يسود لبس شائع عند العديد من نخبة المجتمع حينما يتم الحديث عن المجال الديني في علاقته بالسياسي، ومفاده أن أي خوض لمسألة التحرر ينبغي أن تكون مفصولة عن كل ما هو ديني، على اعتبار أن الديني يحيل إلى مفاهيم "الطاعة للأمير" و"الرعية" و"الفتنة" و"حرمة عصيان أولياء الأمور"، وهذه الترسانة من المفاهيم التراثية المستوحاة من فقه معين للدين ساد في عصور انتصار منطق الشوكة والغلبة على منطق التعاقد الطوعي والسلمي، ترخي بظلالها على كل محاولة للانفتاح على فهم تحرري وتعاقدي لهذا "الدين"، وبالتالي يلتبس الدين مع كل المعاني التي تحيلنا إلى الاستبداد والظلم والظلام، وتصبح الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة جزء أساسي من مسيرة تحرير المجتمع، وليس المقام هنا أن نستعرض دفوعاتنا على كل هذه الالتباسات المفهومية، لكن سنعمل على استدعاء هذا النقاش بما ينسجم مع موضوع الورقة، فهل فعلا الدين معادل للاستبداد والظلم؟ أم أن الدين ونظرا لقيمته السامية في المجتمع، يتم توظيف جزء كبير من فقه معين نابع منه لتبرير هذه المعاني الاستبدادية والظلامية؟ هل تحرير المجتمع هو سؤال في ضرورة فصل الدين عن السياسة ؟ أم هو سؤال في تحرير الدين من التوظيف السلطوي السياسوي؟ من كان يقود الثورات والإصلاحات والتصحيحات بالمغرب وعلى أي أساس كانت؟ تدلنا الوقائع التاريخية لبلادنا أن أية هبة تحريرية إلا واستندت على أساس ديني وقادتها نخبة من العلماء، على اعتبار أن العامل الديني كان عاملا حاسما في إنجاح أية معركة تبتغي إنهاء ظلم أو استبداد أو إرساء تعاقد جديد، وأن نخبة العلماء كانت تتمتع بقدر كبير من المصداقية والاستقلالية، ويظهر هذا جليا من خلال ارتكاز أي ثورة أو أية بداية نهوض لدولة جديدة على هذين العاملين في تكريس شرعيتها والتزامها بحماية الدين والثغور، بحيث كان ذلك هو الشرط الأساسي لنجاح نهوضها أو ثورتها، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على مدى تجدر الدين في الأمة، بحيث يستحيل لأي كان العمل على إلغائه من الحضور الفعلي في ساحة التوجيه والتشريع والسلوك. ونظرة سريعة إلى بعض نصوص البيعة وأحداث الخلافات التي كانت تشب بين بعض السلاطين و بعض المناطق في المغرب، و التي أدرجها ذ.أحمد الناصري في كتابه الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تؤكد ذلك التجدر العميق للعامل الديني الإسلامي في المجتمع، وأنه كان أساس أي مشروعية سلطانية جديدة، " ...فبايعوه أعزه الله على كتاب الله وسنة الرسول، وإقامة العدل الذي هو غاية المأمول. بيعة التزمتها القلوب والألسنة، وسعت إليها الأقدام والرؤوس خاضعة مذعنة، لا يخرجون له من طاعة، ولا ينحرفون عن مهيع الجماعة، أشهدوا على أنفسهم عالم الطويات، المطلع على جميع الخفيات، قائلين إننا بايعناك وقلدناك لتسير فينا بالعدل والرفق، والوفاء والصدق، وتحكم بيننا بالحق كما قال تعالى في محكم وحيه: ( يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) ص 26 وقال تعالى وقوله الحق: (ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما) الفتح 