لن تُسعِفنا المزايَدات و لسنا ملكِيين أكثَر من الملكِ…. اكتظ الحديث عن إكتظاظ السجون، وهذا حديث أجْده أمرا طبيعيا تمليه ضرورة الانتباه واليقظة بأحد المرافق الحساسة من مرافق الدولة وهو السجن، لا يمكن أن يغيظ منه شخص أو هيئة، ولا يستدعى اظهارا للعضلات، فليس كل حديث عن معضلة الاعتقال الاحتياطي فيه تدخل في السلطة القضائية، ولا يُعد بابا مؤديا للتأثير على قراراتها ولا مزايدة على احد ولا تطاولا على اختصاصات جهة او أخرى، وكل مَيْل أو إثارة لمثل هاته المخاوف هو في معتقدي غضب في غير محله. كما أنه ليس كل انتقاد لمسألة الاعتقال الاحتياطي بمساطره و واقعه وغايات من يأمر به، أو مناقشة سلبياته واستعراض مضاعفاته، هو أمر غريب عن الحس الجماعي، أو نقاش دون معنى أو حشو في الكلام دون مبنى، فما علينا إلا أن نعتز برأي عام وبمجتمع يهتز لحقوقه ويتتبع من يمارس السلطة مدعما مرة أو منتقدا أو محتجا على السواء، ومن يضع نفسه فوق المجتمع وفوق النقد فلابد أن يراجع نفسه، فلسنا في حكم القبيلة والقياد والشيوخ. وإن كان الصمت (وليس السكوت) عن اعتقال قرينة البراءة وسلب الحرية جائز عند البعض باسم محاربة لجريمة أو أمن المجتمع، فإن الحديث عن مَطبات الاعتقال الاحتياطي واجب أُلُوفَ المَرات، لأنه إجراء عالي المخاطر أُطلِقت فيه السلطات التقديرية لمن يمارسه دون رقابة، وحرج من منطقة الإجراء الإستثنائي ليصبح واقعا عاديا وسلوكا يوميا بقلم النيابة العامة أو قضاء التحقيق يقمع شوكة المخالفين ويحجزهم إلى أن بلغ العدد المكَبلين به اليوم ما يقارب نصف ساكنة السجون. وهكذا، لما طَرح البلاغ الأخير للمندوبية العامة للسجون ملف الإكتظاظ – ومن جديد وليس لأول مرة بعد أن طرحته في مناظراتها وتقاريرها، وبالبرلمان دفاعا عن حِصتها من الميزانية وجوابا عن تسَاؤلات ممثلي الأمة…. – فإن بلاغها هذا، له مراجعه وله مصادره فكريا وثقافيا وقضائيا ومجتمعيا وحقوقي وواقعيا. ولو انتبهتم لبعض هاته العناصر المرجعية التي طرحت السجن الإحتياطي والاكتظاظ، ستجدونها في وثائق رسمية من جهات أغلبها رسمية، ستجدونها في مُداخلات حكماء الدعوى العمومية، وفي توصيات الحوار الوطني حول إصلاح العدالة، وفي بلاغات رئاسة النيابة العامة وتقاريها الدورية ولقاءاتها مع الوكلاء العامين والوكلاء ومع رجال الأمن ومع رجال مديرية المحافظة على التراب الوطني ومع عناصر الشرطة القضائية، وستجدونها إن أنتم راجعتم تقارير المرصد المغربي للسجون، وتوصيات عدد من المؤسسات الحقوقية الرسمية والمدنية غير الحكومة، فكل هاته المستندات توثق وتجسد أمامنا حالة سجون المملكة وتنادي بالعلاج وبالانقاذ سواء من داء الإكتظاظ أو عن عدد كبير من الإشكاليات التي تعرفها السجون أكثر تعقيدا من ظاهرة الإكتظاظ… ومن هنا أعتقد بأن قراءة نداء المندوبية العامة لادارة السجون حول ظاهرة الاعتقال الاحتياطي والاكتظاظ، في سياقه التاريخي والقضائي والحقوقي، يجب ان تتم بالهدوء والتعقل و بُعد النظر والرزانة الكاملة، بل لا بد من تحليل موقف المندوبية أهدافا، وسياقا، وأبعادا، ومسؤوليات، وهذا ما يتطلب في اعتقادي وبالمناسبة التأكيد على أوجه خمسة أساسية تهم الموضوع وهي : اولا: نحن نظريا في زمن المحاسبة لمن أراد الإستمتاع بمنصب المسؤولية وخيراتها، فليس من حق أية سلطة سواء من لها صلاحية وضع السياسة الجنائية وتحديد خياراتها تشريعا او من له سلطة الاشراف على تطبيقها و ممارستها