في خطابه السامي بمناسبة الذكرى الفضية التي تصادف ربع قرن من اعتلاء عرش أسلافه المنعمين، عاد العاهل المغربي محمد السادس مساء يوم الإثنين 29 يوليوز 2024 ليخصص حيزا هاما منه لما يواجه المغرب من معضلة "الإجهاد المائي"، الناجم عن توالي سنوات الجفاف، معتبرا أن ندرة المياه باتت من أبرز التحديات التي تتطلب مزيدا من "الجهد واليقظة وإبداع الحلول والحكامة في التدبير". وفي الوقت نفسه أبى إلا أن يقدم تشخيصا دقيقا لهذه الأزمة التي تتصاعد حدتها، جراء شح السماء والتغيرات المناخية، فضلا عن التأخر في إنجاز بعض المشاريع المبرمجة في إطار السياسة المائية. ويشار في ذات السياق إلى أنه وفي إطار التتبع المستمر والعناية السامية التي ما انفك يوليها لهذه المسألة الاستراتيجية، سبق لملك البلاد أن ترأس في منتصف شهر يناير 2024 جلسة عمل بالقصر الملكي لتدارس إشكالية الماء. إذ حث حينها جميع القطاعات والهيئات المعنية على مضاعفة الجهود واليقظة من أجل رفع تحدي الأمن المائي، وضمان التزويد بالماء الشروب على مستوى كافة مناطق المملكة، داعيا الحكومة إلى اعتماد تواصل شفاف ومنتظم تجاه المواطنين حول تطورات الوضعية المائية والتدابير الاستعجالية التي سيتم تفعيلها، مع تعزيز توعية العموم بأهمية الاقتصاد في استهلاك الماء، ومحاربة جميع أشكال تبذير هذه المادة الحيوية واستخداماتها المفرطة وغير المسؤولة. ففي تقرير حديث له حول "الإجهاد المائي"، دق "المعهد العالمي للموارد" ناقوس الخطر بشأن هذه المعضلة التي تواجه شمال إفريقيا والشرق الأوسط، كاشفا أن بلدان المنطقة هي الأكثر عرضة لمخاطر ندرة المياه في السنوات القادمة. إذ تظهر بيانات التقرير أن 25 دولة معظمها من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تتعرض في الوقت الراهن لإجهاد مائي شديد كل سنة، فيما جاءت دول المغرب والجزائر ضمن قائمة "الدول ذات الإجهاد المائي المرتفع"، لافتا الانتباه إلى أن المشاكل الحالية لا تؤثر فقط على المستهلكين والأنشطة الاقتصادية التي تعتمد على المياه، بل كذلك على الاستقرار السياسي في المنطقة، لأن تفاقم هذه الأزمة من شأنه إشعال فتيل التوترات الاجتماعية. ويحدث "الإجهاد المائي" أو "ندرة المياه" في الوقت الذي يتجاوز فيه الطلب على المياه الصالحة للاستخدام في منطقة ما هو متوفر، حيث يتم تحويل 70 في المائة من المياه العذبة في العالم إلى مجال الزراعة، بينما يتم تقسيم الباقي بين الاستخدامات الصناعية (19 في المائة) والاستخدامات المنزلية (11 في المائة) بما في ذلك الشرب. أما ما هو متوفر من المياه، فيشمل المياه السطحية مثل الأنهار والبحيرات والخزانات إلى جانب المياه الجوفية. وإذا كان الخطاب الملكي ركز كثيرا على ضرورة التعجيل بإنجاز المشاريع المتعلقة بالمنظومة المائية في الآجال المحددة، ولاسيما منها السدود ومحطات تحلية مياه البحر، وجعل عددا من الخبراء والمهتمين بالشأن العام يرون في إعطاء قضية المياه حيزا هاما في الخطاب السامي، باعتبارها إشكالية حقيقية في بلد يقع في منظومة شبه صحراوية، منبهين إلى الاهتمام بتلك الحلول المقترحة، ومنها المشاريع الاستراتيجية مثل سياسة السدود ومشاريع تحلية المياه والطرق السيارة المائية بين المناطق، وما يحتاج إليه المغرب أيضا من خطوات أخرى على مستوى التكوين وابتكار الحلول واستغلال الطاقات البديلة للتعامل مع هذه المادة الحيوية في الصناعة والزراعة وغيرهما. فإن السلطات لم تكلف نفسها عدا العودة إلى تعميم دوريات على أرباب الحمامات مساء يوم الأحد 11 غشت 2024، تدعوهم بواسطتها إلى ضرورة الالتزام بإغلاق الحمامات ثلاثة أيام في الأسبوع (الإثنين، الثلاثاء والأربعاء)، وهي التي يفترض فيها أن تكون على علم بما لمثل هذه المرافق من بالغ الأهمية في حياة المواطنين من حيث توفير أبسط شروط النظافة الشخصية، خاصة في فصل الصيف أمام انتشار الحشرات والجراثيم، وعودة الأمراض المعدية من قبيل "كوفيد -19″، داء السل وجذري القردة الذي أحدث خلال الأيام الأخيرة رجة قوية في العالم. بينما يرى مهنيون كثر أنه كان من الأفضل اتخاذ إجراءات جذرية وشاملة، والاتجاه نحو اجتراح حلول أخرى ذات فاعلية، لأن إغلاق الحمامات أثبت فشله وعدم جدواه وولن يزيد وضعية القطاع إلا تأزما. ثم لماذا لا يتم التفكير مثلا في الحد من زراعة المنتجات الأكثر استهلاكا للمياه، كالطماطم والأفوكا والبطيخ التي تساهم في تجفيف المياه الجوفية، وإعادة ترتيب الأولويات الفلاحية وفق احتياجات السوق الداخلية؟ إن معالجة معضلة "الإجهاد المائي" ببلادنا، لا تتطلب أكثر من حس وطني صادق وإرادة سياسية قوية، تساهم في ترجمة التعليمات الملكية السامية إلى حقائق ملموسة، ولاسيما أن ملك المغرب لم يفتأ في ظل موجة الجفاف الحاد التي ضربت البلاد، يحث المسؤولين الحكوميين والمواطنين على التعامل الجاد والمسؤول مع إشكالية الماء في كل أبعادها، من خلال القطع مع كل أشكال التبذير والاستغلال العشوائي، ويدعو إلى ضرورة اتخاذ جميع الإجراءات الاستعجالية والمبتكرة لضمان الماء الشروب لكافة المواطنين، والحرص الشديد على الرفع من وتيرة تنفيذ مشاريع السدود، وتسريع إنجاز المشاريع الكبرى لنقل المياه بين الأحواض المائية ومحطات تحلية مياه البحر.