إن حركة 20 فبراير التي ظهرت اليوم في المغرب، تشخص أثراً من آثار العولمة، فهي تمثل أحد الأوجه الإيجابية لظاهرة التنميط الذي تقوم عليها تلك العولمة، علماً بأن هناك أيضاً أوجه سلبية للظاهرة. نعاين اليوم، كيف أن "بعض" الشعوب تعبر عن رغبتها في أن تعيش مثل "بقية" الشعوب. تعتبر شعوبنا شيئا فشيئا أن من غير المشروع أن تُحرم من الديمقراطية. فأن يُحرم شعب من الديمقراطية فكأنه حُرم من الماء والهواء. شيئا فشيئا تدرك شعوبنا ألا شيء يبرر تعليق أو تجميد أو تأجيل الديمقراطية أو تقسيطها أو إفراغها من جوهرها الكوني المتعارف عليه. شيئا فشيئا تتوصل شعوبنا إلى أن من حقها العيش في ظل نظام سياسي، يعتبر إرادتها مناطاً لسلطة الحكم، ويوفر لذلك انتخابات عامة نزيهة ودورية ومفتوحة، وآليات للتداول و التعددية، وقضاء مستقلاً عن السلطات الأخرى، وأحزاباً متكافئة من حيث الحقوق والواجبات، وإعلاماً شفافاً ومتحرراً من القيود التعسفية، ورقابة دائمة ومحاسبة حقيقية على أوجه ممارسة المسؤولية، وأجهزة لتأمين الحكامة، وسيادة للقانون، واعترافاً بالمواطنة الكاملة. شيئا فشيئا تشعر شعوبنا أن تَحَمُّلَ المزيد من الاستبداد لم يعد ممكنا، وأن محاولة تسويغه لم تعد قادرة على الإتيان بنتائج مضمونة، وأن الأنظمة القائمة على الاستبداد والانفراد بالتقرير في مكان الشعب أصبحت جزءاً من الماضي، وأن الوقت قد حان لرحيل المستبدين ومحاسبة المفسدين ولكشف حقائق ما يجري في السرايا وما تضمه خزائن الحكام من ثروات ومجوهرات وعملات صعبة وما تحفل به حياتهم من سفه واستهتار. لقد كان الملك الراحل يمتلك حساً سياسياً وقدرة مذهلة على الاستقراء وفهم التحولات الجارية واستيعاب اتجاه الأحداث، أكثر من خصومه أحياناً. فهو توصل مثلاً إلى إدراك حقيقتين اثنتين : - الحقيقة الأولى هي أن العالم يتغير، ولم يعد في نفس الحال الذي كان عليه من قبل، وأن التغير عميق وجوهري. - الحقيقة الثانية هي أن المغرب لن يفلت أبداً من تأثير هذا التغيير، وأن رياح التغيير ستهب على البلد، وأن أمواج التغيير ستلطم يابسته، وأن أفكار التغيير ستطرق باب البلد. ولهذا قرر الملك الراحل أن يتهيأ لتلك اللحظة التي سيصل فيها مطلب التغيير إلى المغرب وتتلقفه حناجر الشباب، ويكتبه عشرات الآلاف من المتظاهرين على لافتاتهم. فكأن الحسن الثاني، كان ينتظر بزوغ حركة مثل حركة 20 فبراير تطالب بالتغيير، إسوة بحركات الشباب التي نزلت إلى الشوارع العربية لإسقاط الاستبداد وإنهاء عهود الوصاية والتحكم في الرقاب وكبت الأصوات ومصادرة الحريات ونهب أموال الشعب وقمع قواه الحية. اعتمد العاهل الراحل في إعداد نظام الحكم مبكراً لاستقبال "زمن التغيير" الحالِّ في مختلف أرجاء المنطقة العربية، على ثلاثة أسس : أول تلك الأسس هو محاولة إظهار المغرب في صورة بلد أتم تغييره، وأنجز تورثه، وحقق تحوله نحو الديمقراطية، أي أن نكون في ظل وضع توحي بعض مظاهره بحصول التغيير دون أن يكون هذا الأخير قد جرى فعلاً، وأن نكون على