10 وقال تعالى : ( ولاتكن للخائنين خصيما) النساء 105 ... "1 ، وتؤكده كذلك حتى دوافع بعض الثورات أو العصيان الجماعي، أو احتجاجات بعض المناطق، والتي كانت ترتكز بالأساس على الدين (إقامة العدل الذي هو غاية المأمول)، حيث كان يقودها العلماء إشارة على تجدر هذا البعد الديني، فهاهم أهل فاس مثلا يقررون خلع السلطان المولى عبد الله بن إسماعيل لما " قدم عليه أعيان الديوان وعمال القبائل ووفود الحواضر والبوادي، ففرق المال ولم يحرم أحدا سوى أهل فاس، فإنه لم يعطهم شيئا، ثم حضر عيد الفطر فقدمت وفود الأمصار ليشهدوا العيد مع السلطان على العادة، وقدم وفد فاس لهذا الغرض وحضروا صلاة العيد مع السلطان بالمصلى، ولما قدم الناس هداياهم بعد رجوع السلطان إلى منزله قدم أهل فاس هديتهم على العادة فأعطى الناس وحرمهم ثانيا..." ثم لما قال لهم: " يا أهل فاس، كاتبوا إخوانكم يسلموا إلينا البساتين والقصبات فإنها للمخزن ومن وظائفه فإن أبوا فإني آتيهم وأهدم عليهم تلك القرية" فكان أن قرروا خلعه قائلين : " إنا لم نبايعه على هذا الذي يعاملنا به" 2، وهاهم كذلك أهل فاس يقومون على عاملهم الصفار في عهد المولى سليمان بن محمد لأنه : " اشتغل بما لا يرضي الله من الفسق، ومد اليد إلى الحريم"3 ، ولعل أهم مثال نستدل به في هذا الباب البيعة المشروطة (أو البيعة الحفيظية) التي تمت بين ممثلي أهل فاس وبين السلطان عبد الحفيظ، والتي ارتكزت أساسا على شروط نجملها في المقطع التالي من نص البيعة: " أن يعمل وسعه في استرجاع الجهات المأخوذة من الحدود المغربية." " أن يباشر إخراج الجنس المحتل من المدينتين اللتين احتل بهما، ويزين صحيفته الطاهرة بحسنة استخلاصهما." " أن يستخير الله في تطهير رعيته من دنس الحمايات. والتنزيه من إتباع إشارة الأجانب في أمور الأمة، لمحاشاة همته العالية عن كل ما يخل بالحرمة." " إن دعت الضرورة إلى اتحاد أو تعاضد، فليكن مع إخواننا المسلمين: كآل عثمان، وأمثالهم من بقية المماليك الإسلامية المستقلة." " إذا عرض ما يوجب مفاوضة الأجانب في أمور سلمية أو تجارية: فلا يبرم أمر منها إلا بعد الصدع به للأمة، ...حتى يقع الرضى منها بما لا يقدح في دينها ولا في عوائدها، ولا في استقلال سلطانها." " أن يوجه-أيده الله- وجهته الشريفة لاتخاذ وسائل الاستعداد. للمدافعة عن البلاد والعباد، لأنها أهم ما تصرف فيه الذخائر و الجبايات، وأوجب ما يقدم في البدايات والنهايات." "وأن يقر بفضله العيون والنفوس برفع ضرر المكوس" "ويحقق رجاء خدامه وكافة رعاياه: بالذب عن حرماتهم ودمائهم وأموالهم وأعراضهم، وصيانة دينهم وحياطة حقوقهم." وتجديد معالم الإسلام وشعائره: بزيادة نشر العلم وتقويم الوظائف والمساجد، وإجراء الأحباس على عملها القديم."