ها نحن نقارب القرن على صدور أعظم ما كتبه رجل مغاربي مسلم عن حق النساء المسلمات في المساواة بجرأة قل نظيرها في تاريخنا وبالخصوص المغربي، إنه النهضوي المتحرر التونسي الطاهر حداد (1899-1935). في كتابه " امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (1929). هذا المؤلف الذي تعامل معه محمد بن الحسن الحجوي، المحسوب على النهضويين بالمغرب، بخشونة وفضاضة لا تليق برجل مثله. إن هذا المؤلف عبارة عن مشروع لنهضة حقيقية لبلاده تونس وباقي البلدان الإسلامية الأخرى العربية منها وغير العربية. الاجتهاد عند الحداد ليس على أساس "ما جاء به الإسلام" ولكن "ما جاء من أجله" انطلق الطاهر حداد من قاعدة صلبة في تناوله لقضايا الحقوق الإنسانية للنساء من أن لا نهضة مجتمعية لبلاده تونس وللدول العربية والإسلامية من دون نهضة حقيقية للنساء مبنية على مساواتهن للرجال. وأن لا سبيل في ذلك إلا بتبني التدرج في الاجتهاد الفقهي، كما حدث زمن الرسول، على أساس التمييز بين "ما أتى به الإسلام" و "ما جاء به من أجله". ويعني ذلك التمييز بين الفروع الزائلة بزوال الأحوال، والجوهر الخالد باعتماد مبدأ التدرج، والذي أطلق عليه محقق المؤلَّف في تقديم الكتاب، محمد الحداد، نظرية التشريع المتدرج. " وعلى هذا الأساس، فإن المضي بجوهر المساواة والعدل والحرية يقتضي التدرج من تحديد تعدد الزوجات بأربع إلى منع تعدد الزوجات أصلا، أو من منح المرأة نصيبا من الميراث على قاعدة النصف إلى منحها حق الميراث على قاعدة المساواة مع الذكر." اعتبر الطاهر حداد أن المساواة بين الجنسين مبدأ من مبادئ الإسلام. ففي الإرث وردت المساواة في حالات عديدة مذكورة في القرآن، ميراث الوالدين مع وجود الأبناء، ومساواة الأخت والأخ في حالة الكلالة وغيرهما... ولو كان مبدأ اللامساواة بين الجنسين إحدى قواعد الدين لما سمح بالمساواة في الإرث في هذه الحالات. وبالنسبة للحالة التي يفوق الرجل المرأة في الميراث فمرد ذلك عند الفقهاء إلى ما اشترطه الإسلام في الرجل من إنفاق على المرأة، وهذا شرط لم يعد سائدا العمل به في زمننا، بحيث حسب المندوبية السامية للتخطيط في تقريرها " المرأة المغربية في أرقام" (2023)، نجد أرقاما دالة على تحولات اجتماعية غير مسبوقة ببلادنا للأدوار التي أصبحت تضطلع بها النساء. %40.3 من النساء مقابل 27.3 بالمائة من الرجال البالغين من العمر 15 سنة فما فوق في عداد العزاب (2022، HCP)، وهو ما تم تقديره سابقا بثمان ملايين امرأة عازبة، بمعدل السن عند الزواج الأول عند الذكور 31.9 سنة، وعند الإناث 25.5 سنة (2018، HCP). 20.9% من النساء تعشن وحدهن مقابل 4.6 بالمائة من الرجال. بالنسبة للأسرة المكونة من زوجين وأبناء غير متزوجين، ترأسها 2.4 بالمائة نساء مقابل 59.8 بالمائة من الرجال كما يتمثلها أفرادها (2014). نسبة الأمهات التي يعيش معها أبناء غير متزوجين (43.4% من النساء) أكبر بكثير من تلك التي يعيشون فيها مع آبائهم (1.7 % من الرجال). 17% من مجموع الأسر تعولها نساء مع فارق بين المدينة بنسبة 19.4%، و11.4% بالقرية (2022). كل هذه الأرقام تدل على أن مبدأ القوامة المعتمد في سيادة الرجال على النساء وكل ما يترتب عن ذلك من تمييز لفائدتهم أصبح هشا، وما عاد من مبرر للإبقاء على هذا الحيف. وبالنسبة لتعدد الزوجات، فقد سبق الحدادَ في ذلك كلٌّ من رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، في أن شرط العدل بين الزوجات غير متأت في الواقع مما يبين أن الجوهر هو التدرج نحو المنع. ولما كان الطلاق مختص به الرجل، رأى الحداد في استعماله من طرفه شطط ضد المرأة، وحتى لا تصبح سلطة امتلاك إيقاعه على أي منهما، رأى أن القضاء أضمن لمصلحة كل منهما و باقي المجتمع وليس في ذلك مس بجوهر من جواهر الدين. المحافظون يضعون ثقة عمياء في الرجال كأنهم جميعا يذودون عن الحق والعدل، ويجعلون من النساء جميعا محل شك وريبة في قدراتهن ورجاحة عقولهن مما يتوجب "حمايتهن مخافة" انكسارهن جراء "هشاشتهن"، والحال أن