هيأة بلد يمنح الناس انطباعاً زائفاً بوقوع الإصلاح فيه، ويبيعهم وهم الإصلاح. منذ التسعينات ونحن نعيش في حالة تشبه بداية الإصلاح، بدون إصلاح. ونقصد بهذا الأخير هنا، حصول تغيير عميق وجوهري في نمط توزيع السلطة وتغيير عميق وجوهري في نمط توزيع الثروة. التغيير الأول يقود إلى الديمقراطية الحق، والتغيير الثاني يقود إلى ضمان الحد الأدنى المطلوب من شروط العدالة والإنقاذ والمساواة وتأمين حماية البلد من خطر الانفجار الاجتماعي بسبب شدة الفقر وعمق التفاوتات بين الفئات والجهات. ثاني تلك الأسس هو وضع أهم القوى المؤهلة لقيادة التغيير في ثلاجة المشاركة الحكومية، وتحنيطها وتجميد طاقة الحركة والفعل لديها، وإيصالها إلى حالة مفعمة بكل مظاهر الالتباس والتناقض : فهي تشارك في الحكومة، وهي في نفس الوقت غير راضية على تلك المشاركة. ثالث تلك الأسس هو التمكن من استيعاب الأغلبية الساحقة من النخب وتجريدها من شحنة الاستقلالية، وتحويلها إلى كائنات مستعدة، في أغلب الظروف والحالات، إلى مقايضة الإصلاح بالمنافع الذاتية، وقبول التنازل عن "جوهر" الديمقراطية مقابل "شكلها"، والدفاع عن أي دستور جديد يُوضع بالبلاد، كيفما كان محتواه ومضمونه، وحتى وإن لم يطابق معايير الديمقراطية الكونية ولم يأت بجديد ذي قيمة جوهرية ونوعية. لقد انتصبت تلك النخب ضد مبادرة شباب 20 فبراير، وشكّكت في نواياهم، واعتبرت عملهم داخلاً في مؤامرة ضد استقرار بلدنا ووحدته الترابية وشكل نظامه، ثم عادت نفس النخب للإشادة بالطابع السلمي للمسيرات ونضج الشباب المغربي وضرورة القيام بإصلاحات مؤسسية ودستورية واقتصادية واجتماعية، بل إن هناك من طالب بالملكية البرلمانية. هذا التحول يفيد بوجود إشارات بأن "مركز القرار" في الدولة قد يقبل على تقديم "تنازلات" مثل مختلف الأنظمة العربية. وفي حالة حصول تلك التنازلات يمكن للنخب المعنية أن تقدم التنازلات المبذولة على أنها جاءت نتيجة نضالها وعملها بجانب الشباب ودورها في الساحة من جهة، وأن تحاول الزعم بأن تلك التنازلات هي عين الإصلاحات التي كانت تطالب بها من جهة أخرى. إن بعضاً من تلك النخب قد اعتبر الإعلان عن إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي شروعاً في الجواب اللازم على المطلب الإصلاحي، وهذا البعض نفسه قد يعتبر الإعلان عن دستور جديد تحقيقاً لمطلب الملكية البرلمانية حتى ولو جاء النص المقترح خالياً من أحكام تحد من صلاحيات الملك. لقد هيأ الحسن الثاني لخلفه الظروف التي يُمسي بمقتضاها وضع البلاد مطبوعاً بنوع من الالتباس الذي يجعل مهمة الشباب المطالبين بالتغيير اليوم أكثر صعوبة مما كان عليه الأمر في الماضي. إذ يمكن أن يُصرَّح في مواجهة هؤلاء بأن المغرب سبق إلى تدشين مسلسل هادئ للتغيير، بإطلاق سراح مئات المعتقلين السياسيين، وتغيير عشرات النصوص المؤطرة للحياة العامة في إطار التوافق، وإدخال المعارضة للحكم، وإنشاء مجالس للتحكيم والرقابة والضبط وضمان حقوق الإنسان، وإخضاع الانتخابات لمساطر