تشهد الساحة المغربية هذه الأيام جدلا ساخنا بين تيارات الفكر والثقافة حول أحكام الإرث، وذلك على خلفية توصية المجلس الوطني لحقوق الإنسان في تقريره الصادر يوم 20 أكتوبر 2015م. ففي الوقت الذي يطالب «العلمانيون» بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة، والقضاء على كل مظاهر التمييز بينهما بما فيها تلك التي تعود إلى بعض أحكام الشريعة الإسلامية، يقاومهم آخرون وجلهم من «الإسلاميين»، الذين يرون التفاوت بين البنت والولد في الإرث لا يعكس بحال من الأحوال ظلما للمرأة، وتنقيصا من قدرها أمام شقيقها الرجل، وهو في البدء والختام شرع الله الذي لا يظلم أحدا. وإذا كان هذا الجدل في عمومه إيجابيا، وينم عن حيوية المجتمع المغربي وانفتاحه في هذا الظرف الانتقالي الذي يمر به البلد، فإن الأطر الحاكمة لهذا النقاش، والخلفيات التي تحكمه تحد من إيجابيته، بحيث لا زال معظم هذا النقاش يتأطر ضمن ثنائية قاتلة، وخاطئة، «بين من يُتصور أنهم «علمانيون» كارهون للدين ومتآمرون عليه من جهة، وبين من يحسبون أنفسهم «إسلاميين» غيورين على الدين ومنافحين عنه من جهة ثانية»، الشيء الذي يُفرغ كل أشكال الحوار ومناسباته من محتواها الإيجابي، بل الأسوأ من ذلك يمسي هذا الحوار مناسبة لتعميق الخلاف، وتوسيع الهوة بين حساسيات المجتمع المختلفة. والجدير بالذكر في هذا السياق، أن نقاش مسألة المساواة بين الرجل والمرأة في العالم العربي مسألة قديمة وليست حديثة، مرَّ عليها أزيد من قرن من الزمان، وكان نقاشا بالدرجة الأولى بين فقهاء ومفكرين كثر، لا أحد يجادل في إسلاميتهم، ولعل التقدم الذي حصل في وضع المرأة القانوني والاجتماعي يرجع لهؤلاء الرواد. واليوم، وفي ضوء هذه التطورات ما أحوجنا لاستعادة الإطار المرجعي الموحد لمناقشة إمكانية المساواة في الإرث من منظور الشرع وليس خارجه. إن الخطأ الذي يُرتكب عادة في مناقشة مثل هذه القضايا هو استناد المتحاورين إلى مرجعيات مختلفة، ومتعارضة أحيانا، فكثير من المطالبين بالمساواة في الإرث، إن لم يكن كلهم، يعولون على مرجعيات حقوقية، إنسانية، وأممية، ولا يكترثون بالموقف الإسلامي، بينما المدافعون عن التفاوت ينطلقون من الإسلام، ويعتبرون مخالفيهم كفارا أو هم إلي الكفر أقرب بدعواهم، ومع هذا الانقسام يستحيل التواصل، أما التفاهم فلا أمل لتحقُقه، غير أن المقاربة الأنسب لمعالجة هذه المسألة، والتي لم يتح لها البروز، هي المقاربة التي تقارب الموضوع داخل المرجع الإسلامي، وتبحث آفاقه. ولا يخفى أن هذا النوع من المقاربات كان أساس جل الآراء الإصلاحية في الماضي، وإليها يرجع الفضل في التقدم الفقهي الذي شهده العالم العربي، وإذا كانت الظروف والأحوال التي مرت بها المجتمعات العربية في الماضي حدَّت من آفاق التجديد الفقهي، ولم تتح للفقهاء والمفكرين تناول كل أبعاد المسألة الاجتماعية في وقتهم، فإن درجة التحول التي بلغتها هذه المجتمعات مع بداية الألفية الثالثة تتيح فرصة النظر فيما تبقى من هذه المسائل، وفي مقدمتها مسألة الإرث. ومن ثم، إن بحث هذه المسألة في السياق الحالي ينبني على سؤال رئيس، وهو: هل هناك إمكانية للخروج - شرعا - عن حكم النص القطعي الثبوت والدلالة، استنادا إلى دلائل المصلحة والعقل وتبدل الأحوال؟