ما قامت به التلفزة المغربية، أثناء تغطيتها لوقائع زلزال الحسيمة (24 فبراير2004)، من "تعذيب" للمنكوبين الذين كانت تستجوبهم بالعربية (المقصود العربية الفصحى)، تكرّره في تغطيتها لوقائع زلزال الحوز (8 سبتمبر 2023). ولهذا سأكرّر، بخصوص هذا الزلزال الأخير، تقريبا نفس ما كتبته بالعدد 84 من "تاويزا" لشهر أبريل 2004 تحت عنوان "الزلزال والعربية الفصحى!" (انقر هنا)، حول فَعْلَة قنوات التلفزة المغربية بخصوص الزلزال الأول. فكم كان غيرَ مناسب ولا لائقٍ، ولا حتى إنساني، أن تستعمل هذه القنوات (الأولى والثانية وميدي1…) العربية في تواصلها مع الناجين من زلزال الحوز، وهم الذين لا يجيدون حتى الدارجة. فبدل أن يتحدّث هؤلاء عن معاناتهم بكل عفوية وارتياح، ينشغلون بالبحث عن الكلمات "الفصيحة" أو المناسبة بالدارجة قصد التعبير فلا يجدونها، فيغيب المضمون الذي يريد المراسل إيصاله إلى المشاهد، ويتشوّش الكلام ويضطرب المعنى وتضيع الفائدة من النقل المباشر. أما عندما يوجّه الصحفي أسئلته بالعربية إلى مسؤول بالإدارة الترابية أو مستشار جماعي أو طبيب أو ممرض…، فإن "عقدة اللسان" لدى المغاربة (انقر هنا)، التي رسّخها التعريب الهوياتي والإيديولوجي، مع ما يتضمّنه ذلك من احتقار للغتين الوطنيتين (الأمازيغية والدارجة)، تدفع هذا المسؤول إلى الرد بالعربية، التي ربما لم يسبق له أن ارتجلها طوال حياته كلها. فتراه يتلعثم ويضطرب ويرتبك ويقفز من كلمة إلى أخرى لا رابط بينهما ولا معنى لهما بالنسبة إلى الجواب الذي يريد أن يقدمه. إنه عذاب أليم يمر به ذلك المسؤول الذي يقضي كل الوقت في البحث عن الألفاظ دون أن يقول شيئا مفيدا ذا صلة بموضوع السؤال. أما عندما يسأل الصحفي أحد المنكوبين "المتعلمين" بالعربية، فتلك نكبة أخرى تنضاف إلى نكبة الزلزال، وألم آخر يزيد من ألم المأساة، ورعب آخر يمارس عليه فضلا عن رعب الفاجعة. فهل يحتاج المنكوب المكلوم في ذلك الموقف إلى العربية، أو حتى إلى الدارجة، ليعبّر للمشاهدين عن مشاعره إزاء أهوال الزلزال؟ إنه إرهاب حقيقي مارسه المراسلون على مواطنين بسطاء، على قدر قليل من المعرفة بالعربية، وهم يحاولون التكلم بها لوصف ما حدث. مع أنه لا توجد لغة في الدنيا كلها يمكنها أن تُفصح بصدق عن مشاعر وأحاسيس الذين عاشوا أهوال الزلزال مثل لغة الأم. وكم أصاب أحد الريفيين، خلال تغطية وقائع زلزال الحسيمة، كما سجلت ذلك في المقال المشار إليه أعلاه، عندما سأله الصحفي بالعربية فأجابه: «نشكر كل المسؤولين عن هذه الكارثة»، وهو يريد شكر المسؤولين عن تقديم المساعدات لضحايا الكارثة. لكن العربية التي حاول التحدث بها وهو لا يجيدها قلبت المعنى وأعطت آخر لم يكن هو المقصود. وهذا مثال ينطبق تماما على كارثة لغة التواصل مع منكوبي كارثة زلزال الحوز. إن ما فعلته هذه القنوات باعتمادهما لغة عربية للتواصل مع الضحايا الناجين لا يجيد ارتجالها حتى الصحفيون أنفسهم فبالأحرى السكان المنكوبون، يعدّ استهتارا غير مقصود بآلام هؤلاء المنكوبين، وبحدادهم وأحزانهم. لقد ردّدت هذه القنوات الكثير من الكلام عن التضامن الذي اعتبرته يتلخص في توفير المأوى