...1 ولقد عرف المغرب عدة بيعات مشروطة قبل البيعة الحفيظية وبعدها بدءا من بيعة فاس للسلطان أبي الربيع، ثم بيعة نفس المدينة وما إليها للسلطان ابراهيم بن اليزيد، ثم بيعة فاس وتطوان وما إليهما للسلطان سعيد بن اليزيد ثم بيعة فاس للسلطان الحسن الأول...2 يظهر من خلال هذه التذكرة التاريخية الخلاصات التالية: أن الدين كان أساسا حاضرا في أي حركة سواء كانت تصحيحية أو ثورية أو إصلاحية، أن ما يجسد أهمية العامل الديني هو مكانة العلماء ذوي المصداقية الشعبية في بعث هذه الحركة، أن دور هؤلاء العلماء السياسي تمثل في اتجاهات ثلاث: أولا تصحيح عقد البيعة حتى تكون بشروط لصالح الأمة ومصالحها الحيوية سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو الوحدوية، ثانيا التعبئة الشاملة للأمة حتى تظل مستعدة ويقظة، ثالثا مراقبة قرارات الأمراء ومحاسبتهم على أي إخلال بشروط البيعة وبالتالي على أي انحراف في سياساتهم عن مصالح الأمة العليا وخيراتها ووحدتها، أن الدين كان مقترنا دائما بالتحرر من الاستبداد والاحتلال والظلم، وعلى هذا الأساس كانت السلطة للأمة عنوانا عاما تتم على أساسه التعاقدات بين الحاكم/الإمام والمحكوم، ولذلك اعتبر القرطبي الإمامة وكالة من الأمة حين قال " فإن الإمام هو وكيل الأمة ونائب عنها "3، ذلك لأنها على حد تعبير الماوردي: " عقد مراضاة واختيار ولا يدخله إكراه ولا إجبار"2 كيف يمكن استلهام هذه الخلاصات في نقاشنا الراهن عن المؤسسة الملكية وضرورة دسترة صلاحياتها واختصاصاتها في علاقتها بتدبير الشأن الديني؟ استدعينا هذه الخلاصات لكي نؤكد على الإضاءات التالية فيما يخص نقاش مسألة دسترة صلاحيات الملك: أن مكانة شخصية الملك الرمزية والمصونة لا تبرر أية صفة للقداسة على الأفعال والقرارات التي تصدر منها؛ أن التنصيص الدستوري على صلاحياتها لا ينبغي أن يلغي أو ينفي الدور الواسع للأمة في التقرير والتنفيذ والتقويم؛ أن هذه الصلاحيات ينبغي في تقديرنا أن تقتصر إجمالا على ما يحفظ وحدة الأمة، وحماية حوزة البلاد، وحفظ وحراسة الدين بتعاون مع مؤسسة العلماء؛ أن المؤسسة الملكية في إدارتها للشأن الديني عليها أن تحاط بمؤسسة للعلماء منصوص عليها دستوريا ومحددة قانونا طريقة تنظيمها وتشكيلها؛ أن هذه المؤسسة -مؤسسة العلماء- ينبغي أن يتم التنصيص الدستوري على استقلالية سلطتها العلمية والإفتائية، مع ضمان هذه الاستقلالية في تشكيلتها والقانون المنظم لها. و أن يكون لها بموجب الدستور الاختصاصات التالية: بيان الأحكام الشرعية للأمة؛ التجديد الديني والعمل على إصدار الفتاوى المرتبطة بنوازل العصر؛ التعبئة العامة للأمة في حالة تهديد مصالحها أو في حالة أية محاولات للاحتلال أو للهيمنة على مقدراتها؛ بيان النصيحة والتقويم اللازمين للملك؛ النظر في مدى عدم مخالفة القوانين لمحكمات الشريعة؛ العمل على استنهاض الهمم والتحريض على الفضيلة وبث قيم العفة والوقوف في وجه كل محاولات المسخ لقيم المجتمع وكل محاولات اختراق أو ضرب اللحمة المذهبية والاعتقادية والدينية للمجتمع المغربي، دعوة وتبليغا وبيانا؛ إن هذه الإضاءات لهي في تقديرينا بمثابة المرتكزات الأساسية لدسترة ودمقرطة الحقل الديني، حتى نضمن من خلال ذلك القطع مع التوظيف المقيت للدين لأغراض سلطوية واستبدادية، وفي هذا تحرير للدين من كل محاولات احتكاره سلطويا، إن غايتنا من ذلك أن نعيد للدين قيمته التحريرية حتى يكون مكلفا للاستبداد لا مبررا له.