية ضد المخيم والنازحين العزل فيه. هذا المخيم الشهير، والذي حظي بمتابعة إعلامية دولية متميزة، مكنت العالم من التعرف على قوة إرادة الصحراويين ونضجهم وصبرهم ونجاعة تنظيمهم ومتانة استمراريتهم، مثلما مكنت الجميع من معاينة كيف استطاعوا وهم العزل ابتكار أسلوب فريد في الاحتجاج ضدا على السياسات الاستعمارية المغربية الرامية إلى تجويع وتفقير وتهميش وتجاهل وتجهيل الصحراويين والاستمرار في استنزاف خيراتهم الكثيرة وحرمانهم منها ومن بقية الحقوق المشروعة، وتفادوا من خلال ذلك الشكل عرقلة الحياة المدنية والنظام العام، فنزحوا واقتطعوا لأنفسهم مساحة في الخلاء، أين انتظموا في لوحة بيضاء قوامها الخيام، واستطاعوا التكيف مع قسوة الطبيعة وتغيرات المناخ ونجحوا في تنظيم أنفسهم خير تنظيم، حيث خلقوا لجانا وتنسيقيات تتولى التدبير والتسيير والتموين والأمن والتفاوض وكل ما يتعلق بشؤون مخيمهم الفريد. وطيلة الشهر هي عمر المفخرة عرف المخيم تظورات متلاحقة ومتسارعة حظيت بتغطية إعلامية عربية وعالمية، حيث فاقت شهرته وإشعاعه الحدود، ساعد في ذلك كونه كان الحدث الفريد من نوعه والحراك الشعبي الأبرز في جغرافية عربية تعاني الجمود والخنوع والهوان والروتين لكنها تختزن ضغطا واحتقانا في حاجة لشرارة فقط، وهو ما كان بالفعل، حيث ما إن تم تفكيك المخيم بتلك الطريقة الوحشية التي وقف العالم بأسره بفضل التغطية الإعلامية الواسعة على دمويتها وقسوتها، مثلما تابع بطولات وملاحم ومقاومة الصحراويين العزل لجحافل الجيش ومختلف القوات القمعية المغربية، حتى بدأت الشعوب العربية في استنساخ التجربة الصحراوية واستلهام روحها ومحاكاة فصولها وتفاصيلها، حيث عرفت عدة مدن مغربية وأردنية وتونسية محاولات جنينية لتشكيل مخيمات أو اعتصامات داخل أوخارج مداراتها الحضرية تم تفكيكها في المهد، ونجحت محاولات أخرى في مصر واليمن والبحرين، هذا عن الشكل، أما المضمون فإن مخيم أكديم إزيك بسلميته ورقي فكرته وقوة تنظيمه وعمق أهدافه ونجاعة رسائله ونزاهة مؤسسيه وبسالة وصمود قاطنيه شكل إلى حد كبير عنصر إلهام وقوة دفع لمختلف البقاع العربية الرازحة تحت نير الاستبداد والتسلط والترهيب، ولا غرو أننا رغم الحاسدين والمتنكرين والناكرين للجميل سنجد أن ما عاشته شعوب عربية ولا زالت تعيشه أخرى من حراك ليس سوى تقليد وتكرار للتجربة الصحراوية الفريدة من نوعها وشكلها " أكديم إزيك" رغم اختلاف الخلفيات والظروف والسياقات والأهداف، وسنحاول من خلال بعض الأمثلة القليلة التدليل على ذلك : التحرر من عقد الخوف والرهبة: لاشك أن العالم العربي كان طنجرة تغلي منذ زمن، وكأسا مفعما حتى الحافة، وبالونا قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، وكان احتقانه وضغطه في حاجة لشرارة ما، نقطة ما، مشرط ما، وهو ما حصل، حيث اثبت الصحراويين من خلال شكلهم الاحتجاجي تنظيما واستمرارية وصمودا أن إرادة الشعوب لا تقهر، وأن مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة أو صرخة، وأن قلاع الظلم لا تكسر بالاستكانة، وحصون الاستبداد لا تدك بالتمني، وأن الرضى بالواقع المفروض هو غرفة انتظار كبيرة وموحشة، وأن الأنظمة المتغطرسة والمحتلة أوهن من بيت العنكبوت تعيش على حافة الهاوية متكأة على عكاكيز سليمانية مهترأة في الصميم، ولعل ما عكسه واشاعه الصحراويين بشكلهم الفريد وصمودهم الأسطوري رغم القمع الدموي والتفكيك الوحشي هو التحرر من الانتظارية السلبية، من الخوف المزمن، من القبول بكل شئ، من نزعة الفردانية، من التردد والتلكؤ، من الاتكالية، من احتقار النفس والفعل الجمعي، من التشكيك في القدرات الذاتية، وفي المقابل اشاعوا بخطوتهم الجريئة هذه إعادة الاعتبار لقيم التكافل والتعاون، لروح المبادرة، للقوة الاقتراحية، للإرادة، للعزيمة، للصرخة، للآه، لما حك جلدك مثل ظفرك، للخطوة في مسيرة الألف ميل....