محافظينا يخافون على مكانتهم في المجتمع المعتمِدة على قوامة لم يعد لها واقعيا من مقوم. لا بد من الاعتراف أن الفقهاء المغاربة المحسوبين على التيار النهضوي في مرحلة الحماية ظلوا شديدي المحافظة في حقوق النساء وحريتهن مقارنة بأقرانهم في كل من تونس ومصر. فالطهطاوي ومحمد عبده الأزهريين كانا أنور اجتهادا وأبصر بجوهر الإسلام من محمد بن الحسن الحجوي القروييني الذي تكسرت أطروحته المفصلة في "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" و"التعاضد المكين بين العقل والعلم والدين" على صخرة النساء؛ عندما اعتبر فيهما، على هذي ابن رشد الحفيد، أن الحق لا يضاد الحق ولكن يشفع له ويعضده، أي أن الحقيقة العقلية لا تتعارض مع الحقيقية النصية، وإن حدث ذلك وجب تأويل النص. ولهذا يمكن القول إن الحجوي قد أفلح في التنظير ورسب في التنزيل الاجتماعي ساقطا في العديد من التناقضات في أطروحته عن تعليم الفتيات الذي لا يجب أن يتعدى المستوى الابتدائي. فنجده يؤكد على عدم الاختلاط وعلى عدم سفور الفتاة والمرأة وعلى ألا يُدرِّس وألا يُطبِّب الرجال النساء لأن في ذلك من الشبهات وما إلى ذلك. فمن أين سنأتي بالمدرسات والطبيبات و.و.و.، إذا ما اقتصرنا في تعليم النساء على التعليم الابتدائي؟ يتنبه لذلك قائلا إننا سوف نحتاج طبيبات ومدرسات ولكنه لا يجرؤ على القول بالتعليم العالي للنساء كما نادى بذلك الطاهر حداد دون مواربة. يُسائِل الطاهر حداد المحافظين الذين يعتبرون كل اجتهاد مخالفا لما هو معروف وخروجا عن الدين باسطا منهجه التجديدي للفقه الإسلامي: " فكيف بنا إذا وقفنا بالإسلام الخالد أمام الأجيال والقرون المتعاقبة بعد بلا انقطاع ونحن لا نتبدل ولا نتغير؟" بعبارة أدق وأوضح أريد أن أقول: يجب أن نعتبر الفرق الكبير البين بين ما أتى به الإسلام وجاء من أجله. وهو جوهره ومعناه، فيبقى خالدا بخلوده كعقيدة التوحيد، ومكارم الأخلاق، وإقامة قسطاس العدل والمساواة بين الناس. وما هو في معنى هذه الأصول، وبين ما وجده من الأحوال العارضة للبشرية، والنفسيات الراسخة في الجاهلية قبله دون أن تكون غرضا من أغراضه. فما يضع لها من الأحكام إقرارا لها أو تعديلا فيها باق ما بقيت هي؛ فإذا ما ذهبت ذهبت أحكامها معها، وليس في ذهابهما جميعا ما يضير الإسلام. وذلك كمسائل العبيد والإماء وتعدد الزوجات ونحوها، مما لا يمكن اعتبارها حتى كجزء من الإسلام." فالطاهر حداد أسس منهجه الاجتهادي على ركنين أساسيين، التدرج كمنهج قائم، من جهة، على اعتماد جوهر الإسلام وغايته المتمثلة في إشاعة العدل والمساواة وهي بوصلته في التحليل، وهذا لعمري لا يمكن أن يختلف فيه أحد، وكيف يمكن؟ هذا العدل والمساواة لا يمكن استثناءَ إنسانٍ منهما لا حسب الجنس أو اللون أو الطبقة أو غيرها؛ ومن جهة أخرى تغير الأحكام مع تغير الأحوال نحو بلوغ جوهر الإسلام وغايته الاولى. وزيادة في توضيح الحداد لأطروحته هاته، يقول: " (هل جاء الإسلام لأجل كذا...) فنقول مثلا... هل جاء الإسلام بالمساواة بين عباد الله إلا بما يقدمون من عمل، أم أنه جاء ليجعل المرأة بأنوثتها أدنى حقا في الحياة من الرجل بذكورته؟ وهل جاء الإسلام بتمكين الزواج حتى يثمر هناء العائلة ونمو الأمة، أم أنه جاء ليطلق يد الرجل فيه بالطلاق حتى يصبح اليوم كريشة في مهب الرياح؟" الطاهر حداد وهو الزيتوني التكوين يقول ما قاله عن حقوق النساء وأولاها الحق في المساواة والعدل، لم يكن ثائرا ضد الدين ولا ضد التدين، بل مسائلا ومنتقدا الفقه المنغلق في الماضي الذي لم يعد يليق بالحاضر ولا بنهضة المجتمع، محاولا إعادة الأمور إلى جوهر ما جاء من أجله الإسلام. وكل الاتهامات التي وجهت له بحجج دينية كانت في الأصل موجهة ضد التقدم في الاجتهاد الذي رأوا فيه إعصافا بمصالحهم الذاتية. فالحداد أكد على ما قام به الإسلام من ثورة نقلت فظاظة وفظاعة العقلية الذكورية المتوحشة بالجزيرة العربية علاقة بالنساء على الخصوص. إذ اعتبر سوء معاملة النساء ضمن أذم الاخلاق وسوئها ومن بين الكوارث