هذه الرواية تدخل ضمن ما يعرف بأدب السجون. وهو نمط ادبي ينتجه الكاتب حين يكون مسلوب الحرية في سجن أو ما شابهه كما يمكن أن يكون إنتاجا أدبيا يدور حول السجن من قبيل مذكرات أو خيال…ومن أبرز رواد هذا النمط كل من الروماني بوثيوس والإيطالي ماركو بولو والايطالي دانتي اليغيري. ومن الكتاب العرب برز كل من صنع الله ابراهيم وعبد الرحمن منيف ومحمد الماغوط. والنص الذي أتناول اليوم عبارة عن ذكريات سجين تغطي الفترة الممتدة ما بين سنة.1976 وبداية التسعينيات. قضاها مسلوب الإرادة في زنزانة متنقلا ما بين درب مولاي الشريف واڴدز وقلعة مڴونة. تحكي الرواية قصة طالب جامعي صحراوي في مقتبل العمر يدرس بكلية الطب بالرباط خلال النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي وجد نفسه في السجن بسبب هويته الصحراوية خاصة بعد الحملة الشنعاء التي شنت على الصحراويين بسبب قضية لصحراء. وهكذا أخذ بطل الرواية بجريرة كونه ابن مدينة ڴلميم. في ضيافة معتقل درب مولاي الشريف رحلة الشاب الى السجن بدأت من شقته بالرباط ذات ليلة من ليالي مارس 1976 بعيد قيام الجمهورية الصحراوية حيث تم اقتياده ليلتها الى معتقل درب مولاي الشريف بالدارالبيضاء حيث قضى به ثمانية أشهر؛ وهو معتقل سري سابق سيئ السمعة بمدينة الدارالبيضاء كان يُستعمل خلال سنوات الرصاص. لم يتوفق الكاتب في تناول فصول روايته الثرية إلا بعد أن أصبح الخوض فيما سمي بسنوات الرصاص أمر مطلوبا في إطار حفظ الذاكرة. هذه الرواية تتوزع فصولها في ثلاثة أجزاء على امتداد 158 صفحة. بعد أول ليلة طويلة وشاقة قضاها في الاستنطاق وإثبات الهوية في زنزانة مفوضية الشرطة بالرباط تم الترحيل إلى الدارالبيضاء. هنا كانت نقمة أحد عمداء الشرطة بادية خصوصا حين يسأله من أي مدينة أتى؟ فيجيب الطالب: من ڴليميم. فيرد العميد: «سنحفر لكم حفرة ونردمكم أحياء انتم أبناء ڴلميم وطان طان» (1) . بطبيعة الحال السبب واضح إذا علمنا أن أغلب مؤسسي البوليساريو ينحدرون من هذين المدينتين. وأن طانطان هي المدينة حيث انطلقت المظاهرة الأولى للولي مصطفى السيد ورفاقه والتي شكلت نواة تأسيس البوليساريو. قضى الكاتب أول يوم له في الدارالبيضاء وعانى الأمرين من الرفس والركل والإحتقار والسؤال عن رفاقه ومنهم من التحق بالجبهة. معاناة من طلوع الشمس حتى وقت متأخر من الليل. لا يفوت الكاتب فرصة الحديث عن طانطان وموسمها السنوي الذي يقام كل صيف. المدينة التي اشتهرت وقتها بوفرة السلع المستوردة من جزر الكناري îles Canaries من سجائر وشاي ومذاييع وعطور وأغطية… كانت تلك المظاهرة الكبرى بطان طان بهدف طرد المستعمر الإسباني لكنها جوبهت بعصى السلطة وفرار أصحاب الولي إلى الجزائر. المعاناة اليومية وما يسميها الكاتب «لعبة الطائرة» هو برنامجه اليومي. ولعبة الطائرة هذه هي التعليق في الهواء بين عمودين يصل بينهما قضيب بعد تكبيل اليدين والرجلين. والتي أصبحت تتكرر بشكل اعتيادي كل يوم. إضافة إلى العصابة التي يجب أن تبقى مشدودة على العينين بإحكام والوقوف على ساق واحدة ناهيك عن كم هائل من اللطم والركل والصفع وكثرة الاستنطاق. ساءت صحة الكاتب ونقل إلى مستشفى ابن سينا، حيث كان يتلقى الدروس والتداريب، لتلقي العلاج بعدما أصابه من الآم التعذيب. ثم ينتقل الكاتب ليتحدث في فصل يسميه الصاعقة عما تولد لديه من وضع نفسي مأزوم بعد تلقيه،في المستشفى، خبر قتل الولي زعيم