اتهاما ومتابعة أو من له سلطة ابرازها والعمل بها وجعلها نافذة، ان يتنصل من المسؤولية و يرمي نتائجها وآثارها على جهة أخرى، و ليس من أخلاق المسؤولية ان يَتَبرأ البرلماني والحكومي والقضائي من الوضع الذي تعيشة مؤسسة الاعتقال الاحتياطي ويعيشه عشرات الآلاف من المعتقلين الاحتياطيين تحت نار هذا التدبير المدمر للحرية وللإنسان وللمجتمع، مهما كانت مبرراته حتى ولو كانت باسم محاربة الجريمة وحماية المجتمع، فالبرلمان له مسؤولية لانه يعاني الهشاشة ولا يشَرع بالوثيرة التي ينتظرها المجتمع وتنتظرها وضعية المغرب، والنيابة العامة وقضاء التحقيق لهما مسؤولية لانهما يلجئان للإعتقال قبل المحاكمة ويرميان بنتائجه على قضاء الحكم، ويختاران الاعتقال الاحتياطي ويهملان الإجراءات البديلة المتوفرة في المسطرة اي الرقابة القضائية، وهما من يرفض قرارات الافراج حتى ولو مع وجود الضمانات، وبعبارة اخرى هما المزود الأساسي للمؤسسات السجنية بوقود الاكتظاظ، أرجع المغرب ليَعتليَ عرش دول المعمور في عدد السجناء بالنسبة للساكنة و عرش الاكتظاظ بالنسبة لارتفاع الاعداد باستمرار، وبالطع لا ننسى بعض القرارات القضائية التي تساعد على هذا التوجه وتشجعه ومنها مثلا تلك التي تعتبر بأن تجاوز مدة الحراسة النظرية لا يفسد المسطرة ولا يبطلها ولا يقبل أي طعن فيها، وبالطبع هناك مسؤولية لا يتناولها أحد وهي مسؤولية ضعف ضمانات إجراء الأبحاث التمهيدية التي تجري دون رقابة مؤسساتية حقيقية ولا يتتبعها أحد في مجرياتها وفي تفاصيلها ومن دون حضور الدفاع والتي قد تؤدي إلى ملفات لا تبنى على الشفافية ولا على العناصر العلمية المتعلقة بصحة الاعترافات والتحريات… مما يضاعف من حظوظ المحتجزين إلى إيداعهم صندوق الإعتقال الإحتياطي ببيوت المندوبية العامة… والتي وصفها استهزاء أحد الوزراء بفنادق للراحة… ثانيا: لا تبتعد كثيرا بعض قرارات الاعتقال الاحتياطي عن مناطق الشطط او اللا أمن، فباسم السلطة التقديرية للقضاء الواقف وقضاء التحقيق و باسم انعدام الضمانات او ظروف الجريمة او إنصاف الضحايا يتم استعمال هذا الرمح ضد الحرية، وتعيش السجون بعد ذلك هيجانا بشريا لا يسُر أي انسان، فتصبح قواعد اللعب مقلوبة أي يصبح السجن المؤقت عقابا أوليا «بلباس شبه مشروع» قبل المحاكمة والادانة النهائية، وتحمل «العدالة» عندئذ اسم آخر وهو «لغز الاسر و الاسير». وسيف السلطة التقديرية وإن كان مخرجا مناسبا أحيانا، فإنه لا يمنع الشطط، فلسنا وحدنا بالمغرب وبين دول العالم من يلتزم بمحاربة الجريمة مهما كانت درجتها من الخطورة، فالتصدي لها واجب على الدولة وعلى كل سلطاتها، وحماية الساكنة و أمن المجتمع هو شُغلهم الأول يُسألون عند الإخلال به أو عند الخطأ في تقديره، وهم لا يحتاجون للقيام به لا إلى تَبَرج أو إلى ثناء ولا إلى حمل أوسمة، فالجريمة ظاهرة عالمية ومعطى مجتمعي كوني ولا جنسية له قالها سيزار باكاريا وعرفها حمو رابي قبل مئات القرون، ثم إن السلطة التقديرية السياسية او السلطة التقديرية الحكومية والبرلمانية أو السلطة التقديرية القضائية، وإن كانت سلطة معترف بها، لكن ما هو غير مقبول وما يعتبر عيبا من عيوب نظامنا القانوني و واقعا مؤلما عندنا ليس هو السجن بل العيب في فلسفة وطبيعة العقاب والإعتقال الاحتياطي الذي اخترناه كدولة وكسلطات والذي ورطَنَا في نتائج خطيرة، و دفعنا لارتكاب انتهاكات مرفوضة وغير مفهومة لحقوق الإنسان وخاصة انتهاكات