العظمى التي ذكرها القرآن. مع التأكيد بالمكانة الرفيعة التي اعطاها إياها الإسلام بتخصيصه سورة من طِواله، على حد تعبيره، كاملة وذكرها في آيات وسور. واستدل على ذلك بآيات قرآنية. ليقول للمحافظين إن ما جاء به الإسلام آنذاك وإن كان ثورة فبه الكثير من التدرج ليصل خفيفا رحيما لقلوب الناس وليس دائما ما يبتغيه جوهره الذي بسط سابقا. وعلى الفقيه المتبصر أن يرى ذلك ويَتفكَّره جيدا. ففي الوقت الذي كانت فيه غاية الحداد الارتقاء بالدين عن طريق الارتقاء بمكانة المرأة على مبدأ المساواة، كان المحافظون بفؤوسهم يقبرون كل محاولة ضد الانغلاق والتطرف الدينيين الذين لا نزال حتى اليوم نتجرع نتائجهما. الاختلاف في الحقوق بالنسبة للميراث غير مبني على صفات ذاتية ثابتة لكل من المرأة والرجل، ولكن على مقومات متغيرة أو قابلة للتغيير مع الأحوال الاجتماعية بالنسبة لإشكالية الميراث في الإسلام، وبعد أن قلَّبها من كل الجوانب وتطرق لها بتفصيل في كل الحالات، وهي متعددة. ففيها الحالة التي يساوي فيها حق المرأة نصف حق الرجل، والحالة التي تتساوى فيها المرأة والرجل، والحالة التي تفوق فيها المرأة الرجل، سيخلص إلى خلاصة واضحة لا ريب فيها أن الاختلاف في الحقوق بالنسبة للميراث غير مبني على صفات ذاتية ثابتة لكل من المرأة والرجل، ولكن على مقومات متغيرة أو قابلة للتغيير مع الأحوال الاجتماعية. لأن لو أن الأمر خلاف ذلك، لما اختلفت حالات الميراث ولكانت حالة واحدة ترث فيها النساء دوما أقل من الذكور، ولكن الأمر ليس كذلك. فالأمر راجع للأدوار المنوطة بكل من الجنسين، وهذه متحولة ومتغيرة حسب تطور الشعوب والأمم. فيعرض لحال المرأة لما كانت متاعا يورث ولا حق لها في الملكية ليرتقي بها الإسلام إلى مستوى أرفع فتصبح وارثة مالكة ومتصرفة فيما ترثه وتملكه دون تدخل من أحد قل ذلك أو كثر. إن هذا التغيير وإن كان فيه حق المرأة نصف حق الرجل (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين "النساء/11″) ( و لكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم بعد وصية توصون بها أو دين "النساء/12″) ، يقول، كان شديد الوطأة على الأخلاق الجاهلية، بل كان صدمة قوية ومع ذلك قام بها الإسلام. وتساوت المرأة والرجل في حالة الوالدين مع وجود الولد (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد "النساء/11″). وكذلك ميراث الإخوة والأخوات في حالة الكلالة (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين "النساء/12) ولو أن فقهاء اليوم قاموا بربع ما قام به الإسلام الأول، لشهدت المجتمعات المسلمة تقدما غير مسبوق وأصبحت النساء في هذه المجتمعات أكثر تمكينا وقدرة للارتقاء بمجتمعاتها ودولها. وبكل موضوعية يحلل دواعي الدرجة التي خص الإسلام بها الرجل على المرأة لما كلف الرجل أكان أبا أو زوجا بالإنفاق عليها لما هو مهيأ لذلك بالعادة رابطا الدرجة بالقوامة في الإنفاق وليس في الذات. تعدد الزوجات عنده مجرد عادة جاهلية وبالنسبة لتعدد الزوجات، فإنه مع منعه لأنه كما يقول لم يجد له أثر في الإسلام بل هو مجرد عادة جاهلية. " ليس لي أن أقول بتعدد الزوجات في الإسلام لأنني لم لم أر للإسلام أثرا فيه، وإنما هو سيئة من سيئات الجاهلية الأولى التي جاهدها الإسلام طبق سياسته التدريجية." ضرب النساء عنده ممنوع في عصرنا كيف فسر الحداد ضرب النساء الوارد في القرآن وما رأيه فيه؟ هي أيضا مسألة (تأديب الرجال للنساء) لا تنتمي لجوهر الإسلام بالنسبة له، ولكنها ذات صلة بالفوارق الثقافية بين النساء والرجال، وجب منعها مع تطور أحوال المجتمع والنساء. فإذا كان جوهر الدين في العلاقة الزوجية هو المحبة والمعاشرة بالمعروف، فإن الضرب والطلاق من عوارض الحياة والتي لا يمكن أن تمارس إلا في حالات استثنائية بالنسبة له وهي لا تنطبق على ذوات الثقافة، وبالنسبة له ليس المقصود بالضرب في القرآن الإيذاء والإضرار اللذين يفقدا الزواج معناه. " وحدد طرق التأديب مرتبة واحدة بعد الأخرى من الوعظ بلسانه وحسن