، فإذا وجد هذا الإمكان، جاز الخوض في المسألة، وبحثها، أما إذا لم يوجد فلا معنى لأي حديث. في الخروج عن حكم النص القطعي الثبوت والدلالة: أحكام الإرث نموذجا إن توزيع الإرث بين الذكور والبنات من الأبناء فَصَّله نص قرآني قطعي الثبوت والدلالة، ولا يوجد بين الفقهاء المعتبرين في الإسلام من شكك في هذه الحقيقة، وهي من أمور المعاملات التي تدخل في باب المُقدرات كالحدود الشرعية والعِدد وغيرها. وإذا كان عدد من الأصوليين القدامى والمتأخرين أجازوا تقديم المصلحة أو المعاني بلغة الشاطبي على النصوص (القطعية الثبوت والدلالة)، التي لا تتناول المقدرات الشرعية، فإنهم لم يروا وجها لاعتبار المعاني والمصالح في النصوص التي تتناول المقدرات، ومنها نصوص الإرث، ومن أبرز هؤلاء الإمام الشاطبي رحمه الله (ت. 790ه) في الموافقات، ومن قوله في هذا الباب: و«الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني، فإذا وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص؛ كطلب الصداق في النكاح، والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث.. وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية، حتى يقاس عليها غيرها، فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح .. لتمييز النكاح عن السفاح، وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت.. ولكنها أمور جُملية، كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علّة شرع العبادات وهذا المقدار لا يقضي بصحة القياس على الأصل فيها، بحيث يقال إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أُخر مثلا لم تشترط تلك الشروط..». وبالرغم من خوض الكثيرين في هذه القضية الأصولية ممن سبقوا الشاطبي أو جاؤوا بعده، وفي مقدمتهم الإمام الطوفي (ت. 716ه)، ومصطفى شلبي (ت. 1997م)، فإنهم لم يتجاوزوا السقف الذي وقف عنده الشاطبي، واعتبروا التعليل والاستصلاح مهما دق، أو اتسع، لا يتناول أحكام النصوص القطعية التي تتناول المقدرات الشرعية وفي مقدمتها المواريث، ومن ثم لا أمل - مع هذا المنظور الأصولي - في الخروج على أحكام المواريث. كيف تعامل الفقهاء المعاصرون مع تفاوت الأنصبة في الميراث؟ إن جل الفقهاء المعاصرين الذين تناولوا أحكام الإرث وقفوا حيث انتهى المتقدمون، واكتفوا بتكرار الأدلة الأصولية التي استدل بها المتقدمون، غير أن الميزة التي تميزوا بها، والإضافة التي أضافوها، هي السعي الحثيث لبناء «معقولية» - بلغة الجابري - عصرية وحديثة لأحكام الإرث، وفي مقدمتها التفاوت في الميراث بين البنت والولد، حيث عللوا هذا التفاوت، وأظهروا وجوه العدالة فيه، وبينوا في هذا السياق أن التمييز الظاهر على مستوى النص، هو حكم يحقق المساواة والتكافؤ بين الجنسين وليس العكس، وذلك باعتبار معطيات العرف الاجتماعي، وأحكام أخرى، يقول الإمام رشيد رضا (ت. 1935م) في هذا المعنى: «والحكمة في جعل حظ الذكر كحظ الأنثيين هي أن الذكر يحتاج إلى الإنفاق على نفسه وعلى زوجه، فكان له سهمان. وأما الأنثى فهي تنفق على نفسها، فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها وبهذا الاعتبار يكون نصيب الأنثى من الإرث أكثر من نصيب الذكر في بعض الحالات بالنسبة إلى نفقاتهما»، ولا عبرة في هذا المقام بقول البعض أن الحكمة من نقص سهم المرأة عن