أشرت في مقال " نهضة ماليزيا قامت على مبدأ :"التقنية الغربية و الروح الإسلامية" إلى تحليل و تفكيك تجارب البلدان نهوض بعض البلدان الأسيوية، يدفعنا إلى التأكيد على أن العنصر الحاسم في عملية الصعود و الخروج من دائرة التخلف و الفقر و الحرمان، هو الاهتمام بالعنصر البشري والاستثمار فيه ما أمكن، عبر زيادة الإنفاق في التعليم وتوفير الخدمات بأسعار مناسبة للجميع، و توسيع خيارات الناس عبر توسيع دائرة الحقوق المدنية و السياسية و احترام كرامة الانسان.. * عازف ألحان من الجزائر: و هذا المعنى لخصه أحد القراء الافاضل "عازف ألحان من الجزائر" بقوله : " تايوان ، هونكونغ ، ماليزيا ، اندونيسيا، هي نتاج وثمرة من ثمار الاستثمار في الانسان، الذى بدوره من ثمار المنظومة التربوية والتعليمية المتبناة التي انتجت الانسان الإيجابي الغير اتكالي ...فى العالم العربي – و للأسف – لا يوجد مثال واحد يمكن اعتباره استنساخا ناجحا لتلك التجربة الجنوب شرق أسيوية ...ربما اعتقدنا بحكم بنية العقل العربي المبنى على الكلاسيكية في غالبية الامور على ان التطور والازدهار هو الانغماس في بناء ناطحات السحاب والابراج العالية وتحويل الصحارى الى مروج و انهار …هذا الاعتقاد الساذج هو من قاد امة العرب- ا لقلب النابض لرسالة الاسلام – الى هذا المأزق التاريخي و الحضاري نتيجة اهمالنا عنصر الانسان الفاعل والإيجابي ..المفكر الجزائري العظيم "مالك بن نبى" عليه رحمة الله ،هو من استرشدت ماليزياواندونيسيا بفكره في كيفية بناء الانسان وانتاج الحضارة. من المحزن انه والى عهد قريب كان من المحرمات ذكر "مالك بن نبى" على الالسن داخل بلدى الجزائري رغم ان الرجل عظيم وقامة من قامات الفكر الإسلامي الحديث، بل جوهرة نادرة في القرن الماضي، مع "عابد الجابري" و"المهدى المنجرة" ، و "محمد اركون" عليهم جميعا رحمة الله...فى الجزائر بلدي تمت عملية الحجر على "فكر بن نبي" و"اركون" لأسباب ايديولوجية والخاسر في المعادلة الحضارية هي الأمة واجيالها..." * بناء معوج: و هذا التعليق الرائع يلزمني بضرورة التوسع أكثر في الفكر النهضوي لمالك بن نبي ، و قد أصاب عين الصواب في تعليقه..فبلداننا العربية أهملت عنصر الإنسان و إهتمت ببناء الحجر و حتى هذا الحجر لا يصب في عملية التنمية و توسيع خيارات الناس ، و قد حاولت في مقال هدهد سليمان و و مقال المواطن المستقر، تناول بعض السلوكيات التي تطبع أخلاق بعض المغاربة خاصة و العرب عامة، من قبيل المادية المفرطة و الأنانية و الغوغائية و السطحية.. ولتوضيح ذلك، إعتمدت على كلمتين "الخبز و الخبر" الخلاف بين الكلمتين في النقط فقط، لكن بينهما بون شاسع، وذلك البون حاصل بين الطبيعة و الثقافة، فالمواطن العادي همه الجامع و الكبير و الأساسي، هو توفير الخبز و المعيش اليومي.. فالبعض منا يعتقد بتوفيره الأساسيات الأمن و الملبس و المأكل و المسكن، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها و هو ما يسميه بعض المغاربة بعبارة "وصل" ، فقد وصل بنظرهم إلى "سدرة المنتهى"...؟؟!! * رسالة الاستخلاف: هذا التصور هو تصور رجل الشارع و المواطن البسيط الذي لا يتطلع و لا يطمح إلى صناعة التغيير و إلى عمارة الأرض و إلى القيام برسالة الإستخلاف كما حث عليها الإسلام، و لا يطمح للحرية و التحرر و إقامة مجتمع العدل و المساواة و الكرامة، و العيش الكريم الذي يليق بالإنسان الذي كرمه خالقه ورازقه، فالإنسان هو محور الكون، و محور الخطاب القرآني، فهو المخاطب الرئيس في القرآن، والقرآن لأجله نزل، ولا عجب في ذلك، فهو أكرم مخلوق على الله تعالى، وقد فضله سبحانه على كثير ممن خلق، يقول سبحانه و تعالى في محكم كتابه: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (سورة الإسراء الاية 70)...فالإنسان يرتفع بالمعرفة لا بالخبز ، المجتمع يترقى بالخبر و تداول المعلومة ، لا بالخبز و البطنة ...