فعله إلى الهجر في المضاجع دون إطالة، إلى الضرب الذي أجمع المفسرون على تحريم أن يكون بعنف، أو بصورة شائنة لها. حتى إن بعض الفقهاء فسره برمي طرف الثوب عليها توبيخا لها عما فعلت عسر أن تفيء إلى رشدها فتهنأ الحياة الزوجية وتفر من وجه الطلاق." الطاهر حداد يؤمن بالتدرج لبلوغ جوهر الدين وغاياته، فما كان مباحا ضد النساء في الجاهلية وأول الإسلام وباحترازات شديدة، لم يعد له من مبرر في زمن تطورت درايات النساء وملكاتهن بشكل وسرعة غير مسبوقتين حتى أنها تساوت أو فاقت أحيانا معارف وممارسة الرجال لها. ولابد من التذكير بأن الحداد عاش في زمن كانت فيه النساء لا تزلن في حضيض المجتمعات الإسلامية، هذه المجتمعات كانت بدورها ترزح تحت عقليات بدائية وسلوكيات خشنة؛ ولكن بدأت تظهر علامات التحول في العلاقة بهن في المجتمعات الجديدة الناهضة على الخصوص في فرنسا وإنجلترا، وهو ما حكى عنه بانبهار بعض رواد النهضة العرب والمغاربة على إثر الرحلات التي قاموا بها (أنظر الرحلة الأورباوية لمحمد بن الحسن الحجوي 1919). فلم يكن الحداد أو غيره ممن ينشدون التقدم أن يغمضوا عنه العين ويتركون الفهم المتخلف للنص يعيث الفساد في البلاد. فالعنف ضد النساء عنده مباح في الجاهلية لكنه ممنوع في عصرنا كما منع الاستعباد وما ملكت الأيمان وغيرهما كثير. " إن هذه المسألة (تعنيف النساء) من المسائل التي راعى فيها الإسلام حالة تأخر المرأة عن الرجل في التربية والمدارك فجعل له عليها حق التأديب بالمعروف، كما راعى ذلك في إيجاب النفقة والصداق لها عليه. ولا يفهم من هذا أن الإسلام وضع المرأة لينال منها الرجل بالضرب وغيره كما يتشاءم بعض الناس وكما يفعل وحوش الرجال الجاهلين. فآيات القرآن وأحكام الإسلام بريئة من هذا، وهي ناطقة بوجوب احترام المرأة والإحسان في معاملتها وعشرتها حتى عَدَّ مضارَّتهن (الإضرار بهن) استهزاء بآيات الله، وما عليها إلا أن ترفع أمرأها للقضاء الشرعي في أي ضرر يلحقها أو حق يمنع عنها ليؤتيها الإسلام حقها ويرفع من مقامها. أما أنه يوكل لرشد الرجال القادرين معالجة نسائهم غير المثقفات بالمعروف طمعا في تهذيبهن وبقاء الحياة الزوجية في هناء وطيب معاشرة فما فيه من بأس مادام الأمر فرارا من الطلاق." الطلاق في كل الحالات بيد القضاء وليس بيد الرجال أو النساء عند الحداد وبعد أن قام الحداد بتشريح حالات الشطط في اللجوء إلى الطلاق من لدن الرجل وآثار ذلك على النساء والأطفال والأسرة، وبعد أن استشهد بالآيات القرآنية الموجبة للمعاشرة بالمعروف أو تسريح وإن اعتبر الطلاق أبغض الحلال إلى الله، سوف لن يجد من بد لدرء هذه الأضرار الناتجة عنه من ضرورة إنشاء محاكم الطلاق قائلا: " يظهر بالاستقراء أن لا علاج لدرء هذه الحالة إلا بوضع مبدأ تحكيم القضاء في كل ما يقع من حوادث الطلاق والزواج حتى لا يتم منهما إلا ما يوافق غرض الشريعة ونصوصها. […] ولذلك كان حتما علينا لو توفقنا إلى الخير أن نؤسس محاكم الطلاق، نحفظ بها مقاصد الشريعة الإسلامية التي تتطلب هذه المحاكم بطبيعة الحال لرعاية نصوصها، وحمل الناس عليها. وهذا واجب المسلمين اليوم." وقد بنى تعليله لوضع الطلاق بيد القضاء وما يقتضيه من تأسيس لمحاكم خاصة به على تسع مسوغات، أولها ما تعانيه النساء من شطط الرجال في استعمال السلطة المخولة لهم في التطليق تابعين لأهوائهم خلافا لما يدعو له الإسلام من معاشرة طيبة أو تسريح بمعروف على قاعدة أن الزواج هو الأصل وأن الطلاق حلال بغيض؛ وثانيها أن المسلمين في عامة أحوالهم على نقيض ما أقرته شريعتهم ولا يمكنهم أن يحققوا العدالة بأنفسهم؛ وثالثها أن محاكم الطلاق ليست سلبا لحق الرجل فيه ولكنه تعديلا له حتى يجيء طبق الغرض الذي أبيح له في الإسلام و حتى يُعرَف الضار من المتضرر من الطلاق؛ ورابعها ومع غياب نص صريح معمول به في منع الرجل من الحق في الطلاق، فإن حق الفرد يكون محترما نافذا ما لم يعد باستعماله على الأمة بالضرر، وخلافا لذلك يصبح سلب الرجل هذا الحق من لدن القضاء سلامة للأسرة و المجتمع من التفكك، فيضيع حق الفرد أمام حق المجتمع؛ وخامسها بقوله كيف يعقل أن تتدخل المحكمة لحماية مال السفيه وهو لا يلحق ضررا بالأغيار ونطلق يد الرجل بالطلاق الذي ينال تأثيره المرأة و الأبناء والعائلة؟