لم يتوقع أحد من أكثر المتفائلين من المنتسبين للجسم التعليمي أن تشغل هيئة التدريس الرأي العام طيلة الأشهر الثلاثة الماضية بعد قدرتها على توحيد نضالاتها وعلى استقطاب جل الأساتذة إليها في معركة تعد من بين المعارك الأطول في تاريخ الشغيلة التعليمية، وذلك رفضا للقانون الجديد المنظم لوظيفتها (النظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية) ومطالبة بالاستجابة لمطالب الفئات المتعددة المنتسبة للهيئة، ما أحدث شللا في المؤسسات التعليمية العمومية وفرض على الدولة البحث عن تسويات لحلحلة ملفاتهم العالقة. فقد علقت آمال عريضة على هذا الحراك النوعي الذي انعقد حوله إجماع قل نظيره من طرف هيئة التدريس التي كانت إلى وقت قريب مضرب مثل في جلدها وصبرها على الإهانات المتصاعدة من طرف مسؤوليها ومسؤولي البلاد عامة عليها، ويمكن عد خطوة تنزيل النظام الأساسي الجديد بلوغا للقاع في قضم حقوقهم وخنق حريتهم والتحريض عليهم، وهو ما أسفر عن هاته الانتفاضة المفاجئة في زخمها وفي قدرتها على توحيد مختلف الفئات التعليمية على مستوى الخطوات النضالية. وتبقى خطوة تعليق الإضراب من طرف التنسيقيات المؤطرة لنضالاتهم خطوة إشكالية بفعل توقيتها والظروف والملابسات التي أحاطت بها، لا سيما أن البعض من مناضلي الحراك راهنوا على هذه المعركة بالذات لتصفية جل مشاكل الشغيلة، وازداد السجال احتقانا بالإجراءات العقابية الرسمية لعدد من مناضليها التي وصلت حد التوقيف المؤقت عن العمل المصاحب بتوقيف الأجرة والاستعداد لعرضهم على المجالس التأديبية. الواقع أن الشغيلة التعليمية لم تكن في أتم الجهوزية لخوض معركة بهذا الحجم، وقد اضطرت إلى التفاعل الإيجابي معها رغم التناقضات التي تعرفها ولعل أبرز إكراه واجهته هو حالة التصحر النقابي التي يعيشها الجسم التعليمي الناجمة عن استقالة المركزيات النقابية من مهامها الأصلية وانحيازها المطلق للإدارة وهو ما جعلها تنخرط في سلسلة حوارات ماراثونية خدرت بها الشغيلة والتي انتهت بتوقيع على بياض على نظام يأتي على ما تبقى من كرامة المدرسين، الشيء الذي فرض على التنسيقيات المصممة للدفاع عن ملفات محددة إلى توسيع دائرة عملها وتعميم مطالبها، مما أدى إلى ارتباك واضح لدى قواعدها ولدى قيادتها أيضا والتي وجدت نفسها مضطرة إلى إعادة تكييف ملفاتها المطلبية مع ضغط المرحلة مع ما يفرضه ذلك عليها من التنسيق فيما بينها وصولا إلى البحث عن تنزيل برنامج الحد الأدنى المرضي للجميع. كما أن فكرة تأسيس تنسيقية جامعة (التنسيقية الموحدة) وسرعة تجسيدها ميدانيا لم يحل المشكلة فقد رسخ الانقسامات، وظل عنصر الثقة بهذا الكيان الوليد محل ارتياب عند مناضلي التنسيقيات الأعرق منها رغم قدرته البارزة على استقطاب شرائح مهمة من الأساتذة، وقد زاد دخول أساتذة التأهيلي على خط النضال وحرصهم على التمايز على غيرهم من تشظي المشهد التعليمي؛ كل هذا خلف نقاشات جانبية في أتون المعركة كان فضاؤها منابر التواصل الاجتماعي انصب أكثرها حول تخوف كل فئة من أن تكون حطب معارك الفئات الأخرى معتقدة أن ملفها المطلبي يجب أن يحظى بالأولوية من ملفات غيرها، وهكذا سعى الجميع إلى قطف الثمار من الشجرة قبل أن تثمر أصلا. على أن الخلاف داخل التنسيقيات رغم سلبياته لم يكن بفداحة ما أثاره دخول جسم نقابي ممثلا في الجامعة الوطنية التوجه الديمقراطي، على خط نضالاتهم والتي شكلت أبرز عائق لبلورة الوحدة بينها باعتبار أن بنيتها أو أساليب اشتغالها لا تسمحان لها بمسايرة إيقاع التنسيقيات، وهو ما تجلى في مختلف مراحل الحراك بتسببها في تنافر بين مكونات الحراك بين طيف ارتأى إقحام النقابة المذكورة في التنسيق الوطني وبين طيف آخر رفض فكرة