وضعتها لجنة مشتركة بين الأحزاب وممثلي السلطات العامة، وتنظيم دعم الأحزاب والنقابات والصحف، وتحرير الإعلام، وتحقيق المصالحة وجلسات الاستماع وتعويض الضحايا، وتجديد المحاكم، وإنصاف المرأة، واتخاذ تدابير ل "التنمية البشرية". وأن المغرب أنشأ لكل معضلة من المعضلات أو مشكلة من المشكلات الكبرى لجنة أو صندوقاً أو مجلساً أو هيأة أو مؤسسة لمعالجتها باستنفار مختلف الطاقات والعقول التي يزخر بها بلدنا...الخ. إلا أن الشباب سيكتشف أن هذا التغيير ليس بتغيير وأن هذا الإصلاح ليس بإصلاح، إذ يظل الاختلال الجوهري بدون معالجة عميقة. هناك فقط تحسنات في بعض المناحي ووعد بالإصلاح والتغيير. فالقرار يعرف المزيد من المركزة، ولم ننجز أي تقدم يُذكر على مستوى ضمان تداول البرامج في ظل تعددية حقيقية، والمعتقلون ضحايا المحاكمات غير العادلة هم بعدد أكبر مما كان في الماضي، والهيئات المنشأة أغلبها استشاري وتحت النفوذ الملكي، والقضاء فاقد لشروط الاستقلالية في القضايا الحساسة، وخروقات حقوق الإنسان تتزايد بدون أن يتوفر المجتمع على ضمانات بمراقبة عمل الأجهزة الأمنية من طرف المنتخبين، والنصوص الكثيرة الصادرة انصبت على تعزيز بعض أوجه الحكامة التقنية بدون أن تمس جوهر نمط السلطة أو تحول النظام السياسي إلى نظام يُسمح فيه بالتباري على احتياز سلطة التقرير، والمعارضون السابقون الذين دخلوا الحكومة لم يصنعوا أكثر من تحسين شروط تطبيق برنامج الدولة القار ولم يغيروا الاختيارات الأساسية، والانتخابات تفقد أكثر فأكثر مصداقيتها وطابعها السياسي، والصحافة المكتوبة المستقلة حقاً تواجه حرباً حقيقية، و"المصالحات" التي تمت لم تفض إلى تأمين أية حماية للمستقبل فضاعت الغاية المفترضة منها، وترتيب المغرب عالميا حسب مؤشرات التنمية البشرية يتراجع أو يظل حيث هو، والعدالة الاجتماعية لم تكن لتتحقق بتوزيع وجبات فطور رمضان أو بإهداء مئات الهكتارات بأسعار بخسة ودون منافسة إلى شركات محظوظة...الخ. لقد هيأ الحسن الثاني لخلفه الظروف التي تجعل قدوم "لحظة التغيير" يصطدم بوضع للتقاطب متسم بالتعقيد والإبهام. ففي مختلف البلدان العربية التي نجحت الانتفاضات داخلها في تحقيق نتائج ملموسة، لوحظ مثلاً أن التقاطب كان واضحاً نسبياً. فمعسكر التغيير يعتبر نفسه في مواجهة مع معسكر النظام القائم. وهذا المعسكر الأخير يضم : - رئيس الدولة وحكومته وعائلته وبطانته. - حزب الدولة والقوى السياسية المتحالفة معه والمساهمة بجانبه في الحكم. - أجهزة المباحث والأمن. - رجال الأعمال الفاسدين والمقربين من السلطة. أما في المغرب، فإن مسلسل التناوب، على وجه الخصوص، قد أدى إلى مشكلات حقيقية. فإذا كان رئيس الدولة ليس موضوع منازعة، فإننا نجد أنفسنا أمام عدة التباسات، منها مثلاً : - أن لدينا حزباً للدولة، لكن لدينا أكثر من حزب واحد للدولة. ثم إن حزب الدولة يوجد نظريا في "المعارضة". - إن المطالبة برحيل الوزير الأول وتعيين وزير أول تكنوقراطي، تعتبر خروجاً عن المنهجية