هل كان الزعيم التقدمي في تاريخ التجربة السياسية المغربية الحديثة ومعامعها، عبد الرحيم بوعبيد، انقلابياً، وفي علاقة بذلك: هل يمكن الاعتقاد بأنه ساند الجنرال محمد أوفقير في محاولته الانقلابية على الحسن الثاني في 16 غشت 1972؟ الموضوع مُحرج، رغم أن وقائعه متداولة، والحكايات التي نُسِجَت حوله كثيرة. أما التأويلات المغرضة فلم تكتف بالإدانة فقط، بل جعلت من التشهير المستفز مادة لإثارة بعض العواطف المرتبطة بتاريخ الانقلاب، والعلاقة مع المؤسّسة الملكية في المغرب في العموم. ويتعلق الأمر برسالة سبق للفقيه محمد البصري أن بعث بها إلى بوعبيد، وإلى آخرين من المناضلين المجايلين لهما في (الحركة الاتحادية)، وتضمّنت فقرة سردية أفزعت من كانوا يرون استحالة قيام علاقة، من أي نوع، بين بوعبيد والجنرال الذي كثيراً ما نعته الاتحاديون بالدموي المتورّط في اغتيال المهدي بن بركة و"مقاتلة" حركتهم بعنف وقسوة.
يقول الفقيه البصري، حسب نسخة منشورة، من تلك الرسالة: "في أوائل سنة 1972، أو أواخر 1971، قدم الأخ عبد الرحيم بوعبيد الأمين العام للاتحاد الاشتراكي ليعرض علينا نحن الثلاثة: عبد الرحمن اليوسفي، المهدي العلوي، وهو أحد قادة الاتحاد الاشتراكي سابقاً وأنا، مشروعاً لاستلام الحكم، اتفق عليه هو والجنرال محمد أوفقير وإدريس السلاوي، مستشار الملك الحسن الثاني، على أساس مساهمة الحزب بالسادة: عبد الرحيم بوعبيد، عبد الرحمن اليوسفي، حسن الأعرج، في تشكيل سلطة جديدة بعد إطاحة الحكم". فقرة تختزل كل شيء بوضوح: بوعبيد القائد المبادر بالعرض، وجوب استلام الحكم أو القيام بالانقلاب، الاتفاق مع الجنرال أوفقير، مساهمة الحزب في الانقلاب، إلخ. كذلك فإن الاختزال، حسب منطوق الرسالة، يورّط شخصيات سياسية في قضية جوهرية تتعلق بقلب نظام الحكم بالقوة، خلافاً للتصورات المعروفة عن عبد الرحيم بوعبيد، على الأقل، باعتباره مناضلاً وطنياً ديمقراطياً، واكب النضال السياسي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو في باريس، ثم شارك في المشاورات التي أدّت إلى منح الاستقلال، ثم تقلد مسؤولية حكومية عظمى في البدايات الأولى لهذا الاستقلال، ومن الجيل الذي كان إلى جانب الحسن الثاني في مختلف المعارك التي اختارها نظامه لاسترجاع الأقاليم الجنوبية (الصحراء)، رغم أنه انتقم منه وسجنه فترة عندما تمرد على إرادته المطلقة في الملف المتعلق بتنظيم الاستفتاء في الصحراء. أما الشخصيات الأخرى، فكان قربها من الملك، مع الولاء التام، معروفاً لا شك فيه. إلا أوفقير الذي كانت سمعته السيئة مدعاة إجماعٍ لِمَا اتسم به شخصُه من عنف، وهو من العسكريين القُساة الذين أوفوا في خدمة الجيش الفرنسي، ثم تقلد في الجيش المغربي أرفع الدرجات العسكرية. ورغم أنه كان على علم بالانقلاب العسكري الأول، إلا أن الحسن الثاني لم يُنَفِّذ فيه حكم الإعدام، رمياً بالرصاص في ما يقال، إلا عندما تورّط في الانقلاب الثاني (1972). ليس من المهم في هذا الموضوع، حسب تحليلي له، إلا: أولاً، مضمون الرسالة الذي يحتاج إلى تفسير لم يَهْتَدِ إلى صوابه من تكلم فيه، لأنه عُولِجَ في ضوء الاستغراب، أو من خلال توجيه النقد الحاد لما وُصِف بخيانة النضال التقدّمي السلمي، وربما أيضاً من زاوية الاستحالة، لأن كثيرين لم