لحقوق المشتبه فيهم وأهمها انتهاك قيمة الحرية وقيمة قرينة البراءة. هكذا تمتلئ السجون باسم السلطة التقديرية التي تتمتع بها الكثير من المؤسسات ومنها بالخصوص مؤسسة النيابة العامة ومؤسسة قضاء التحقيق، ومؤسسة الضابطة القضائية، فكلها تملك حق الاحتجاز والقبض والإعتقال بطريقة تصل أحيانا للغلو دون ان يفكروا في حياة السجناء وفي الاكتظاظ وفيما يقع من تجاوزات داخل السجون بفعل الضغط و والازدحام المتراكم خلف أسوارها ، وهكذا وتحت غطاء التقدير أو الوضع الأمني أو الوضع السياسي أو الدولي أو عدم وضوح القرار السياسي للسلطات العليا، يصبح المغرب بلد التطرف في الاعتقال ويصبح العبث سيد المجال والمكان، وتحت لواء التقدير تعثرت المدونة الجنائية منذ سنة 2013 إلى اليوم من حكومة السيد بنكيران لحكومة السيد أخنوش، وتعثر تنزيل الكثير من المقتضيات التي جاءت بالدستور وفي مقدمتها حق الدفع بعدم الدستورية وغيرهما…. ثالثا: ومن باب قول الشيئ كما هو، فإن قرارات المحاكم في مجال العقاب عامة ومجال تبرير استمرار الاعتقال الإحتياطي خاصة، تضع القضاء امام مسؤوليات استعمال اجتهاده، علما بان الاجتهاد مصدر للقانون ومرجعا للفقه نفسه وللباحثين ولمن تعنيهم الظاهرة الاجرامية والسياسة الجنائية، فإن كان القضاة لا يُشَرعُون حقيقة، وإن كانوا ملزمين بإعمال القاعدة القانونية، فإن سلطتهم أقوى من سلطات الحكومة والبرلمان وحتى من سلطة النيابة العامة وقضاة التحقيق، اعتبارا أنهم وحدهم يملكون قوة لا يَحُدها شيئ وهي قوة الضمير والإقتناع، لا رقابة عليهم من أية جهة أخرى لأنهم مستقلون عن كل السلط، كما يملكون سلطة تطبيق القانون التطبيق السليم وليس التطبيق الجبري دون منطق ولا غايات، وسلطة التأويل والتفسير وسلطة التكييف وسلطة القياس وسلطة الاعتقال والحجز والإفراج وسلطة تقدير التشديد والتخفيف في العقوبة وغير ذلك…، ومن هنا فقرارات قضاتنا سُلم متحرك وبإمكانها وقف نزيف الاعتقال وويلات العقاب انطلاقا من صون قرينة البراءة إلى قياس العقاب المناسب بعيدا عن الضعط وأحكام الشارع والجمهور… رابعا: أن تاريخ الإعتقال الإحتياطي بالمغرب مخيف ويجعلنا وسط دول العالم نموذجا لا يحتذى به ومدرسة لا يليق السير على منوالها، وهو تاريخ لا يشرفنا في عدالتنا، لأنه أعطانا تجربة سيئة لم نعمل على مقاومتها ومقاربتها علميا وبذكاء، فتقارير معهد السياسة الجنائية بلندن وضعت المغرب في الرتبة 19 بين بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا في ارتفاع عدد النزلاء بالسجون، وما قدمته لنا دراسات المندوبية العامة للسجون وخبراءها من أرقام يصعب التساهل معها ومنها أنه من سنة 2013 لسنة 2023 ارتفع عدد المعتقلين من 72005 الى أكثر من 100.000 المعتقلين، وأن نسبة الاعتقال بالمغرب تبلغ 260 معتقلا وسط كل 100.000 نسمة متقدما على مصر 116، والعراق 207، والسعودية 207، وأن معدل الاعتقال بالشهور حسب السنوات ارتفع، وكان سنة 2017 هو معدل 8,50 شهرا وارتفع سنة 2022 الى رقم 9,98 شهرا…، ونحن اليوم تجاوزنا 100.000 سجين نسبة الاحتياطيين منها أكثر من 40 في المائة، إنها الأرقام التي تشكل منبع الوَجَع الذي يقوض راحتنا الحقوقية والقضائية والإنسانية داخل السجون، وهي الحالة التي توقفت أمامها تقارير المجلس الوطني لحقوق الإنسان منذ عهد الرئيس عزيمان وعهد المرحوم بنزكري وعهد الرئيس اليزمي و الرئيسة الحالية بوعياش، وهي الأوضاع التي