البوليساريو في هجوم نواكشوط بموريتانيا يونيو من سنة 1976 ، مع أحاسيس السجانة بانفراج الأزمة. في فصل آخر يعنونه بالعودة الى جهنم يتحدث عن العودة الى درب مولاي الشريف مع ما صاحب ذلك من القمع والتعذيب. تزامن ذلك مع التضييق على حركة إلى الأمام والزج بعدد من أعضاءها في ذات السجن. سجن أكدز والحنين إلى أيام درب مولاي الشريف تبدأ مرحلة ثانية في حياة الكاتب حين يتم نقله الى سجن أكدز مما جعله يأسف على مقامه الأول مما جعله يعنون فصلا كاملا ب: «رحم الله الدرب ما أجمله» (2) هنا انضم الى مجموعة صحراوية من 120 فرد رجالا ونساء وشباب هزمهم الهزال وتغير حالهم الى أسوء المراتب لدرجة أن بعضهم أصبح يمشي على أربع من شدة العجز والمرض. توفي منهم 14 فردا خلال أربعة أشهر فقط. يا للمأساة!! ثم ابتدأت مرحلة من العذاب الحقيقي أشد وطأة من سابقتها إصافة إلى رداءة الاكل والتعذيب من طرف من سماهم بالوحوش البشرية. وهكذا اتضح أنه بعد أن كان يعتقد أن درب مولاي الشريف بمثابة الدرك الأسفل من النار أضحى الآن يذكره بنوع من الحنين!. (3). العيش في هذا المعتقل هو عيش في السواد سواد الوجبات من شدة الصدأ وسواد الغرف وسواد الليل وسواد الأفق. حشر صاحبنا مع خمسة عشر فردا في غرفة تتسع لخمسة أفراد فقط لكن في جو عائلي على الأقل فيه درجة عالية من التلاحم والتأزر مع زمرة من المراهقين والشباب والمسنين مثقفون وأميون من البدو والحضر نموذج لمجتمع الصحراء منهم من هو في حالة عجز تام ومنهم من هو في شبه احتضار. تغيرت ملامح بعضهم من شدة الهزال والإحساس بالظلم. يقول أحدهم: «الله لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. نحن مظلومون»(4) . في هذه الغرفة بدأ يتأقلم مع الأوساخ وانعدام الماء والهواء والازدحام وكثرة الجرذان والقمل. استطاعت المجموعة التغلب على أوقات الفراغ القاتل ووحشة المكان من خلال تنظيم سهرات مصغرة ومسابقات شعرية وثقافية وألعاب وتنظيم حصص تدريسية باستعمال جبس الجدران والسقف ثم بعد ذلك باستعمال الصابون. حتى كان يوم يقول الكاتب اقتحم المجموعة مستودعا من أجل الحصول على قلم فيما سماه الكاتب حادثة القلم. الشيء الذي تأتي لهم لأن رئيس فرقة العسس ترك باب المستودع عنوة غير محكم الإغلاق فكان ذلك ذريعة لهجوم الحراس على الزنزانة بذريعة سرقة قلم. وانهالت عليهم العصي والهراوات من كل حدب وصوب. كان ذلك سنة 1977. وهكذا تعرضت المجموعة لعقوبات يومية متتالية لمدة أربعة أشهر حتى وصلت أقصى درجات الانهيار الصحي والمعنوي وتوفي منهم خمسة أفراد (5). القتل الممنهج ينتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عما أسماه القتل الممنهج فالحالات المرضية سببها المباشر سوء التغذية والعلاج يكمن في فيتامين 12 أو حبات التمر الشيء الذي يعرفه السجانون جيدا لكن إدارة السجن تمتنع عن تقديم هذا العلاج ولا تتدخل إلا «عندما يحصد المرض ما يكفي من الضحايا! إنهم يتحكمون في وثيرة القتل الممنهج! ». (6) . عصر النهضة عصر النهضة هو الحقبة التي توافق زيارة القائد الإقليمي للقوات المساعدة بوارزازات أي مسؤول السجن أواخر 1978 بعد أن تجاوز عدد الشهداء العشرين. مر هذا المسؤول على الزنازن واستمع الى المساجين بإمعان واهتمام. لمس المساجين انفراجا بعد هذه الزيارة وتحسن للأوضاع (على مستوى الأكل والحرية الملابس…). ثم عاود المسؤول الزيارة ووعد بأن الوضع سيتحسن أكثر. وأصبح