الديمقراطية وتمثل رجوعاً إلى الوراء وتدعيما للحزب التكنوقراطي الذي يشكل القوة الأساسية في التركيبة الحكومية، خصوصاً أن المشكلة الحقيقية في المغرب اليوم ليست هي طبيعة آداء الحكومة وتوجهاتها – حتى ولو كانت لدينا ملاحظات متعددة على هذا المستوى- بل هو وضعها في الهرم المؤسسي ومكانتها وأدوارها وضيق هامش التحرك المتاح لها. ومع ذلك، يمكن تفهم مطلب إقالة الوزير الأول والحكومة في حالة اندراجه ضمن أجندة تدبير الانتقال الذي قد يحتاج إلى حكومة وحدة وطنية أو حكومة تصريف أعمال تحظى باحترام الجميع وتتعهد بالإشراف على وضع ترتيبات المرحلة المقبلة من حوارات وصياغة مشروع دستور ومشاريع القوانين المهيكلة للدولة والإعداد للانتخابات وتحقيق انفراج سياسي واجتماعي، كل ذلك طبعاً داخل أجل زمني محدد. - إن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أو حزب التقدم والاشتراكية هما من الأحزاب التي تُصنَّف نظرياً في خانة قوى التغيير الديمقراطي، لكنهما اليوم يوجدان في الموقع الحكومي، ولا يستطيعان من خلال هذا الموقع منح مسار التغيير الديمقراطي الشحنة المطلوبة في هذه اللحظة بالضبط. وبما أن الحزبين قد "انفتحا" على أعيان وافدين من أحزاب إدارية، فإنهما أصبحا في وضع يجعل جزءاً من كيانهما منتمياً لمعسكر التغيير والجزء الآخر منتمياً لمعسكر الوضع القائم. وقد ظهر ذلك مثلاً من خلال مشاركة مناضلين في شبيبة كل من الحزبين وعدد من قيادييهما وقطاعاتهما في مسيرات حركة 20 فبراير وفي المجلس الوطني الداعم للحركة، رغم التحفظ الرسمي لأجهزتهما القيادية. أمّا على مستوى تلك الأجهزة، فلم تُتخذ لحد الساعة أية خطوة حاسمة للقطع مع منطق أولوية المشاركة الحكومية الدائمة أياّ كانت الظروف ورغم أنف الناخب وبداهة المنطق. فإذا كانت أشغال المجلس الوطني الأخير للاتحاد الاشتراكي قد اتسمت بممارسة أعضاء المجلس المذكور ضغطاً كبيراً على القيادة للحسم في موقع الحزب (المعارضة) وموقف الحزب (الملكية البرلمانية)، فإن البيان العام الصادر باسم المجلس، قد أضاف حلقة جديدة إلى مسلسل تعليق قضيتي الموقع والموقف. يصرح البيان أن المجلس الوطني "يطلب من المكتب السياسي أن يباشر في أقرب الآجال حواراً صريحاً مع حلفائه ومع الأغلبية الحكومية، لجعل مطالب الإصلاح الدستوري والسياسي برنامجا مشتركا يُعرض على أنظار جلالة الملك، ويكون قاعدة لتقييم مشاركتنا في الحكومة، وأساساً لبناء موقفنا في الاستمرار فيها". وهذا يفيد بكل بساطة أن ما ورد في الفقرات الأخرى لم يعد له معنى. لأن اشتراط أن تمر هندسة الإصلاحات الدستورية التي ستُقدم إلى الملك، عبر مصفاة "الأغلبية الحكومية"، أي الأحزاب الإدارية التي لم توجد في الأصل إلا لكي تقوم بعرقلة أي تحول نحو الديمقراطية، يعني أن سقف تلك الإصلاحات سيظل منضبطا لما يريده النظام، وليس لما يفرضه التمثل الإيجابي للحظة 20 فبراير التاريخية. * عن جريدة "الحياة الجديدة"، وبإتفاق معها عدد 11-17 مارس 2011 رقم 131 الصفحة 11