و هو ما نبه إليه مالك بن نبي عندما ميز بين العوالم الثلاث : الأفكار و الأشياء و الأشخاص.. * مشكلات الحضارة رحلتنا مع فكر مالك بن نبي ستقودنا حتما بإتجاه قضايا فكرية معاصرة لها راهنيتها، و من هنا تكمن أهمية و فرادة هذا المفكر الإسلامي الموسوعي، و لن أركز في تحليلي لكتبه ، و إنما سأحاول قدر الإمكان عصرنة أفكاره و تصوراته …خاصة و أن جميع إنتاجه الفكري يصنف تحت عنوان كبير وهو "مشكلات الحضارة" حيث يقول: "كتبي كلها بعناوينها المختلفة أدرجت تحت عنوان عام هو مشكلات الحضارة؛ لأن المجتمع لا يعاني عندما تحلّ به أزمة سوى مشكلة واحدة؛ هي مشكلة حضارته في طور من أطوارها يتلاءم أو لا يتلاءم مع ضرورات الحياة، فعندما يتحقق شرط الانسجام تكون الحضارة مزدهرة، ويكون المجتمع بمثابة العقل السليم في الجسم السليم، وإن لم يتحقق هذا الانسجام تحل بالمجتمع في هذا الطور من أطوار حضارته كل المحن التي يعانيها تحت أسماء مختلفة، من استعمار، إلى جهل، إلى فقر... إلخ، بينما في الحقيقة كلها أعراض لمرض واحد هو فقدان الحضارة، إذاً فكتبي أردت أن أخصصها من ناحية لدراسة أعراض هذا المرض ومن ناحية أخرى إلى تقييد طرق علاجها". * مفهوم الحضارة: و ما أثار إهتمامي هو تصور مالك بن نبي لمفهوم الحضارة فهو يرى بأنها : " جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أعضائه الضمانات الاجتماعية اللازمة لتقدمه" أو بتعبير آخر: هي مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل أفراده المساعدات الضرورية للنمو كالمدرسة، المستشفى، المصنع، دار الثقافة… * شروط النهضة: وعليه يمكننا القول، إن من شروط النهضة الحضارية وتقدم البشرية، توفّر قدر من العوامل المادية، التي تتيح للفرد الراحة والأمان والحماية، وفي نفس الوقت العوامل المعنوية التي تتكون أساسا من الترابط المجتمعي والعامل الديني الذي يعتبر محركا أساسيا للتقدم والنمو، و انطلاقا من هاته الشروط يضع مالك بن نبي معادلة أساسية لبناء الحضارة وهي: الحضارة = الإنسان + التراب + الوقت * الإنسان: بنظر مالك بن نبي يعتبر الإنسان المحرك الأساسي للحضارة، وهو أساس المعادلة النهضوية وذلك مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (سورة الرعد:11)، فالتطوّر الحضاري يحتاج إلى إنسان جديد، أو يعمل على تجديد نفسه، فعلى الرغم من أن بناء إنسان فطري لم يدخل قط للحضارة ومحاولة كبح جماحه وتجديده عملية أسهل نوعا ما من بناء شخص خرج من حضارة أو انسلخ من حضارته ومبادئه وأخلاقه؛ فالأول مازال يتمتع بطاقة معينة ومازال في نقطة الصفر، ولكن الثاني انتهت طاقته ويحتاج لمجهود وعمل أكبر ليتجدّد ويعود لنقطة التجديد والدخول للحضارة لكن العملية ليست مستحيلة فقط تحتاج بعض الوقت والجهد. * التراب: اعتبر ابن نبي أن الإنسان هو الحلقة الأهم في المعادلة، واختصر في الحديث عن العنصريين الباقيين، فالتراب بالنسبة له هو مورد للثروة وقيمته من قيمة الحضارة أو الدولة بالتالي إذا تمّ استغلاله بشكل جيد تظهر أهميته وإن تمّ تجاهله أو غاب أثر الإنسان فيه فلا قيمة له.. فأهمية التراب تتوقف على مدى قدرة الإنسان على استغلال الثروات في بناء المجتمع. * الوقت: تناول مالك بن نبي المفهوم الوظيفي للزمن أي قياس نسبة الأعمال المنجزة في فترة زمنية معينة، ولكن يبقى للوقت أهمية كبيرة لهذا يجب العمل على استغلال الوقت في أداء مهامنا وواجباتنا، فالاستغلال الأمثل للوقت هو أهم شيء… * مركزية الفكرة الدينية: وإلى جانب هذه العناصر الثلاث يركز مالك بن نبي على أهمية ومحورية الجانب الديني، فعلى الرغم من أنه لم يتم ذكره في المعادلة أعلاه، إلا أن بن نبي طرح سؤالا حول سبب غياب الناتج الحضاري في بعض الحالات على الرغم من توفر العناصر الثلاث؟ واستخلص أن الفكرة الدينية هي المحرك الرئيس لهذه المعادلة، وهذه الفكرة تتمثل في القيم الأخلاقية، قواعد ومبادئ تشريعية وحتى عادات وتقاليد… هذه الفكرة تشحن الإنسان وتحقّق التمازج بين مختلف مكوّنات الحضارة…و قد ركز مالك بن نبي على تحليل الفكر التنموي في الإسلام و ركز على مفهوم الاستخلاف و عمارة الأرض… و عليه يمكن القول، أن المشروع النهضوي لمالك بن نبي مستمد من روح الإسلام، و هذا المفهوم النهضوي مستمد من عقيدة التوحيد، و منهجه مستوحى من الكتاب والسنة، وهذا يقتضي أن تكون خطة التنمية منسجمة مع مكارم الأخلاق التي أرساها الاسلام، ومتضمنة الشمولية التى تمزج بين الروح والمادة في قالب واحد، وتنظر إلى الإنسان من خلال هذا المفهوم الشامل، والتنمية هى عملية شاملة تبدأ بعد إنتاج الضروريات وإشباع الحاجات الضرورية، وهى تبدأ بالإنسان وتنتهي به فهو غاية التنمية ووسيلتها، و لعل هذا الفهم هو الذي تم اعتماده من قبل "محمد مهاتير" في هندسة نهضة ماليزيا.. و سنحاول التوسع أكثر في هذا الموضوع في مقال موالي إن شاء المولى.. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون.. كاتب و أستاذ جامعي