إلخ. تحديد ميادين الفعل الشعبي: اختار الصحراويون منذ البداية منطقة أكديم إزيك التي تبعد عن مدينة العيون شرقا بحوالي عشرة كلمترات، وظلوا يتوافدون على هذا الميدان طيلة الشهر، حيث كانوا قد بدؤوا ببضع خيام وعشرات النازحين، لكن في النهاية وصل عددهم لحوالي خمسة وعشرين ألفا يقطنون ثمانية آلاف خيمة، وسمي الميدان ب " مخيم أكديم إزيك" الذي تحول إلى قبلة للصحراويين الرافضين لسياسات الأمر الواقع، وطيلة الشهر كان الميدان ساحة للتظاهرات والاعتصامات والمهرجانات الخطابية، نفس الأمر حاكاه الأشقاء العرب، حيث نجد شارع لحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية، وميدان التحرير في العاصمة المصرية، ودار اللؤلؤة في العاصمة البحيرينية، ودوار الكرة الأرضية في العاصمة العمانية، وساحة التغيير في العاصمة اليمنية، وساحة التحرير في العاصمة العراقية، وساحة المسكية في العاصمة السورية، وميدان جمال عبد الناصر في العاصمة الأردنية، وساحة البريد في العاصمة المغربية، كل هذه الميادين أصبحت رموزا للاستمرارية وإرادة الشعوب التي لا تقهر ومحجا كل جمعة أو يوميا أو دائما للعشرات من الثوار أو المنتفضين او المتظاهرين ومن ثم المئات ومن ثم الألاف حتى الملايين. انتهاج المقاومة اللاعنفية: شكل تشكيل مخيم أكديم إزيك في حد ذاته درسا في المقاومة المدنية، حيث نزح الصحراويين العزل خارج المدينة بعيدا عن الشوارع والأزقة والساحات العامة لاجتناب عرقلة السير العادي للحياة في المدينة، وطيلة الشهر استتب الامن والأمان كل جنبات المخيم في الليل والنهار المسير ذاتيا من قبل أناس بسطاء، ولم تسجل رغم الغياب الكلي للأجهزة الأمنية المغربية أية حادثة أو حتى مجرد تحرش أو سرقة أو شجار أو إعتداء كيف ما كان نوعه، ورغم حصار القوات المغربية واستفزازتها وإعتداءاتها المتكررة التي وصلت حدود القتل العمد حيث إغتالت الطفل "الناجم الكارحي" وأصابت مرافقيه بجروح خطيرة، إلا أن النازحين الصحراويين لم ينجروا إلى ذلك، وظلوا أوفياء لسلمية نضالهم ومدنية مقاومتهم بصدورهم العارية ولافتاتهم وشعاراتهم، حيث تحول قلب المخيم لميدان للفعل الشعبي المقاوم وساحة للالتقاء والتشاور والتظاهر. ولعل التونسيين والمصريين واليمنيين والأردنيين والبحرينيين والعراقيين والسوريين وغيرهم استوحوا هذا النهج الذي كان له الفضل في إنجاح رحلتي قطاري الثورة في تونس ومصر، لأنه له من القوة والصلابة والالتفاف الشعبي والتضامن العالمي ما لم يجده الثوار الليبيين في اسلحتهم الخفيفة والثقيلة وذلك ربما ما عطل مسيرتهم وفرمل ثورتهم. البلاطجة وأزلام الأنظمة: منذ تشكيل مخيم أكديم إزيك ظلت السلطات والأجهزة المغربية تزج بعناصرها العميلة وأزلامها المندسة داخل المخيم تارة لتغيير المعطى الديمغرافي وتارات أخرى لزرع البلبلة وبذور الشقاق أو لتمرير المخططات والمؤامرات أو لنسف الشكل نهائيا، حيث عانت قيادات المخيم من هؤلاء، لكنهم تفطنوا وعملوا على غربلة النازحين وإزالة كل الشوائب والدخلاء وشددوا إجراءات الدخول والالتحاق بالمخيم، وقطعوا الطريق أمامهم وفوتوا الفرص عليهم، لكن الدولة المغربية عادت أثناء تفكيكها الدموي وما تلى ذلك من أحداث بمدينة العيونالمحتلة للاستعانة بالمستوطنين المغاربة والبلاطجة والعملاء حيث شاركوا أجهزتها وقواتها في الفتك والتنكيل بالصحراويين ومداهمة منازلهم وهتك أعراضهم وسرقة ونهب ممتلكاتهم، نفس الاساليب انتهجتها الأنظمة التونسية والمصرية والأردنية من خلال الزج بالعملاء وأذناب الأنظمة التسلطية والأحزاب الحاكمة ولعل "موقعة الجمل" بميدان التحرير أشهر مثال على ذلك، ولا زالت نفس الأساليب تنتهجها الأنطمة الاستبدادية الليبية واليمنية والمغربية والسورية والبحرينية وغيرها. التضليل الإعلامي والفبركة الدعائية: منذ البداية