في الوقت الذي يحتفل فيه العالم قاطبة بالذكرى السادسة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تعيش منطقة المغرب الكبير عند مفترق طرق ملتبس وغامض . فجميع دول هذه المنطقة المغرب والجزائروتونس وليبيا وموريطانيا تقدم رواياتها المتناقضة بشكل صارخ مع صورة الواقع عن حقوق الإنسان داخل جغرافياتها. وفي حين تغرق بعض المناطق في القمع والقهر والتسلط ، تظهر مناطق أخرى بصيصا من الأمل، وهو ما يسلط الضوء على الديناميات المعقدة للسلطات والحريات المدنية والتعايش المجتمعي . ففي الجزائر، يستمر تدهور المشهد الحقوقي الدراماتيكي القديم . فالوطن الذي كان يُشاد قبل عقود بتاريخه الغني في المقاومة والحيوية النضالية يواجه في الوقت الراهن أجواء خانقة من الاستبداد الديكتاتوري حيث شكل اعتقال الروائي البارز بوعلام صنصال مؤخرا تذكيراً قاتماً بقبضة الدولة الحديدية على وسائل التعبير الفكري والإبداعي. وباحتجازه دون محاكمة، ينضم صنصال إلى قائمة متفاقمة من المفكرين والفنانين والناشطين الذين تم إسكاتهم في ظل نظام عسكري يبدو أنه لا ولن يتسامح مع خرجات ومظاهرات المعارضة. إن الوضع القهري لا يقتصر على الأشخاص فقط ؛ بل إنه مجتمعي شامل لا يستثني أحدا من كل الفئات . وكثيراً ما يتم استغلال القوانين المفبركة لحماية الدولة والنظام ضد المعارضين. وغالبا ما يتم الرد على الاحتجاجات السلمية، والممارسات الصحفية، والتعبيرات الإبداعية الفنية بالانتقام في حينه . وغالباً ما يبدو القضاء، الذي قد يبدو مستقلاً ظاهرياً، متواطئاً في هذه الحملات القمعية، مما يؤدي إلى تراجع ثقة المجتمع في العدالة المؤسسية. ولكن هذا القمع لم يقابل بالصمت العارم إذ لا تزال الحركات السرية وحملات وسائل التواصل الاجتماعي وجهود دعم المنظمات الحقوقية الدولية مستمرة، مما يؤكد على قدرة أولئك الذين يواصلون النضال من أجل حرية التعبير وسيادة القانون على الصمود. وجنوب الجزائر وتحديدا في مخيمات تندوف، يتسم وضع حقوق الإنسان بالتدهور الشديد، ومازال يتفاقم بسبب خمسة عقود من الاحتجاز التعسفي والتعقيد الجيوسياسي. لقد أصبحت هذه المخيمات، التي تديرها جبهة البوليساريو برعاية السلطات الجزائرية، رمزاً لمعاناة مزمنة وطويلة الأمد. وترسم التقارير القاتمة عن الاحتجاز التعسفي، وتكبيل حرية التنقل، وتقييد الولوج إلى الحقوق الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية، صورة قاتمة عن واقع الجمهورية الوهمية. لقد غض المجتمع الدولي الطرف إلى حد كبير وغير معقول عن محنة الشعب الصحراوي الذي يحتجزه عساكر الجزائر في هذه المخيمات البئيسة منذ نصف قرن . النساء والأطفال والشيوخ هم من بين الفئات الأكثر ضعفاً وهشاشة ، وغالباً ما يتحملون وطأة الانتهاكات الممنهجة للحقوق المتعارف عليها عالميا . وعلى الرغم من بعض الجهود التي تبذلها منظمات حقوق الإنسان الدولية لإلقاء الضوء على تلك الظروف المأساوية ، فإن التغيير الملموس لا يزال بعيد المنال، حيث أصبحت المخيمات عالقة في المستنقع الجيوسياسي الأوسع نطاقاً المتمثل في الصراع المفتعل في الصحراء. وقد أدت التطورات الأخيرة إلى تكثيف التدقيق في إدارة جبهة البوليساريو للمخيمات. ففي سبتمبر 2024، تحدث نشطاء حقوق الإنسان الصحراويون أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، حيث قدموا تفاصيل عن الانتهاكات الممنهجة والمروعة التي تحدث هناك . واتهم النشطاء قيادة كلا من الجزائر والبوليساريو بالاعتقالات التعسفية والقيود القاسية على حرية التنقل والقمع الممنهج للمعارضة. وأشاروا إلى ثقافة الإفلات من العقاب التي تشجع الجناة بينما ترغم الضحايا على الإسكات والتكتم . ودعا هؤلاء النشطاء المجتمع الدولي إلى محاسبة البوليساريو على أفعالها، بحجة أن سكان المخيمات يستحقون نفس حماية حقوق الإنسان مثل أي مجتمع محتجز ولاجئ في جميع أنحاء العالم. أما