والطعام والغطاء والعلاج… للمتضرّرين. لكنها تناست أن مما يدخل في صلب التضامن والدعم النفسي والمعنوي للمصابين والمنكوبين في مثل فاجعة بحجم زلزال الحوز، هو مخاطبتهم بلغتهم والتحدّث إليهم بلهجتهم ليشعروا بالقرب الذي يحمله التضامن الصادق والحميمية التي تتضمنها المواساة الحقيقية. أما استعمال العربية للكلام إليهم ومعهم فهو يقيم، في الحقيقة، مسافة بينهم وبين مستعمل هذه العربية، مما يُشعرهم بانعدام الأمن النفسي ويخلق لديهم الانطباع أنهم متخلّى عنهم رغم كل أشكال الدعم المادّي الكبير المقدّم إليهم. لكن هذا الدعم يبقى، مع ذلك، بلا أي أثر يُنتج الشعور بالأمن النفسي بسبب التواصل معهم بغير لغتهم التي هي وحدها القادرة على توفير هذا الأمن النفسي لهؤلاء المنكوبين. كان على القنوات الوطنية، ولو بصفة استثنائية، أن لا تستعمل، وهي تنقل وقائع مباشرة من جماعات الحوز وتارودانت، سوى الأمازيغية التي يتكلمها سكان المنطقة التي ضربها الزلزال، تعبيرا عن تضامن معنوي معهم ودعم نفسي لهم، واقتراب حقيقي من آلامهم ومعاناتهم، واحتراما وتقديرا لحدادهم وأحزانهم. فقد رأينا الفرق الكبير بين من سئلوا بالعربية وكان عليهم أن يردوا بالعربية أو الدارجة، وبين من سألتهم القناة الثامنة بالأمازيغية وكان ردّهم بالأمازيغية. فالأوائل الذين سئلوا بالعربية بدوا مرتبكين، فزعين، مذعورين، كغرباء، يتكلمون كأنهم يقولون شيئا لا يصدقونه، كأنهم يكذبون، يبذلون مجهودا ضائعا، لا في تذكّر ما وقع، بل في تذكّر الألفاظ التي تستعمل في غير سياقها وبغير معناها، حذرين من محاورهم كأنه يريد قطع لسانهم الذي أبقى عليه الزلزال حيا. كل ذلك جعل الموقف مضحكا رغم أنه مؤلم ومحزن أصلا. أما الآخرون، الذين تناولوا الكلام بالأمازيغية، فقد تحدثوا بشكل طبيعي وعفوي، وبكل ارتياح وثقة في النفس، غير خائفين ولا مذعورين، مركزين على موضوع السؤال بدل تحويل الموضوع إلى بحث عن الكلمات، صادقين في ما يقولون، مطمئنين إلى محاورهم غير حذرين منه لأن اللغة الأمازيغية قرّبت بينهما وألغت كل مسافة تواصلية قد تفصل بينهما كما في حالة استعمال العربية. لن ألوم هنا القنوات الأجنبية العربية (الجزيرة، العربية، سكاي نيوز عربية…) التي كان "تعذيبها" للمستجوَبين المنكوبين لا يختلف عما فعلته القنوات الوطنية. فهذه القنوات معذورة لأنها تعتبر المغرب، كما يروّج ذلك المسؤولون، بلدا عربيا. ولهذا فهي لم تلجأ إلى خدمة الترجمة كما فعلت عندما كانت تستجوب منكوبي زلزال تركيا (6 فبراير 2023). مع أن قناة الجزيرة عوّدتنا على اللجوء إلى هذه الترجمة عندما تستجوب مغربيا يتحدّث بالدارجة، نظرا أن المشارقة لا يفهمون الدارجة المغربية. والغريب واللافت أن هذا الإصرار على استعمال العربية من قبل التلفزة المغربية في التخاطب مع المواطنين، وفي حالة يحتاج فيها المواطن إلى لغته الحميمية، ظاهرة منتشرة بالمغرب والجزائر، أي لدى أكبر بلدين أمازيغيين، أكثر من انتشارها بالبلدان العربية بالمشرق. بل إن هذه البلدان أصبحت تستعمل لهجاتها غير الفصيحة حتى عندما يتعلق الأمر بخطابات رسمية من طرف مسؤولي الدولة، كما في دول الخليج. أما