؛ سادسها أن وضع الطلاق بيد الرجل متى شاء إذلال للنساء ورهن لحياتهن بيد الرجال؛ سابعها أن الدعوة للطلاق القضائي لا تأتي من فراغ لأن القضاء يبث في بعض حالات الطلاق، وإنما الإبقاء عليه بيد الرجل ليس إلا دفاعا عن أنانية الرجال وليس عن الدين فيما أعطي للرجال من حق الطلاق؛ ثامنها أن الشرع يحث على النظر فيما ينتج عن الطلاق من المضار ويدعو لعلاجها؛ و تاسعها أن هذا الفهم يحتاج لتوثيق الزواج والطلاق لما يوفره من مادة إحصائية تمكن من المتابعة الشيء الذي لا يتأتى إلا بإنشاء محاكم الطلاق. الحداد منتقدا لتخلف مواقف الفقهاء في النساء وقد استقرى بعضَ فقهاء وقضاة زمانه في مجموعة من الحقوق والحريات الفردية للنساء عن طريق استبيان تكون من 12 سؤالا. كحق المرأة في اختيار الزوج، وحقها في الطلاق إذا غاب زوجها عنها طويلا، وهل يصبح الطلاق فعلا بمجرد النطق به، وهل للمرأة ضمان فيما أعطي الرجل من حق الطلاق؟ هل للمرأة أن تثبت لدى القضاء عدم التناسب بينها وبين زوجها في الروح والأخلاق والرغبات؟ وهل للمرأة أن تلاعن كالرجل في رؤية الزنى؟ وهل المرأة في البيت رفيق مساو للرجل يعملان في اشتراك في الرأي والتنفيذ أم أنها قاصر تحت رعايته كأداة لتنفيذ أوامره؟ وما هو مقدار حرية المرأة في التصرف في مالها وتجارتها عندما تكون راشدة؟ وما هو اعتبار المرأة في إمامة الصلاة والقضاء وغير ذلك من شؤون خارجة عن دائرة البيت؟ وما الذي يجب ستره من بدنها عن الأنظار صونا للأخلاق؟ فقد قام بعرض أجوبتهم حول كل هذه الأسئلة كل واحد حسب المذهب الذي يتبعه، وهذا دليل على أن الرجل ذو وسع ذهني ونفسي كبير لا يتوفر إلا عند العلماء الأحقاء. والجدير بالذكر أن كل الأجوبة التي أتوا بها ناقشها بتفصيل في الجزء الشرعي من كتابه وفق فلسفة التدريج في العدل والمساواة، جوهر الدين في المجتمعات الإسلامية. خاتما هذا الشق من عمله بحصرته على فقهاء الإسلام إلا من رحمه ربه الذين ما فعلوا إلا أنهم رددوا ما اجتهد فيه غيرهم لأزمنة غير التي نعيشها، وبقت أدمغتهم حبيسة مجتمعات الجزيرة ما قبل وبُعيْد الإسلام. يقول الحداد: " إذا تأملنا حق التأمل في نصوص الشريعة الإسلامية ومراميها نجد أنها تريد أن تذهب بالمرأة مع الرجل مذهب المساواة في وجوه الحياة... ولسنا في هذا القول غافلين عن اعتبار الشريعة الإسلامية لنقصان المرأة في بعض أحوال نزلت فيها عن درجة الرجل. كما لا نغفل أيضا عن عامة الأحوال في جزيرة العرب التي اضطرتها إلى التدرج في تقرير عامة أحكامها، وبالأخص ما كان منها متعلقا بالمرأة، التي لم تكن في ذلك العصر شيئا مذكورا حتى عند نفسها." " وأما المرأة فهي لا تبعد عند الفقهاء عن درجة العبيد في عدة أحكام كمسألة اشتراط الحرية والذكورة في الولي العاقد للزواج." "… بدل أن يسعى المسلمون لتأهيل المرأة من الوجهة الاجتماعية حتى تستثمر بحق ما يعطيها الإسلام من الحقوق فإن الإصلاح الذي عولجت به هو زجها في أعماق البيوت محجوبة عن العالم أجمع بما جعلها أبلغ مثال للجهل والبله والغبن وسوء التربية لنضع بين يديها وعلى ركبتيها إخراج البنين والبنات من شعبنا." هذه العزلة التي اجتهد فيها معظم فقهاء الإسلام أعاقت ولا تزال تقدم نصف المجتمع وعطلت المجتمع كله ورهنت تقدمه. ولأنها لم تكن أولوية عند العرب والمسلمين لا في أول الإسلام ولا حتى الآن، ظلت تئن تحت وطأة فقه متخلف جامد لا يناسب طموحاتها. " إن عامة فقهاء الإسلام من سائر القرون إلا ما شذ يجنحون إلى العمل بأقوال من تقدمهم في العصر ولو بمئات السنين. ويحكمون بأحكامهم مهما تباينت أحوال المجتمعات الاسلامية باختلاف العصور. وهم يميلون في أخذ الأحكام إلى تفهم ألفاظ النصوص وما تحتمل من معنى أكثر بكثير مما يميلون إلى معرفة أوجه انطباق تلك النصوص على حاجات العصر وما تقتضيه مصلحة المجتمع الحاضر الذي يعيشون فيه." كيف اجتهد الحداد في الحقوق المدنية للنساء؟ فبعد بسطه للمقومات النصية للاعتبار الذاتي للمرأة في الإسلام، قام الحداد بتحليل ثاقب لما سماه بالحقوق المدنية للمرأة والتي أجملها في أربعة، الشهادة والقضاء، أهلية التصرف، حرية الحياة، والميراث، متسلحا في ذلك بالعدل والمساواة كبوصلة وبمِكْشافه لمواطن الظلم والحيف، وبالتدرج في الأحكام كمنهج. ففي تفسيره للامساواة في الشهادة التي جاءت مخصوصة بتوثيق الديون والتحري في ضبطها، (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى. (البقرة/282))؛ قال: " إن المرأة لم يكن لها هذا الحق، ولم تعتد أن تقف مع الرجال تشهد أمام القضاء الذي زاده الإسلام قوة وهيبة. وأيضا فإن تأخرها في الحياة من عامة الوجوه عن مركز الرجل فجعلها أقل ذاكرة منه فيما يرجع لعمل الفكر وضبط الحساب، خصوصا وهي إذاك لم تنل حظا من الثقافة والتهذيب يعدها لذلك. وقد رأى الإسلام فيها هذا الضعف فقرر أن شهادتها في ذلك نصف الرجل. وعلى ذلك بقوله في القرآن: ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)، ولم يعلله بسقوط في أخلاقها كما يحاول خصوم نهضتها. فلو أن الأمر لم يبعد أجله كالديون وكان أمرا يشاهد بالعين أو يسمع بالأذن، هل نتهم المرأة هنا بنقصان حواسها الظاهرة عن حواس الرجل أم نعلل ذلك بنقص في أخلاقها، وهو غير ما علل به القرآن تبعيض شهادتها في توثيق الديون؟" وهكذا يكون قد أبعد كل تبرير أخلاقي مما يعتمده محاربي نهضة النساء المسلمات ونأى بهذه اللامساواة بين النساء والرجال في الشهادة على توثيق الديون إلى مجال الإعداد الفكري وليس الجسدي أو الأخلاقي عندهن. وليُعزز أطروحته هذه، سوف يعتبر إيجاز الإمام أبو حنيفة تولي المرأة القضاء وتأكيده صحته، وهو الإمام الذي عاصر بقية الصحابة، الأكثر صوابا لأن هذا الإمام القريب زمنيا من أول عهد الشريعة لا يمكنه أن يفتي فيما يناقض جوهر الدين. فيقول: "فهل نفهم من هذا أن الإسلام يستنقص المرأة في جوهرها إذا جاءت شاهدا أمام القضاء ويكبرها إذ تكون على عرشه؟ إن الإسلام دين الواقع وبتطوره يتطور، وذلك سر خلوده. وليس في نصوص القرآن ما يمنع المرأة من تولي أي منصب في الدولة أو المجتمع مهما كان هذا العمل عظيما. وهذا يدل على أن هذه المسائل ليست من جوهر الإسلام وإلا ما كان يخلو القرآن من بيانها على الوجه المطلوب." وحتى يقطع الشك باليقين، ذهب الحداد رأسا إلى تحليل ما حكي عن النبي قوله معنى: " النساء ناقصات عقل ودين"، دون أن يدخل في جدال حول صحته من عدمها، يقول إن الرسالة الحقة للدين هي الإعلاء من شأن المسلمات في بيئة وَضعتهُنَّ في أسفل الدرك، وأن المسلمات مكلفات مثلهن مثل الرجال، وشرط التكليف العقل الذي يميز بني البشر أيما كان جنسهم. والنبي ليس في حاجة ليؤكد للعرب شيئا ألفوه وأراد الدين تغييره، ليؤكد لا يمكننا أخذ هذا القول بما تحتمل الألفاظ. وإلا تناقض هذا القول مع الرسالة الأصلية. وفي مطلق الأحوال، فإن من هو ناقص عقلا لا يمكنه لا أن يشهد ولو بالنصف ولا أن يتولى أمر القضاء ولا سلطة تدبير أموره وأمور أبنائه، ولا حق في الإرث ولو بالنصف، ولا أي شيء. وهل يعني هذا بالمقابل أن الرجال كاملون؟ إنه لعمري عبث وتيه العقل المتخلف في إضاعة الطاقة والجهد والوقت في سفاسف الأمور التي بها لا نزال في حضيض الأمم. ويعود ليواجه بالحجة اللذين يقاومون حقوق النساء ويدافعون على أدنى الأدوار لها " احتراما وصونا" لأنوثتها من اللذين تثير شهواتهم، ومن هؤلاء الذين يغررون بالنساء المسكينات إن لم يكونوا هم الذين يدافعون عن حجبها وحجابها؟ يقول الحداد: " إن المرأة قد تدرجت فعلا في صدر الإسلام فاستعملت ما أعطاها من حق وانتفعت به بقدر استعدادها. وبقدر ما سمحت به الظروف العامة إذاك، فلنقابل هذا بآراء الذين يريدون انزواءها وبعدها عن الحياة إلا في حدود منزلها. فهل تتوفق من دون غبن لكل تلك الأعمال المدنية المتشابكة مع غيرها وهي تطل من نافذة البيت أو تسمع أخبار وروايات الوكلاء والمخبرين خصوصا في العصر الحاضر الذي تشعبت فيه كافة لأعمال المدنية بصورة تستدعي دقة النظر واستيعاب حالة الوسط والأفراد وأخذ الحيطة في ذلك؟" ولنتصور أننا بقينا في حدود تصور الحجوي، لا تتعلم النساء فوق التعليم الابتدائي، ولا تقوم بأعمال غير تلك التي لا تعدو المنزل في خدمة الأبناء والزوج أو الإخوة والوالدين، كيف كان سيكون حالنا اليوم؟ إن الدفاع عن انزواء النساء في منازلهن لا يعرف مناصروه أنهم كانوا يجتهدون ليس في نشر قيم العدل ولكن في نشر جهالة قريش القاضية بالوأد الجديد للنساء حيَّات في القرن التاسع عشر والعشرين داخل البيوت. والنتيجة واحدة المزيد من تجهيل النساء والمجتمع معا. وعلاقة بحرية الحياة يدافع الحداد من داخل الشرع على أن النساء والرجال سواء في ذلك مستشهدا بالعديد من الآيات الموجهة لهما معا وأن ذلك حق من حقوق البشر. وأما بالنسبة لما نزل في القرآن حول الزينة وظهورها وإظهارها، قال الحداد أن في الأصل لا وجود لحجاب بينهما وإلا لما جاء ذلك في القرآن، وأن القرآن لم يحدد أين تكمن الزينة التي يجب إخفاءها احتراما لعادات الشعوب. وعندما تاه الفقه بمذاهبه الأربعة في تحديد محل الزينة التي يجوز أو لا يجوز إبرازها في سياقات اجتماعية مختلفة، قال الحداد: " ولله هذا القرآن العظيم في إبهامه ما ظهر من الزينة دون أن يعين مواقعه من ذات المرأة اعتبارا منه لأعراف الناس في ذلك بتطور الحياة." كيف يرى الحداد الأدوار الاجتماعية للنساء؟ الهدف من تأهيلها وتثقيفها أن تصير زوجا فأما. غير أنه يلاحظ أن الفتيات والنساء ببلاده تونس يوفرن مما تعلمنه وأنجزنه من نسيج وحياكة المصروف السنوي للأسر في الوقت الذي "… يستند فيه الكثير من الرجال على حيطان المنازل يقضون الوقت في لعبة الحصاة والنواة أو يتلهون بالحديث الفارغ." وفي البوادي تشتغل النساء في كل أصناف الأعمال الفلاحية دون أن يعود عليها ذلك بأي دخل أو تحسين لأوضاعهن أو إخراجهن من فقرهن. وهذه المساهمة القوية للنساء في الاقتصاد تشبه كثيرا ما كان شائعا ولا يزال في مناطق جبالة بشمال المغرب وبالخصوص في منطقة غمارة قبيلة بن عرضون حيث نما فقه حق الكد والسعاية للنساء. وقد اعتبر أن الثقافة الصناعية للنساء ضرورة من ضرورات حمايتهن من الفقر والتشرد والدعارة. وأن الثقافة المنزلية المتواترة عبر الأجيال لم تتطور بشكل علمي مع الوقت مما شكل معيقا أمام انسجام الأسرة. كما أن الثقافة العقلية ضرورة من الضرورات الاجتماعية للنساء والرجال لمواجهة سيادة الخرافة والشعوذة وسطهم. منتقدا التربية الخرافية التي يتربى عليها الإناث والذكور عبر الأجيال مما يذهب قدراتهم العقلية النقدية. وأما بالنسبة للثقافة الأخلاقية فقد جعل من التربية أساسا لها منتقدا أيضا شيوع ثقافة التخويف وما يتولد عنها من سلوكيات النفاق والرياء والكذب. وإذا كانت هذه الحالة يستعصي تغييرها عند الذكور الذين لهم فرص كثيرة للاطلاع على أفكار مختلفة للحرية التي يتمتعون بها، فإن تفكير الإناث المسجونات داخل البيوت يصبح من أشد ما يمكن تغييره. " فإذا كان من الصعب اقتلاع هذه السموم من ذهن الفتى وتخليص عقليته منها فكم يجب أن نتصور ذلك صعبا في جانب الفتاة وهي محرومة من الوسط المدرسي والوسط الاجتماعي." فأثر الخرافة على الثقافة الأخلاقية كبير. وقد وقف الحداد على خطورة التربية السائدة التي يتلقاها الفتيات والفتيان والتي لا تربي فيهم الرفق والنبل والمسؤولية والشعور بالفضيلة باعتبارها قيما، بل لا يعتبر الوالدان إلا العنف الانفعالي كوسيلة للطاعة مما ينتج عند الناشئة من السلوكيات الأنانية والعنيفة عوض الإقناع بالحجة. كل هذا الانتقاد للتربية التي تتلقاها الأجيال والتي لا تؤهلها للفضيلة ليقوم بتفكيك التربية التي تتلقاها الفتيات المبنية على مفهوم الشرف كَرديف لسجنها بين حيطان البيوت. " نحن نُعِدُّها ألا تتصل بالحياة إلا من طريق بيتها "حصن طهارتها وشعار شرفها الذي إذا فارقته لحظات من وقتها لغير