يصدقوا أن يكون الزعيم التقدمي متضامناً مع الجنرال الدموي، وأن يكون الانقلاب هو الهدف، في وقتٍ كان فيه الحزب، وهو كاتبه الأول (أمينه العام)، شرعياً رغم أنه اختار إيديولوجية "الاشتراكية العلمية" للنضال في سبيل الديمقراطية (الحقيقية) والإصلاح (الشامل) هدَفَيْن طالب بهما أزماناً. وثانياً، الموضوع المتعلق بالموقف السياسي، المبني على تبرير إيديولوجي، الذي يزكّي الانقلاب على حساب المراهنة التقدّمية على تحقيق التغيير من طريق النضال السلمي. وفي ارتباط معه، إذا شئنا استخدام القول الرامز، بالتعاون، أو بالتنسيق، مع الجنرال أوفقير، رغم المعرفة العميقة التي كانت لبوعبيد بتجاربه في القمع، وأساليبه في التصفية الجسدية لمختلف المعارضين. لقد مثل الفقيه البصري الامتداد الفعلي ل"الاختيار الثوري" الذي عَبَّرَ عنه المهدي بن بركة في تقريره لحزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" إبّان مؤتمره الاستثنائي في 1962. وفي أساس هذا التقرير ما أسماها "الأخطاء الثلاثة القاتلة" (القبول بالاستقلال الشكلي، القبول بالتسوية السياسية، سذاجة القوة الثورية…) التي أصبحت "أرضية" لمشروع الكفاح المسلح قصد إحداث التغيير المفكّر فيه منذ أواخر الستينيات من القرن الماضي. بيد أن عدة تجارب حاولت تجسيد ذلك، من خلال التنظيم السري (الاختيار الثوري)، والتدريب العسكري (معسكر "الزبداني" في سورية و"السواني" في ليبيا، "حَمَّام سيدي بوحجر" في غرب الجزائر)، والتوعية الإيديولوجية النابحة بضرورة الثورة على الاستبداد، فشلت كلها في إحداث التغيير المُسْتَهام، بل واَلفَجْعُ أنها تسببت في مآسٍ، وأجهضت تطلعات، وغيَّبت مناضلين، ثم انتهت، بعد الأحداث المسلحة في الأطلس المتوسط في مارس 1973، إلى الفشل التام. كان "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" قد انقسم على نفسه، وخرج "الاتحاد الاشتراكي" برؤية جديدة، ولكنها كانت مؤقتة، وفق اختيار متطوّر يؤمن بالنضال الديمقراطي الشرعي من دون سواه. ولكن ذلك لم يتم، بصورة واضحة، إلا بعد أنْ أُحْبِطَت المراهنة على الانقلاب الثاني (1972) على النحو الذي فكرت فيه وَخَطَّطت له قيادة الحزب في الخارج (اليوسفي والفقيه البصري) وفي الداخل (بوعبيد). وآية ذلك أن مفهوم الانقلاب العسكري، لا العمل الديمقراطي، كان متوافقاً، في اعتقادي، مع مشاريع التفكير القومي الوحدوي الذي طُبِّقَ في المشرق، مع مطالع الخمسينيات، بإسقاط النظامين الملكيين في مصر (1952) والعراق (1958)، وفي المغارب بسقوط الحسينيين (1957) في تونس، والسنوسيين على يد معمر القذافي وصحبه (1969) في ليبيا. وهذا أيضاً إلى جانب ما حاولته المقاومة الفلسطينية مع الملكية الأردنية في عام 1971 بالتبرير الفلسطيني الحالم القائل إن تحرير فلسطين يمر عبر الأردن، وهكذا. فالتخطيط العسكري لانقلاب 16 أغسطس، و"الاتفاق" المبدئي الذي قرّره الساسة المعارضون من قادة الحزب لإسقاط الملكية، ومن بينهم بالأساس عبد الرحيم بوعبيد، تَمَّ، كما أحب الكشف عن ذلك بوضوح، في مرحلة ملتبسة طابعها النهوض في الاتجاه العام، ولكن الفكر القومي العروبي الوحدوي كان قد تلقى، في أهدافه الخاصة المرتبطة بالدول التي بَشَّرت به، وطبقت بعض فصوله في أقطار عربية أخرى (إسقاط الإمامة في اليمن