في تونس، التي كانت يشاد بها كرائدة لثورات التحرر العربية وباعتبارها نموذجا لنجاح الديمقراطية الوحيدة في الربيع العربي، تجد نفسها الآن تندحر إلى براثن الاستبداد. ففي عهد الرئيس قيس سعيد الحالي ، تم تقويض المؤسسات الديمقراطية، وقُوبِلت المعارضة السياسية بقمع متزايد. وقد أدى فرض الرئيس لسلطته إلى حل الهياكل البرلمانية وتهميش أصوات المعارضة، مما ترك المجتمع المدني في وضع محفوف بالمخاطر. ويزعم المنتقدون أن أسلوب الحكم الذي ينتهجه قيس سعيد يفتقر إلى الرؤية السياسية الرصينة اللازمة للتعامل مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية . فبدلاً من تعزيز الحوار واللجوء لسبيل الإجماع، اعتمدت إدارته على تكتيكات قاسية، بما في ذلك اعتقال المعارضين السياسيين وتقييد الحريات الإعلامية. ولم يقم هذا التحول الاستبدادي بخنق التقدم الديمقراطي فحسب، بل أدى أيضًا إلى تنفير شعب ثائر كان قد وضع آماله ذات يوم في وعود ثورة الياسمين المجيدة . ورغم هذه التحديات، يظل المجتمع المدني في تونس قوة لا يستهان بها. ويواصل الناشطون والمحامون والصحفيون مقاومة تقزيم الحقوق المدنية، مطالبين بالمساءلة والالتزام بالمبادئ الديمقراطية. وعلى النقيض من جيرانها، تقدم المغرب صورة أكثر تفاؤلا لمسلسل حقوق الإنسان. ورغم استمرار التحديات، وخاصة في مجال حرية الصحافة، فهناك براهين على التقدم الذي يميز المملكة في منطقة المغرب الكبير. لقد حظي إطلاق سراح ثلاثة صحفيين بارزين – توفيق بوعشرين، وسليمان الريسوني، وعمر الراضي – بإشادة واسعة النطاق باعتباره خطوة إيجابية نحو مزيد من الانفراج الحقوقي . وقد حظيت هذه الخطوة، التي تكرم بها العفو الملكي، بموافقة منظمات حقوق الإنسان الدولية على رأسها "مراسلون بلا حدود"، كما احتفى بها المجتمع المدني المغربي. وهي تعكس استعداد الدولة للتعامل مع كافة أشكال الملفات العالقة والمعارضات وتنفيذ الإصلاحات، وإن كان بشكل بطيء ومتردد في بعض الأحيان. ومع ذلك، لا يزال المشهد الإعلامي بالخصوص في المغرب محفوفاً ببعض التوترات. وكثيراً ما يكون الخط الفاصل بين الصحافة المشروعة والنقد المعارض على منصات وسائل التواصل الاجتماعي غير واضح، مما يؤدي إلى نزاعات قانونية تسلط الضوء على الحاجة إلى تعريفات أكثر وضوحاً وقوانين تشريعية محدثة. وفي بعض الأحيان، تتم مقاضاة الصحفيين بموجب القوانين الجنائية بدلاً من قانون الصحافة المتخصص. وبعيداً عن الحريات الإعلامية، أحرز المغرب تقدماً كبيراً في مجالات أخرى مثل حقوق المرأة والتنمية الاجتماعية، بفضل دينامية المجتمع المدني النسائي النشط. ومع ذلك، تظل قضايا مثل التفاوتات الاقتصادية بين الجهات تشكل عقبات كبيرة. إن مسار حقوق الإنسان في المغرب العربي الكبير يؤكد على الحاجة إلى منهجيات متعددة الأوجه للإصلاح. ففي حين تكافح الجزائروتونس ضد الاستبداد المتجذر، يثبت المغرب أن التقدم، وإن كان تدريجيًا، ممكن. وفي الوقت نفسه، تتطلب مخيمات تندوف اهتمامًا دوليًا عاجلاً لمعالجة الأزمة الإنسانية التي طال أمدها والتسريع بالضغط الدولي على كل من الجزائر وصنيعتها جبهة البوليساريو للقبول بمخطط الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب منذ 2007 . إن التعاون الإقليمي من شأنه أن يعمل كمحفز للتغيير، وتعزيز الحوار والاستراتيجيات المشتركة للدفاع عن حقوق الإنسان. كما أن للمنظمات الدولية دوراً تلعبه، ليس فقط في محاسبة الحكومات، بل وأيضاً في دعم الحركات الشعبية ومبادرات المجتمع المدني. في نهاية المطاف، تشكل ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان السادسة والسبعين لهذا العام فرصة للتأمل في التقدم المحرز والتحديات التي لا تزال قائمة. وبالنسبة لمنطقة المغرب الكبير، تشكل هذه الذكرى دعوة إلى العمل لدعم مبادئ الكرامة والحرية والمساواة التي تشكل جوهر حركة حقوق الإنسان.