في مصر فكل الخطابات والحوارات، وحتى المناقشات البرلمانية، تتم باللهجة المصرية. شيء طبيعي أن تستعمل هذه البلدان لهجاتها العامية في التواصل والتخاطب الشفوي مع مواطنيها لأن اللغة العربية ليست لغة تخاطب وتواصل شفوي في أية منطقة من العالم ربما فقط في المغرب والجزائر! ، بل هي لغة للكتابة والقراءة فقط لأنها ليست لغة طبيعية ولا لغة أمّ لأي كان في هذه الدنيا. فمتى سيفهم المسؤولون هذه الحقيقة ويكفّون عن ممارسة العدوان اللغوي على المواطنين البسطاء وإرهابهم بعربية لا يتخاطب بها أحد في العالم كله، خصوصا إذا نجوا من زلزال قتل أفرادا من عائلاتهم، مما يستوجب مخاطبتهم بلغتهم حتى يحسوا بالدفء والعطف والصدق الذي تحمله المواساة الحقيقية. قد نستغرب كيف لم يتغيّر أي شيء، على مستوى لغة التواصل، منذ زلزال الحسيمة (2004) حتى زلزال الحوز (2023). فإذا كان من الممكن التذرّع، في 2004، بأن العربية هي اللغة الرسمية للدولة، ولهذا لم تستعمل وسائل الإعلام اللغة الأمازيغية، فإن هذه الأخيرة هي أيضا لغة رسمية منذ دستور 2011. لكن التغطية الإعلامية لوقائع زلزال الحوز لا تختلف، دائما بخصوص لغة التواصل مع السكان، عن نفس التغطية الإعلامية لزلزال الحسيمة في 2004. فأين هو ترسيم الأمازيغية؟ لماذا اختفى كما لو لا زلنا نعيش في 2004 وليس في 2023؟ ربما اختفى لأنه لم يوجد أصلا وحقيقة، وإنما وجد تشبيها واستعارة فقط. ولهذا إذا كان الزلزال قد دمّر مساكن الناجين، فإن مخاطبتهم بالعربية أو حتى بالدارجة ، هو تدمير لمسكنهم الوجودي الأول والأخير الذي تشكّله لغتهم الأمازيغية، حسب وصف "هايدكر" Heidegger اللغة بكونها «مسكن الوجود» (Le langage est la maison de l'être). ومن مآسي الأمازيغية، وهو ما يعجّل بتدمير مسكنها الوجودي، أن كل حدث، بحجم وطني أو جهوي، هو فرصة لتدمير وجودها بمزيد من التعريب، الذي يستعمل ذلك الحدث لإقصائها، كما استُعملت كارثة الزلزال، ولو بدون قصد ولا تخطيط، كفرصة لدفع الناطقين بالأمازيغية إلى الحديث بغير لغتهم، مما يجعلهم مساهمين، على الرغم منهم، في تدمير مسكنهم الوجودي. أما الذين يردّون، اقتناعا أو رياء، بأن العربية، لكونها لغة القرآن، فهي الحاملة والحامية للإسلام، فنقول لهم، رغم ما قد يبدو لهم في ذلك من مفارقة، بأن اللغة التي حمَلت وحمَت الإسلام بالمغرب هي اللغة الأمازيغية التي يتحدّثها ضحايا زلزال الحوز وتارودانت. وقد رأينا، من خلال التقارير التلفزيونية المصورة حول آثار الزلزال، أن صوامع المساجد، أو ما تبقّى منها، متواجدة في كل مكان وعلى مساقات قريبة بعضها ببعض. كل هذا يدل على الحضور القوي للإسلام لدى هؤلاء السكان. ولم يكن هذا الحضور باستعمال العربية بل باستعمال الأمازيغية التي بها حافظ الأمازيغيون على الإسلام المغربي الأصيل، أي الإسلام الأمازيغي، وحموه من النزعات المتطرفة ومن السلفية المشرقية وما يرتبط بها من إسلام سياسي. فعلوا ذاك، ليس بكثرة الملل والنحل المتصارعة وتعدّد المذاهب المتنازعة، بل بممارسته كدين يتوافق مع فطرتهم وطبيعتهم ولغتهم الأمازيغية، كما نجد عند الكثير من الشعوب المسلمة غير العربية.