المعتقلين يسمون تلك المرحلة عصىر النهضة بعد أن فتح الحراس باب العمل للسجناء في البستنة والبناء والكنس وتنظيف المراحيض وملء الصهاريج بالماء… وإذا كان التواجد في السجن هو تهمة الانتماء للبوليساريو والهوية الصحراوية تولد آنذاك الاقتناع بأن المصير مرتبط أيما ارتباط بتطورات قضية الصحراء رغم أن عدد من السجناء يجهل كل شيء عن هذه القضية ولا يفقه في السياسة وليس له ذنب سوى كونه صحراوي! في هذه الفترة أبدى أيضا بعض الحراس تعاطفا وتضامنا مع السجناء وقاموا بتزويدهم ببعض الحاجيات التي تعتبر ذات أهمية رغم بساطتها كعلب الكبريت والأخبار وأطراف الجرائد بل وصلت المجازفة بأحد الحراس بأن زودهم بمذياع! نعم مذياع! بيد أن تغيير المسؤول عن السجن كان له تأثيرا عكسيا حيث انقلبت الأوضاع مرة أخرى. وتوفي ستة سجناء. وبعد زيارة المسؤول الجديد تحسنت الأوضاع ثانية. فتوفرت وسائل التعليم من سبورة وكتب وأقلام فبدأ التحصيل والتعلم بعد تعيين أساتذة من المساجين لهذا الأمر وأعدت برامج دراسية في مختلف المواد. هذه المرحلة استمرت عدة ور وأثمرت في مجال التعليم والتثقيف وازداد منسوب التحفيز بفضل دخول الشاي والمذياع الى حياتهم. عاصمة الورود سنة 1980 جاء الترحيل إلى قلعة مڴونة؛ عاصمة الورود، في سفر مشؤوم ويوم محموم حيث تم تكديس السجناء في حافلات كالبهائم تحت حرارة أضواء كاشفة بعد أن قضوا أربع سنوات بأكدز. سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن سئل من طرف صحافية فرنسية عن معتقل سري بقلعة مكونة فأجابها "قلعة مكونة هي مركز سياحي وعاصمة الورود" . ويبدو أن سبب الانتقال الفجائي كان بسبب رسالة تحرض على الفرار بعثها أحد السجناء وهو على الأرجح لبناني الأصل للصحراويين ! وما تلاها أمر لا يوصف من تفتيش وتعذيب بسجن مكونة الحديث البناء على مرتفع وأبوابه من حديد. المعاناة لا تتهي والآلام كثيرة وكلما كسبت « الجبهة » نقطة على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، ساءت الأحوال أكثر ويصبح الموت قاب قوسين أو أدنى. لا ينسى الكاتب دور النساء وتضحياتهن الجسام حيث أصبحن يعدن الخبز والطعام للمساجين وحتى للحراس. ساعة الفرج مع أواخر الثمانينات بدأت بوادر الانفراج وتحسن المأكل والظروف العامة وسمح بالزيارات ما بين الاجنحة وبات وقت الخلاص وشيكا ما لبث أن توج بإعلان رسمي عن الإفراج عن السجناء ،ومن أعلى سلطة في البلاد فاصبحوا أحرارا. بوح الجراح يختم الكاتب روايته في جزئها الثالث ببوح الجراح، وهو كما قال محاولات شعرية أنجزها أيام الاعتقال ويبرز من خلالها ما عاناه من الآم وقسوة وحرمان (8). ثم لائحة بأسماء شهداء أڴدز وقلعة مڴونة وعددهم 43. الرواية غنية بالأحداث التاريخية الوصف الدقيق لحياة السجناء وإصرارهم وخيباتهم. تسرد جزءا من معاناة السجناء الصحراويين نهاية السبعينيات، مات منهم من مات ومن بقى فالذكرى حاضرة. (1) _ ليال بلا قمر – رواية للدكتور عبد الرحمان خواجا، ص22 (2) نفسه صفحة.46. (3) نفسه صفحة 54 (4) نفسه صفحة 59 (5) نفسه صفحة 56 (6) نفسه صفحة 67 (7) من المقابلة التي بثت مباشرة على قناة TF1 في ربيع سنة 1993، للملك الحسن الثاني في قصره الملكي بالرباط، مع الصحفية آن سنكلير، برفقة طاقم برنامجها: "7/7″، بحضور وزراء حكومة جلالته، (8) _ ليال بلا قمر – رواية للدكتور عبد الرحمان خواجا، ص من 121 إلى 158. كاتب مهتم بالتراث الصحراوي