قرر رئيس النيابة العامة الحديث عنها في البلاغ رقم 1 بعد استقلالها والذي رسم حيز التعامل مع الاعتقال الاحتياطي بمقترحات ضاعت مع الأسف سواء بإهمالها او بإساءة تطبيقها، ثم جاءت الدورية رقم 24/21 التي جددت الحديث عن فاجعة الاعتقال الاحتياطي وأعلنت عن نسبة المعتقلين الاحتياطيين آنذاك والتي وصلت الى معدل 44.49 في المائة، علما انه في الممارسة تتشبت جهات الإعتقال بالإعتقال الإحتياطي وتضيف إليه إغلاق الحدود وسحب جواز السفر من بداية البحث التمهيدي…، وهذه في النهاية علامات فشل السياسة الجنائية التي رسمها البرلمان ولم يرغب في إصلاحها بمراجعة المدونة الجنائية التي تجسدها…. خامسا: لابد من استحضار عنصر ضغط الشارع في العقاب قبل المحاكمة واستحضار عنصر الفساد، وهما من العناصر الأساسية في التحليل التي قد تساعدنا على فهم جانب إطلاق العنان لاستعمال الاعتقال الاحتياطي ضد حرية الأشخاص مسبقا وقبل المحاكمة والحكم وضدا على قرينة البراءة، وفي استمرار مسلسل ارتفاع عدد المحتجزين الاحتياطيين بالسجون، ففي كثير من الحالات يفرض الشارع وليس المُشرع اللجوء للاعتقال الاحتياطي ولا تقوم المؤسسات إلا بدور إطفاء النيران، وتمارس صلاحياتها من منطق الخوف من ردة الفعل قبل إِعْمَال تطبيق القانون التطبيق السليم، وهذا ما يعتبر سببا وراء تهرب عدد من المحاكم من تفعيل الرقابة القضائية، والتهرب من إصدار احكام او قرارات بالافراج أو بالبراءة او بالسجن الموقوف، ومن هنا تظهر دوائر الفساد التي تحوم بين المتقاضين وبين أسوار المحاكم وتنشط في التدليس وفي شراء ضعفهم، … علينا أن نفكر في بدايات البدائل وهي متعددة المنطلقات ومنها: المنطلق الأول الذي يفرض نفسه هو الخروج من الصمت، أي الإعتراف بالأزمة التي تعرفها مؤسسة العدالة الجنائية بدءا من البحث التمهيدي ثم تحريك الدعوى العمومية فممارسة التحقيق وانتهاء بمسطرة وإجراءات المحاكمة وبأوضاع السجون، والمنطلق الثاني وهو البديل السياسي الذي يتطلب البحث عن مؤسسة العقوبة التي نريدها ضمن سياستنا الجنائية كأولوية في محاربة الجريمة والعمل على رسم الحدود لكل السلط والأجهزة التي تعتقل والتي لابد من تقليصها لمنع الإستبداد أو الشطط، المنطلق الثالث هو تحصين وتوسيع الحق في الدفاع أمام جميع المراحل ليتمكن المطلوبون أمام العدالة الجنائية من مواجهة مصيرهم وهم مسلحون بضمانات لا تقتلها سلطة ملائمة ولا السلطة التقديرية لمحكمة ولا لقضاة محكمة، ومنطلق رابع وهو خلق حيوية في مجال التشريع لتتجاوب المؤسسة التشريعية بالسرعة الكافية لاحتياجات العدالة واحتياجات المرتفقين من النصوص والقوانين وتغيير ما تحتاجه العدالة من تغيير، والمنطلق الخامس هو رسم منهجية واضحة ومناسبة ومستمرة لمحاربة الفساد من داخل ومن محيط العدالة وأجهزتها، والبديل السادس هو كَف الجهات الرافضة والممانعة لوتيرة التغيير والاصلاح في مجال القضاء ومجال السياسة الجنائية والرافضة للمقاربة الحقوقية والإنسانية عن الضغط والحصار، وأخيرا المنطلق السابع وهو تغيير نظام مندوبية السجون الشبه الأمني لتحل محله إدارة مدنية جماعية تتكون زيادة عن المندوب العام، من ممثل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومن ممثل السلطة القضائية، ومن ممثل جمعية ذات اختصاص في مجال السجن، ومن ممثل مؤسسة الوسيط…. فهل تتوفر لدى المسؤولين الرغبة في فتح طريق المستقبل، وتجاوز الحَيرة و تَمتمَةِ اللسَان؟