الرجل راجع إلى نقص في عقولهن وغلبة شهوتهن المفضية إلى الإنفاق في الوجوه المنكرة. ونفس التعليل يكرره الشيخ يوسف القرضاوي في فتاويه، حيث يقول: «أمَّا التفاوت في الميراث بين الرجل والمرأة والذي جاء فيه قوله تعالى: ﴿يُوصيكم اللهُ في أولادِكم للذكَر مثلُ حظِّ الأنثيين﴾، فالواضح أنه نتيجة للتفاوت بينهما في الأعباء والتكاليف المالية المفروضة على كل منهما شرعًا. فلو افترضنا أبًا مات، وترك وراءه ابنًا وبنتًا، فالابن يتزوج فيدفع مَهرًا، ويَدخل بالزوجة فيدفع نفَقَتها، على حين تتزوَّج البنت فتأخذ مهرًا، ثم يَدخل بها زوجها، فيَلتزم بنفقتها، ولا يكلِّفها فِلْسًا، وإن كانت مِن أغنى الناس، ونفقَتها تقدَّر بقدْر حالِهِ من السَّعة والضيق، كما قال تعالى: ﴿لِينفِق ذو سعَةٍ مِن سَعتِه﴾. فإذا كان قد ترك لهما الأب مائة وخمسين ألفًا مثلاً، أخذ الابن منها مائة وأخته خمسين. فعندما يتزوج الابن قد يدفع مهرًا وهدايا نقدِّرها مثلاً بخمسة وعشرين ألفًا فينقُص نصيبه ليُصبح (75.000) خمسة وسبعين ألفًا، في حين تتزوَّج أختُه فتقبِض مهرًا وهدايا نقدِّرها بما قدَّرنا به ما دفع أخوها لمثلها. فهنا يزيد نصيبها فيصبح (75.000) خمسة وسبعين ألفًا، فتساوَيَا. ثم تتزايَد أعباء الرجل ونفقاته، فهو يُنفق على أبنائه وبناته الصغار، وقد ينفق على أبويه الكبيرين إذا كانا مُعسرِين ويُنفِق على إخوته وأخواته الصغار إذا لم يكن لهم مورد، ولا عائل سواه، ويُنفق على الأقارب والأرحام بشروط معروفة، والمرأة لا يجِب عليها شيء من ذلك، إلا من باب مكارم الأخلاق». وجلُّ التعليلات التي أتى بها المعاصرون دفاعا عن التفاوت في الإرث يشبه بعضها بعضا، إلا في القليل، ومن هذا القليل ما ذكره العلامة المغربي الشيخ مصطفى بن حمزة في سياق دفاعه عن التفاوت، فخلافا لمذهب غيره من الفقهاء، ألمح إلى أن مسألة المساواة بين المرأة والرجل متعذرة، ففي الوقت الذي توجد أحكام لصالح الرجل ومنها بعض حالات الإرث، هناك أحكام أخرى لصالح المرأة مثل وجوب الصداق والنفقة على الرجل، ووجوب الحضانة للمرأة..، ومن ثم، فالمسألة يجب أن تؤخذ في شموليتها، إذ المساواة المطلقة والتامة مستحيلة. وصفوة القول؛ إن منهج الفقهاء المعاصرين المدافعين عن التفاوت في الإرث بين البنت والولد، يقوم على مبدأين رئيسين: الأول، هو أن حكم الله في الإرث لازم، ولا يتغير ولا يتبدل، باعتبار قطعية ثبوته، وقطعية دلالته، وهو – كما قال الشاطبي – ملحق بالعبادات وإن تعلق بالمعاملات؛ والثاني، استعادة معقولية هذا الحكم، وذلك ببيان وجه العدالة والمساواة بين الرجل والمرأة من خلال هذا الحكم وغيره من الأحكام المتصلة به. المساواة في الإرث لدى بعض الإصلاحيين: شكلت المسألة الاجتماعية في الإسلام محور عدد من المعارك الثقافية والفكرية بالعالم العربي مع نهاية القرن 19م وبداية القرن 20م، وخاض في معمعانها معظم رموز الإصلاح والنهضة، وذلك في سياق اليقظة الفكرية والسياسية، التي شهدتها بلاد العرب بعد أن صدمهم الغرب في أكثر من مناسبة. وقد استمدت هذه المسألة أهميتها ومكانتها في حديث الإصلاحيين العرب من اعتبارها أحد مفاتيح الإصلاح والتقدم، بحيث ساد الاعتقاد لدى معظم مفكري النهضة العربية، أن استعادة الأمة لدورها التاريخي، مستبعد، إن لم يكن مستحيلا دون إصلاح اجتماعي. وإذا كانت جهود إصلاح الشأن الاجتماعي لدى الإصلاحيين الأوائل انصبت على قضايا ذات أولوية قصوى، كتعليم الفتاة، وعملها..