ضرورة قاهرة فقد سقط شرفها في الحياة". وما ذلك إلا غيرة الرجل وشكوكه يبرزها في قالب يستهوي الأسماع، وبدل أن يعتمد على زكاء نفس المرأة وضميرها الحي بالثقافة القيمة والتعليم الصحيح يعدها لهما فهو يختار أن يضرب على بيتها منطقة الحصار تأمينا لنفسه من قوادح الشك وزارِع الشك لا يقتلعه إلا أشواك دامية في حياته وحياة زوجه." وحجاب المرأة عنده في البيت من أشد ما يتسبب في تخلفها العقلي وتدهورها الجسماني. إن عزل النساء عن المجتمع هو أشد الكوارث على النساء والمجتمع. بعد ذلك يقوم بتفكيك آفة أخرى ذات الصلة بهذه الأخيرة، وهي مشكلة ما يسمى بالحياء والذي بلغ حدوده ليتحول إلى خجل. " ومثل هذا يتلف الثقة بالنفس في كل أعمال ومواقف الجد التي تتطلب الإرادة والصراحة حتى لتضعف المسكينة عن النطق بكلمة الرضى أو عدمه في أمر يتعلق بحياتها كزواجها من فلان الذي اختير لها..." فالحياء ومنظومة الأخلاق بشكل عام الموجهة للنساء لا تبتغي إلا المزيد من إضعافها حتى إن ضُعفهن أصبح يعتبر خصلة حميدة تتميز بها بنات الأسر "المحترمة الأصيلة" ورمزا للأنوثة الباذخة، وهو في الحقيقة ليس إلا استمتاعا للرجل بقوة موهومة أمام امرأة مهزومة. إن فساد العقول في المجتمع بشكل عام وفساد عقول النساء بالخصوص جراء أوْضاعهن الاجتماعية وجراء فقه يمكن القول بأنه فاسد ايضا لأنه قديم ومتجاوز بالنسبة للزمن الحاضر، فكم تحتاج النساء من التعليم، يقول الحداد، لتثْقيفها في كل هذه المستويات وغيرها لتصبح زوجة ثم أما قادرة على تنشئة أبنائها بما يستحقه العصر. " ... ولم يبق وقت ولا مبرر للامتناع عن إنشاء مدرسة الفتاة إلى جانب مدرسة الفتى ليتم التقارب المطلوب إلا احتقارنا لمسألة المرأة وجهلنا نتائج ذلك الاحتقار في حياتنا التي ملئت كدرا وخيبة دون أن مآتيهما." وعلاقة بالزواج وإكراهات العائلات في تدبيره وسيادة اللامساواة داخل بيت الزوجية بين المرأة والرجل وتوغل الأمية والجهل وما إلى ذلك من الموبقات التي تصيب العلاقة الزوجية التي انبنت على تدخل العائلة، يقول الحداد: " إن الواجب يدعونا اليوم أكثر من كل وقت إلى النهوض من كبوتها الآتية من ظلمات القرون الغابرة، وأن نعتبرها عضوا حيا وشريكا مساويا لنا في الحياة بقدر استعدادها الذي ينمو بالثقافة والتعليم، وأن نزيح عن طريقها حكم الإكراه والجبر الذي نأخذها به اليوم. ولا ضمان لذلك غير تأسيس المحكمة التي تنظر في مسائل الطلاق وتدرس أسباب الخلافات الزوجية كما تنظر في أمر الزواج..." وما كان يدعو له الحداد هو إقامة محاكم خاصة بالأسرة لا تبث في الطلاق والخلافات الزوجية فحسب ولكنها أيضا تنظر في أمور الزواج كسياسة احترازية ضد شيوع الطلاق. وقد انتقد بشدة الزواج المبكر، أو كما سماه الحداد بالزواج دون السن، من الزاوية الاجتماعية، أي بناء على آثاره المدمرة للأسرة والمجتمع وبالخصوص بالنسبة للمرأة التي تصبح عرضة لكل أصناف الموبقات الاجتماعية من الفقر والدعارة والتشرد لِغياب الرشد الذي يمكن من اتخاذ القرار المسؤول. فهو لم يتناوله في زمانه من زاوية الحقوق الإنسانية للأطفال والطفلات التي نتكلم بها اليوم، ولكن تفطن لنتائجه المدمرة لشخصية المرأة وسكينة أعظم رباط بين المرأة والرجل ألا وهو رباط الزوجية. يقول: " وهكذا لا يصح شيء إلا عن رضى ورغبة فيه وشعور بمسؤوليته، ولا يتم ذلك إلا بعد بلوغ التمييز والرشد." تلكم مجموعة من مواقف الرجل التي تفطن لها بشكل مبكر في العشرية الثالثة من القرن العشرين، أي ما يقارب قرنا من الزمن على ما تعرفه الساحة العمومية ببلادنا اليوم في العشرية الثالثة للقرن الواحد والعشرين من جدل حول مجمل هذه المسائل في ورش الاشتغال على إصلاح مدونة الأسرة. وهذه المقالة عبارة عن احتفاء بالطاهر حداد وإشارة لاستحضاره أثناء هذا النقاش العمومي حول تمثلاتنا للنساء والرجال والأطفال والأسرة بتعدد أشكالها ببلادنا المغرب، وكذلك دعوة لإعادة الاشتغال على تفكير الرجل بمناسبة مرور مائة سنة على كتابه التاريخي "امرأتنا في الشريعة والمجتمع".