التنسيق مع أي كيان نقابي، الشيء الذي خلق تضاربا في مواعيد عدد من المحطات النضالية. ومع ذلك استطاعت هيئة التدريس أن تتعايش مع كل هاته الإكراهات مؤقتا فقد كان سخطها على أوضاعها أكبر من أن تلتفت معه لتلك المشاغبات، لكن سؤال آفاق المعركة فرض نفسه على الجميع ولم يكن له جواب واضح، وهو ما استغلته السلطة عبر مناوراتها في الحوار مع النقابات الموقعة على النظام الأساسي المثير للجدل إلى الحوار مع "النقابة الممانعة" إلى السماح لبعض ممثلي التنسيقيات بالمشاركة فيه ثم إغلاق الباب مرة أخرى أمامهم، مما أجج من الخلافات وعجل بخروج النقابة المذكورة من التنسيق الوطني وتعليق إضرابها لتتالى الضربات الانتقامية على الأساتذة المناضلين الشيء الذي عده البعض ضوءا أخضرا من طرفها للسلطة لاستهدافهم، وهناك من اعتبر أنها نفذت بجلدها قبل فوات الأوان وقبل أن تتعرض بدورها لسخط الدولة. في كل الأحوال فالخطوة الأحادية التي خطتها نقابة التوجه الديمقراطي شكلت طعنة في خاصرة الحراك التعليمي التي اتخذت على عجل دون تنسيق مع شركاء الحراك، على أننا نميز بين قرارين مقترنين ببعضهما البعض في تلك الخطوة هما تعليق الأشكال النضالية مع التوقيع على الاتفاق مع الحكومة، فلئن كنا نتحفظ على القرار الأول بالشكل الذي تم إخراجه فإننا لا نرفضه من ناحية المبدأ، فالمعلوم أن المعارك النضالية مرتبطة بالعدد فكلما زاد الزخم الجماهيري كلما تم فرض التصعيد والعكس كذلك فعندما ينتفي العدد وتعود الأكثرية من الأساتذة لمقرات عملهم فما من معنى لإحراق البقية الباقية من صفوة المناضلين في معارك أكبر منهم، نعم يمكن للمناضلين أن يتخذوا قدرا معقولا من المجازفة ريثما يلتحق الآخرون بهم لكن حين يُتَأكَّدُ من انفضاض الجمع عنهم فإن التوقف المؤقت يبقى خيارا حكيما، وهذا لا يعني الاستسلام أبدا إنما الأمر متعلق بتغيير بعض التكتيكات من أجل تجديد الدماء. أما قرار توقيع الاتفاق مع الحكومة فلا يمكن تبريره بحال فهو يعني بالضرورة شرعنة كلما ما ورد في النظام الأساسي بما في ذلك تلك البنود السلبية، الشيء الذي ينسف أية دواعي للاحتجاج مستقبلا ويعارض مبدأ انتزاع المكتسبات بالتراكم الذي يؤجل حل الملفات العالقة التي عمرت أكثر مما ينبغي ولا تحتمل أي تأخير، كما أن هذا المبدأ يفترض أن ينتقل بك من الحسن إلى الأحسن، والواقع أن الأساتذة خرجوا للاحتجاج على القوانين الجديدة ثم وجدوا أخطر ما فيها ما زال قائما مثل نقطة ربط الترقي بتنزيل مشروع المؤسسة المندمج بما يعني إثقال كاهلهم بأعباء إضافية والعبث باستقرارهم النفسي والإداري والمادي، وبعدها تأتي الدعاية النقابية التدليسية لتبذل مجهودات عبثية من أجل إقناع الشغيلة التعليمية بأن النظام الأساسي قد تغير كليا وأن الواقعية تقتضي القبول بما عرض عليها كأفضل المتاح أمامها. لا ننكر أن هناك تقدما ملموسا في بعض ملفات هيئة التدريس المطلبية أبرزها الزيادة في الأجور لكنه غير كاف ولا يتناسب مع المجهود المبذول في الحراك ولا يجب أن يأتي في إطار المقايضة على حساب حقوق أخرى، ونشير أيضا إلى أن هذا راجع إلى نضالات الشغيلة التي ظلت تضغط من الشارع من أجل تحسين مخرجات "الحوار" في الوقت الذي كانت النقابات فيه تتلقف كل تقلبات الحكومة بالتصفيق والتهليل. المعركة طويلة ومن السابق لأوانه الجزم بمخرجاتها النهائية، فما دام الشيطان يكمن في التفاصيل فإن اليقظة واجبة حتى تتجنب الشغيلة التعليمية المطبات التي وقعت فيها وتبني على نقاط القوة التي راكمتها في حراكها، فكلما نحت نحو الوحدة كلما ضغطت على صانع القرار المخزني وألجمت قراراته التعسفية بحقها، أما حين تنشغل ببعضها البعض فإنها تجعل نفسها فريسة سهلة له ولمخططاته.