، فإن قلَّة من هاته الجهود اتجهت - فيما ألفته من أعمال - إلى مناقشة مسألة الإرث، وإعادة النظر في التوزيع الشرعي للميراث بين الذكر والأنثى، ومن هؤلاء القلة الإصلاحي التونسي الطاهر الحداد (ت. 1935م)، والمثقفة اللبنانية نظيرة زين الدين (ت. 1976م)، اللذان لم يترددا في مناقشة مسألة المساواة في الإرث بين الأبناء، وسلكوا لإثباتها مسلكا مختلفا عما درج عليه المتقدمون والمتأخرون في هذا الباب. لقد انطلق الطاهر الحداد في هذا الموضوع من حقيقة أساسية وهي أن الإسلام «حقق خطوة ثورية بتمكين المرأة من الإرث في الوقت الذي كانت هي نفسها تورث»، وإن تمييزه بين المرأة والرجل في الإرث، ليس عاما، وفي سائر الأحكام، بل يهم حالات محدودة، بحيث نجد الإسلام يسوي بين الجنسين في بعض الحالات، كميراث الأبوين مع وجود الولد، وفي الكلالة. ويُرجع الطاهر الحداد هذا التمايز إلى عوامل ثقافية وعرفية ليس أقلها اعتبار البنات مخلوقات لإعمار بيوت غير بيوتهم، وأبناء الإناث هم أبناء أناس آخرين.. وما إلى ذلك من الاعتبارات الجاهلية، وللإسلام عذره في اعتبار هذه الظروف في التنزيل والتشريع. غير أن الإسلام مع إقراره بهذا التفاوت حسب الطاهر الحداد، فإنه «لم يقرر نزول ميراث المرأة عن الرجل كأصل من أصوله التي لا يتخطاها»، بدليل مساواته بينهما في بعض الحالات، ومن ثم، فالإسلام في المحصلة النهائية «لم يعطنا حكما جازما عن جوهر المرأة في ذاتها. ذلك الحكم الذي لا يمكن أن يتناوله الزمن وأطواره بالتغيير. وليس في نصوصه ما هو صريح في هذا المعنى. إنما الذي يوجد أنه أبان عن ضعف المرأة وتأخرها في الحياة تقريرا للحال الواقعة، ففرض كفالتها على الرجال مع أحكام أخرى بنيت على هذا الاعتبار (..)، ولا شيء يجعلنا نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير». أما أطروحة السيدة نظيرة زين الدين، التي لا يختلف منحاها عن أطروحة الطاهر الحداد، فقد انطلقت من كون الإسلام اضطر - سياسةً - إلى التعايش مع بعض العادات المكروهة، والإبقاء على شيء منها، كالاسترقاق، وتعدد الزوجات، واقتبست في هذا السياق كلاما للشيخ الغلاييني (ت. 1944م)، يؤكد هذا المعنى، لتنتهي من ذلك كلِّه إلى أن التفاوت بين المرأة والرجل في بعض حالات الإرث هو من هذا القبيل، ذلك أن «حكمته تعالى اقتضت أن نترك أثرا من العادات السيئة طمأنينة لقلوب أصحابها، ولكنه سبحانه أنزل في كتابه من الحكمة آيات، ورسوله (ص) أتانا في أحاديثه ببيِّنات أزالت المحاذير من بقاء ذلك الأثر (..) وكان الله تعالى عليما بأن أولي الألباب يمحونه مع الزمان محوا تبعا للحكمة المكنونة في تلكم الآيات والأحاديث، تلك الحكمة التي يعلم الله أنها لن تخفى عليهم. فكان تعالى بذلك مبيحا استرقاق العبيد متشوقا إلى حريتهم، وهكذا كان متشوقا إلى منع تعدد الزوجات، وإلى إزالة كل فرق في الحقوق بين المرأة والرجل، وهذا من الأمور التي قال بها ذلك المحقق الكبير الشيخ محمد عبده». واعتبرت في هذا السياق أن الدول الإسلامية التي أقدمت على المساواة بين الرجل والمرأة في الشهادات، والإرث وغيرهما «لم تخالف أمر الله وسنة رسوله بما سنته