عملت الدولة المغربية على التعتيم على مخيم أكديم إزيك وحين فاقت شهرته الحدود، عملت الآلة الدعائية المغربية على التقليل من أهمية الحدث عبر تبخيس عدد النازحين وتقزيم مطالبهم وتبسيط فعلهم الفريد، بعدها عملت نفس الآلة على نزع الطابع السياسي عن الشكل الاحتجاجي، وعلى أن تشكله واستمراره علامة وبرهان على الانفتاح والديمقراطية المغربية وحرية التعبير، وحين اشتد عليها الخناق وبدأت في التخطيط لنسف المخيم عملت مسبقا على تشويهه والتشكيك في قياداته والقائمين عليه، حيث ركزت في دعايتها على كونهم قلة وشرذمة والبقية محتجزين ومغرر بهم، وروجت لتبعية هذه القلة لجهات خارجية وتطبيقهم لأجندات أجنبية وغموض أهدافهم وضبابية مخططاتهم، وهم الذين أصبحوا لدى هذه السلطات مجرد مجرمين وأصحاب سوابق ينفذون تعليمات جهات معادية، وحين التفكيك الدموي بدأت تلك الدعاية في ترديد مفردات القواميس الدعائية من قبيل أسطوانة تسلل إرهابيين للمخيم و مقولة بصمات القاعدة، بل أنها ذهبت بعيدا في إطار فبركتها وتضليلها حيث حبكت ونسجت صورا ولقطات وأفلاما من درب خيال الأجهزة الاستخبارتية لتبرير قمعها وتعذيبها وقتلها واعتقالاتها بالجملة وتشويه سلمية ونبل المقاومة الصحراوية حيث رأينا كيف أقدمت السلطات المغربية عبر وسائطها الإعلامية التابعة على إظهار السكاكين والسيوف وقنينات الغاز كمحجوزات للتدليل والبرهنة على تسليح وعنف وبربرية النازحين، نفس الأمر أقدمت عليه مختلف الأنظمة العربية التي خرجت شعوبها لإسقاطها أو تغييرها أو إصلاحها، حيث تم الترويج لنفس الأسطوانات المشروخة والقواميس المحبوكة من قبيل التبعية لجهات خارجية معادية وتطبيق الأجندات الغامضة، والعلاقات مع القاعدة والشبكات الإرهابية والمخططات الصهيونية و الامبريالية والغربية، ورأينا كيف تم التركيز على ما زعم أنه أسلحة وكلاشينكوفات وقنابل تعود للمتظاهرين بمدينة تعز اليمنية وبالمسجد العامري بمدينة درعا السورية وغير ذلك. إنها أمثلة قليلة على استنساخ التجربة الصحراوية، حيث نرى كيف تستلهم الشعوب العربية روح وتفاصيل المقاومة الصحراوية التي تجلت بكشل كبير في حدث مخيم أكديم إزيك، وكيف تحاكي الأنظمة الديكتارتورية العربية القمعية نفس أساليب وطرق الدولة المغربية كأنجع مثال على القمع والتسلط والفبركة والتضليل. عيب على الباحثين والمهتمين أن يبخسوا علينا حقنا في السبق، عيب على الدكتور عزمي بشارة الذي كان الملهم والمحرض والمصحح والمرشد لكل الثورات عبر قناة "الجزيرة" أن يستثنينا وهو المفكر من قلمه ولسانه، عار على كل المهللين والمحللين أن ينزعوا عن أكديم إزيك شرف فض البكرة وشرف البدء والشرارة وعنصر الإلهام. كيف يعقل أن نجد كشعب صحراوي عربي الإعتراف "بأكديمنا" وفضله على الجميع في مفكر أمريكي بعيد عنا جميعا هو الدكتور المحترم " نعوم تشومسكي" الذي قالها جهارا نهارا ومن على قناة "الديمقراطية الآن" الأكثر صيتا وشهرة من كل القنوات العربية مجتمعة حين قال : ( كل ما يقع في العالم العربي من أحداث كانت بدايته وشرارته من مخيم أكديم إزيك بالصحراء الغربية)، قال الحقيقة التي يتنكر لها "عربنا" الذين لطالما رمونا من الذِكْر فكيف بالشكر، أولئك الذين لا يرضوا حتى أن نكون منهم، فكيف لهم أن يتقبلوا اننا كنا الملهمين والسباقين والاساتذة والعباقرة!، وكيف للشرق أن يلتفت قليلا نحو الغرب!، وكيف لشمس الشهامة أن تشرق من الصحراء الغربية !. ومهما يكن، فهنيئا للشعوب العربية بهذه الهبة وهذا الربيع، وهنيئا لنا بالبدء، وبقصب السبق، وهنيئا لشهدائنا البررة، الكارحي والداودي والكركار ودبمر الذين سقوا الربيع العربي بدمائهم الزكية وعبدوا طريق الثورات العربية بأجسادهم الطاهرة. ومهما كان حجم الجحود والتنكر... ومهما كانت الخواتم والنهايات... فيكفينا أنه : في البدء كان "أكديم إزيك"...!!