أثار تعرض موكب الرئيس الموريتاني لحادث سير (وفق الرواية الرسمية) لتساؤلات عدة وقراءات بدت مشككة وغير مطمئنة في ظل وجود إشارات سلبية، لا سيما بعد أن أودت هذه الحادثة (المزعومة) بحياة أحد المسؤولين عن أمن رئيس الدولة. وتعود أطوار هذه الحادثة إلى يوم الخميس 22 فبراير خلال هذه السنة، أثناء عودة موكب الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني من المعبر الحدودي بين موريتانياوالجزائر باتجاه مدينة تندوف، إذ كان الغرض من هذه الزيارة هو تدشين المعبر –الذي يصعب حصر المرات التي دشن فيها– بين البلدين. وحتى لو صدق البعض الراوية الرسمية وما يطبعها من ثقوب وثغرات، قد يكون من مكر الصدف، أن يتصادف هذا الحدث/ الحادث مع توالي التحذيرات في الآونة الأخيرة التي أصدرتها أمريكا وإسبانيا وبريطانيا، بعدم السفر إلى تندوف بسبب المخاطر الأمنية الكبرى. وبعيدا عن هذا الغرب " المتحامل "، وفي محاولة لشرح أسباب ومسببات هذا الحادث الذي أودى بالحارس الشخصي لرئيس جمهورية، أفادت الرواية الرسمية بأن الأمر يتعلق بانفجار أحد إطارات سيارة من السيارات المرافقة لموكب رئيس موريتانيا. هذا التبرير أو ا"لمشهد السريالي" إن جاز توصيفه قد لا يسعف ولا يساعد على الفهم، غير أنه، من سخرية القدر، يبدو أن "إطار" سيارة حارس الرئيس تشبه إلى حد كبير " إطار الجسم المغاربي"، كلاهما قابلان للانفجار في غفلة من الجميع، وقد لا تفيد آنذاك لا الروايات ولا الرواة الرسميين وغير الرسميين. وبلغة أقرب إلى المنطق أو شيئا من العقل، إن ما وقع لحارس مرافق لرئيس موريتانيا قد لا يخرج عن إحدى الفرضيتين الاثنتين، الأولى، أن الحادث عرضي، يمكن أن يقع في أي مكان في العالم، غير أنه من الصعب أن يصدق الفرد في القرن 21 وفي إطار التطور التكنولوجي، مدى إمكانية واحتمالية أن تنفجر إطارات السيارات الرئاسية أثناء الاستقبالات الرسمية. أما الفرضية الثانية، فعلى الأرجح أن الحادثة هي بمثابة رسالة غير مشفرة لرئيس موريتانيا، لا تخرج عن إطار التهديد المباشر، ووفق هذه الفرضية، تصير وفاة الحارس الشخصي قابلة لكل التأويلات باستثناء أنها حادث عرضي عادي. وبغض النظر عن السرديات المختلفة التي حاول كل طرف من خلالها إعادة قراءة هذا الحادث، إلا أن الأحداث المتتالية والاشتباكات الدبلوماسية على الرقعة المغاربية، تؤشر على أن هذه المنطقة مقبلة على تحولات وتحديات كبيرة، وارتباطا بهذه المتغيرات، ومن منطلق الروابط التاريخية والقبلية والدينية والجيوسياسية، فالمغرب يتحمل كامل المسؤولية تجاه جاره الجنوبي، سواء من خلال التصدي لكافة المحاولات الرامية لزعزعة استقرار موريتانيا، أو بغية إفشال المشاريع الرامية إلى إضعافها وجعلها بمثابة ثقب أسود في خاصرة المغرب الكبير. فمنذ إعلان الجزائر قطع علاقاتها الدبلوماسية مع المملكة يوم 25 غشت 2021، أخذ " الاشتباك الدبلوماسي" بين الطرفين أشكالا غير مسبوقة، وبدا الصراع منفلتا وبدون سقف، بل وصل الامر إلى حدود وقواعد "الاشتباك" التي باتت بدورها مفتوحة، إذ صارت "قيادة الجيش" في الجزائر تراهن على عزل المغرب عن محيطه المغاربي من خلال محاولة استمالة كل من تونسوموريتانيا بشتى الوسائل، وصارت تبعا لذلك، كل الطرق مباحة ومستباحة، بل بدت المملكة "أسيرة" للقدر الجغرافي، تجاريه تارة وتراهن على الزمن تارة