من الشرائع ماحية بذلك من بقية سيء العادات ذلك الأثر، إنها أدركت الحكمة الموروثة في آيات الله وأحاديث رسوله، فأزالت الرق وكل فرق بين الرجل والمرأة. إنها اتبعت الروح من الآيات والأحاديث لا ظاهرها، وعلى الإسلام، وكل ذي الأفهام أن يعتنوا بالروح لا بالظاهر». وإجمالا؛ إن الطاهر الحداد ونظيرة زين الدين في فسحهما المجال أمام المساواة في الإرث بين الذكر والأنثى اتخذا مسلكا منهجيا مختلفا عن منهج المتقدمين، انبنى على ثلاث مبادئ كبرى وهي: أن الإسلام في جوهره انتصر للعدل والمساواة بين سائر خلقه بغض النظر عن الجنس أو العرق، وأبطل في هذا السياق كل أشكال التفاضل الجاهلية؛ أن الإسلام مع إقراره لمطلق العدالة والمساواة، فقد تفاوض مع الواقع أثناء تنزيل هذه القيم، وهو ما أدى إلى استمرار بعض المكروهات والنواقص من قبيل التفاوت في الإرث والاسترقاق..؛ أن الإسلام في سعيه لترسيخ الفضائل والقيم التي جاء بها نهج أسلوب التدرج، وساق الناس هونا نحو عليائه، وظهر هذا الأمر في تحريم الخمر، ورفع الرق.. إلخ. ومن ثم، فأفق الإسلام في موضوع الإرث – بحسب هذه الرؤية – هو المساواة بين الذكر والأنثى، وحيثما أتيح للمسلمين هذا الأمر لِتَطَورٍ في الواقع الاجتماعي والثقافي، جاز لهم أن يسووا بين أبنائهم وبناتهم في توزيع الميراث. خاتمة، وأسئلة للبحث: إن الاستدلال على شرعية التفاوت في الإرث بين الأبناء يتأسس على قاعدة شرعية – عقلية وهي: أن مسألة الإرث وإن تعلقت بالمعاملات فهي ثابت من ثوابت الدين القطعية، الملحقة بالتعبد، التي لا فائدة من البحث في عللها، فالأصل فيها الاتباع والخضوع، وإن التعليل في هذا الباب، وخاصة لدى المتأخرين، هو نوع من الاستئناس، ومن ثم فالفقهاء المعاصرون عندما يبحثون عن معقولية هذا التفاوت، سواء بالإتيان بالأحكام الأخرى التي تعطي الامتياز للمرأة على حساب الرجل، أو بذكر الظروف التي تحتم الإبقاء على التفاوت، لا يعني ذلك - أبدا – أنهم مستعدون في حال ظهور تعليلات معاكسة، وأحوال جديدة تؤكد عدم وجاهة التفاوت يمكنهم التخلي عن حكم النص، ومن ثم إقرار المساواة. وقد بدا واضحا أن الذين طالبوا بالمساواة من الإصلاحيين خاصة، خرجوا على هذه القاعدة/المنهج، واعتبروا هذا النوع من الأحكام أحكاما ظرفية، وفي حدود ما كان يطيقه الزمان الأول، وإن الأصل الأخلاقي الإسلامي هو المساواة والعدالة بين بني آدم مهما كان جنسهم أو نسبهم أو لونهم.. فإذا، السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: من أين تستمد هذه القاعدة شرعيتها الدينية؟، هل إلحاق هذا النوع من المعاملات التي تتناولها نصوص قطعية الثبوت والدلالة بمجال العبادات إلحاق مشروع؟، ثم إذا كانت الكثير من النصوص القطعية الثبوت والدلالة، وفي مجال المٌقدرات الشرعية وغيرها كأحكام الحدود، والرق، والرضاعة..، تم تجاوزها بالشرع، وعوضت بأحكام أخرى أكثر مناسبة لظروف الزمان والمكان، ألا يمكن أن يحصل نفس الشيء في مسألة الإرث، بتأويل معين؟. إن هذه الأسئلة تفسح المجال أمام الباحثين للنظر العلمي في هذه المسألة بعيدا عن آفة التسييس التي تجهض كل محاولة للنهوض بالعلوم الشرعية، وتكرس الجمود وتعطل الاجتهاد، وذلك بسبب الخوف من المُقلدة الذين ضيقوا كثيرا على حرية البحث في السنين الأخيرة. *أستاذ باحث