في 1962، والانقلاب الليبي في 1969، وغيرهما)، ضربات قاصمة أطبقت عليها بالهزيمة الشاملة. والواقع أن فشل الانقلاب العسكري هو الذي أوجب أطروحة النضال السياسي الشرعي. المهم في هذا أننا بدأنا نلحظ، منذ مطالع السبعينيات، ميلاد فكر يساري ذي إيديولوجية تعبوية تمتدح الأهمية النظرية والعملية لما للماركسية اللينينية من أدوار عجزت عن تحقيقها (تحريفية) الأحزاب الشيوعية في ما يرجع للمهام المتعلقة بالثورة الوطنية الديموقراطية. من هنا، جاء التركيز، في تجاربِ بلدان عربية مختلفة، على ضرورة البناء التنظيمي الطليعي المُخَلِّص، وتوعية الجماهير صاحبة المصلحة في التغيير، والتحالف بين الطبقات الأساسية في المجتمع، وصولاً إلى الثورة من خلال حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، التي يجب أن تؤسّس الجمهورية الديمقراطية الشعبية، وهكذا. يمكن النظر إلى المغرب، بعدَ سنواتِ الصراع السياسي الذي أعقب الاستقلال إلى تاريخ إعلان حالة الاستثناء في سنة 1965، على أنه الحالة الخصوصية الفريدة التي لم تستجب لشعارات النهوض القومي لاستقوائها (الأسطوري) بعوامل تاريخية ودينية مختلفة. ثم كانت سياساته العامة، على الصعيد الخارجي، أكثر جرأة في التحالف الوثيق مع فرنسا والغرب، والخضوع المُحَتَّم لمشترطات السياسة الأميركية في المنطقة المتوسطية، وبصورة خاصة إعلان الحرب على النظام الجزائري في 1963 الذي كان حلقة جديدة مدعومة من "الناصرية" المتوثبة في "الغرب العربي". ولم يكن الوضع في الداخل، على المستوى السياسي، ملائماً على أي نحو، فقد أسْقَطَ النظام الحاكم مطالبَ العمل بالديمقراطية في 1962، واستبد بسلطته المطلقة، ولم يكن العمل الحزبي، رغم إقرار التعددية، ممكناً، مثلما أُبْطِل العمل بقوانين الحريات العامة المسنونة في 1958، واغتيال المهدي بن بركة، وسوى ذلك، إلخ. معنى هذا أن شروط التغيير الوطني كانت مجتمعة متوافرة، وأن المعارضة، الإصلاحية والجذرية، في الداخل والخارج، بدعم مباشر وغير مباشر من الدول القومية، أصبحت جاهزة لكل فعل، انسجاماً مع التطلعات المعارضة التي كانت تناضل ضد الحكم المطلق والاستبداد السياسي والتفقير المتعاظم لعامة الشعب، إلخ. يقول الفقيه محمد البصري، في رسالته المؤكدة، إن بوعبيد هو الذي عَرَضَ على ثَلاَثَتِهِم: اليوسفي، المهدي العلوي، والبصري نفسه، مشروعاً اتَّفَقَ عليه هو والجنرال أوفقير لاستلام الحكم إلخ. وهذا مُجْمَلُهُ أنَّ الموقف شُيِّدَ على: الإصلاح (السلمي)، والثورة (العمل المسلح)، والانقلاب (سلاح الجو)، أي ملخصُ الرسالة وَسِرُّهَا الذي بُنِيَ على تفاهم "تلقائي" و"طبيعي" بين الثالوث المذكور لإسقاط الملَكية التي لم تعد الأطراف المعارضة تقبل بها. معنى هذا أنّ البديل الانقلابي، من خلال الإيديولوجية التعبوية المُبَشِّرَة بالتغيير الحاسم، على غرار ما كان قد قام به هواري بومدين في الجزائر عام 1965، هو "الحل الأمثل" أو "النموذج" أو "الخيار" الذي يفسّر ويحكم حصرياً على ما عداه من أشكال وصيغ العمل: الإصلاح مع العجز، الثورة بالانقلاب العسكري، الفشل بالانتصار الإرادي المحتمل. لم يكن إخفاق هذا الخيار وارداً في التصوّر، بينما كانت الهزيمة متفشية في البنية المجتمعية وفي العقل البشري. عن موقع "العربي الجديد"