عديدة. إن مسؤولية المغرب في حماية وصيانة حدوده، تتجاوز المنطق الكلاسيكي/الدولتي/الحدودي، سيما وأن المخاطر الإقليمية والأمنية الكبرى عادة ما تأتي من خارج الحدود، وبالتحديد من الجوار خاصة إذا كان هذا الجوار مضطربا ومشتعلا، ناهيك عن اتساع دائرة الدول الفاشلة بشكل مقلق. وكما يقال فالتاريخ عبارة عن جغرافيا متحركة، والجغرافيا تاريخ ساكن، ومن هذا المنطلق، فالمغرب اليوم مطالب بالبحث عن خيارات جديدة قد تصل إلى محاولة" تحريك الجغرافيا" لتأمين محيطه، وحماية أمنه وأمن شركائه الإقليميين والدوليين، وذلك من خلال التفكير في مداخل وتصورات سياسية وتكتيكية، لاعتماد شكل جديد للاندماج المغاربي، بدل الأشكال الكلاسيكية، خاصة في ظل الرهانات الاستراتيجية المفتوحة، كالمشروع الأطلسي الإفريقي المغربي، ومشروع الغاز بين المغرب ونيجيريا. إشكالات وملفات عدة وتحديات مختلفة أمام المقرر المغربي، وقد يكون من الصعب إن لم يكن متاحا ضبط إيقاع بعض المشاكل في المستقبل، إذا لم يتم التعاطي معها اليوم بكل جرأة ومسؤولية، وبأدوات ومشاريع تأخذ بعين الاعتبار المجال الجغرافي/التاريخي. إن تقديم أجوبة على الإشكالات المتعلقة "بالجوار الملتهب"، وخاصة العلاقة بالجار الجنوبي المهادن في ظل تمادي الجار الشرق في ممارساته العدائية، يتطلب وضع سيناريوهات جديدة، يأتي في مقدمتها إعادة " تحريك الجغرافيا"، وذلك، من خلال التفكير في تأسيس نظام فيدرالي مغربي/موريتاني. سيناريو يمكن التعاطي معه من خلال محاولة تقديم أجوبة على بعض الأسئلة من قبيل: ما هي شروط ومحددات هذا الاندماج ؟ ما هو موقف مؤسسة الجيش في موريتانيا؟ وماهي مواقف الأحزاب السياسية الموريتانية؟ كيف يمكن التعامل مع المتغيرات الاجتماعية والإثنية أو العرقية في موريتانيا ؟ ما هي مكاسب ومحاذير هذا الاندماج بالنسبة للمغرب وموريتانيا؟ ماهي حدود الاشتباك الدبلوماسي الجزائري لإفشال الاندماج ؟ قد لا تسعف هذه الورقة في تقديم أجوبة أولية على هذه الأسئلة بمختلف أصنافها، الراهنة/المستقبلية/المؤسساتية/الهوياتية. لكن، بعيدا عن مستويات التشبيك بين الإشكالات والمصالح المعقدة، يبدو أنه من المفيد على المستوى الاستشرافي، إعادة طرح سيناريو فيدرالية المغرب الكبير ضمن سياقاته وإن كانت محرجا للبعض وغير ذا أهمية للبعض الاخر. الجغرافيا تصنع الأدوار، وعلى النقيض من ذلك، فالموقع تاريخيا جلب للمغرب الاطماع والنزاعات حتى صار على ما هو عليه اليوم. إقرار يعكس واقع الحال، فالحدود الحالية للمغرب لا تعكس هويته التاريخية الحقيقية، بقدر ما أنها فرضت عليه وفق سياقات متداخلة تتوزع بين الأخطاء الداخلية، والمؤامرات الإستعمارية الخارجية، حيث بعد الإستقلال، صارت مشاكل الحدود والتوترات الإقليمية جزء من الأدوات الغربية لإضعاف النواة الإمبراطورية للمغرب. وفي أفق المصالحة مع الجغرافيا، فإن مقاربة الاندماج المغربي/الموريتاني وفق النظام الفيدرالي، يمكن التفكير فيها انطلاقا من ثلاث مستويات: المستوى الأول: تاريخي، إذ يعتبر المعطى التاريخي مؤسسا لفهم الحاضر على مستوى العلاقة بين الطرفين، وبعيدا عن النقاش حول الإرث الإمبراطوري والامتداد التاريخي للمملكة المغربية، فمنذ سبعينات القرن الماضي، ظلت الجزائر ومن ورائها البوليساريو يتعاملان مع موريتانيا كحلقة أضعف على "رقعة الشطرنج " بفعل التنافس والصراع الإقليميين. وكمحاولة لفهم الجغرافيا السياسية للمنطقة، لابد من استدعاء التاريخ–القريب– فبعد أن رفضت الجزائر الاتفاق الثلاثي(اتفاقية مدريد) الذي وقع في 14 نوفمبر 1975، بين إسبانيا، المغرب، موريتانيا، دخلت المملكة في تحالف تكتيكي مع موريتانيا، عسكريا، وسياسيا، ودبلوماسيا لتحصين مكاسب الاتفاق. أمام هذا الوضع، ركزت الجزائر رفقة البوليساريو هاجمتها العسكرية على موريتانيا، وتمكنت من الوصول إلى مشارف العاصمة نواكشط ومهاجمة مختلف المدن الموريتانية. ونتيجة لهذه الحرب دخل نظام المختار ولد داداه في أزمة على مختلف المستويات، الامنية والاقتصادية، دفعت الجيش الموريتاني إلى الإطاحة به في 10 يوليوز 1978 وتم وضعه رهن الإقامة الجبرية. هذا المعطى جوهري و يمكن من خلاله فهم الاستراتيجية التي تتعاطى بها قيادة الجيش الجزائري مع موريتانيا، إذ صارت الجارة الجنوبية بمثابة جبهة مشتعلة أو منصة مفتوحة لتوجيه الضربات إلى المغرب. المستوى الثاني: جيوسياسي، إن المتغيرات الإقليمية والدولية باتت تنذر ببروز قوى جديدة وتوازنات من غير المستبعد أن تكون مختلفة عن التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن منطلق سعي المغرب إلى لعب أدوار كبيرة والتموضع بشكل جيد ضمن خريطة التحالفات الجديدة، فإن تحقيق مبتغى القوة الإقليمية يتطلب تنزيل المشاريع الكبرى، خاصة مشروع الأطلسي، وتأمين أنبوب الغاز المغربي النيجيري. لذلك، فالاندماج المغربي الموريتاني، يشكل قاعدة صلبة لتأمين مصالح المغرب الأطلسية والإفريقية، وقطع الطريق على كل المحاولات الجزائرية الرامية لعزله عن محيطه المغاربي. المستوى الثالث: استراتيجي، فالاندماج المغربي/الموريتاني يشكل مناسبة لتقديم أجوبة واقعية واستشرافية على بعض التحديات الراهنة والمستقبلية، سيما وأن الامتداد التاريخي للبلدين، بالإضافة إلى المقومات المشتركة خاصة على المستوى القبلي (مجتمع البيضان)، كلها عوامل تدفع في اتجاه تقوية وتحقيق هذا الاندماج. استراتيجيا، فالاندماج أو "فيدرالية المغرب الكبير" يمكن أن تحقق كل شروط الإقلاع الاقتصادي بين البلدين، قد لا يتسع المجال للخوض في الأرقام والمؤشرات. غير أنه بشكل عام، يمكن الاستثمار في شبكات الطرق والقطارات السريعة، ونقل رؤوس الأموال والرساميل الكبرى للاستثمار في الموانئ وفتح الباب أمام الشركات المغربية والحلفاء الخليجيين في موريتانيا من منطلق رابح/رابح. على المستوى العسكري، فالاندماج يحقق استراتيجيا مكاسب كبيرة دفاعية وأمنية، سواء من خلال تأمين الحدود البحرية والبرية على كافة الواجهات مع ضمان طي ملف النزاع حول الوحدة الترابية ميدانيا وعمليا وفعليا. ختاما، يعتبر خيار "فيدرالية المغرب الكبير" خيارا قد يبدو غير واقعيا في الوقت الراهن، لكن، رهان " تحريك الجغرافيا" أو " المصالحة مع الجغرافيا" وتحت أية مسميات، تعتبر مداخل استراتيجية_ وإن كانت مقترنة بالمتاعب والصعوبات والمحاذير_، وبقدر ما أن البلدان كانت محكومة بحسن الجوار والتعايش السلمي، وتصفير المشاكل بين دول الجوار، إلا أن ذلك، لم يتحقق، بل بات صعبا إن لم يكن مستحيلا في ظل النماذج المتعددة، وبفعل رواسب الاستعمار وضعف الديمقراطية الداخلية وفشل السياسات التنموية. أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري