إن الاحداث التي يتواتر حدوثها في المنطقة بهذه السرعة والفجائية أحياناً، دليل على أننا نعيش مرحلة تاريخية دقيقة وجد حساسة، لذلك فالمواقف المتسرعة المنفلتة من عقالها لا تصلح في تأطير المرحلة، بله تساهم في إذكاء نار التعمية والتضليل. المرحلة تحتاج إلى الوضوح والتوجه مباشرة إلى الهدف دون لف ولا دوران. وبصدد السؤال "الفلسفي" الأثير: هل ما حدث في مصر انقلاب أم هو تفعيل لإرادة الشعب. حول السؤال انبرى الكتاب والمحللون والمتخصصون وغير المتخصصين في الاصطفاف الى الشق الاول من السؤال أو الى الشق الثاني منه، ثمة من قال انه انقلاب وأقسم بأغلظ الأيمان أنه انقلاب، وحشدَ ما تيسر له من الحجج الصالحة وغير الصالحة للدفاع عن رأيه الذي ارتقى هنا إلى درجة الدفاع عن الهوية المتحلقة حول الأنا. في الطرف الاخر؛ انصار الشق الثاني من السؤال استعانوا بما تيسر لهم كذلك من حجج صالحة وطالحة وراحوا يعقدون المقارنات، يدورون ثم يولون، ليقولوا أخيراً: ألم نقل لكم إنه تعبير عن الارادة الشعبية وليس انقلاباً. هكذا ظللنا في هذه الدائرة ولم نستطع أن نبرحها، ظللنا داخلها نبحث عن الحجج التي تدعم موقفنا وتُسكت موقف الاخر... وهكذا هي تدور وتدور.. بالنظر إلى الأزمة المصرية، لا يمكن لنا التأريخ لها بداية من 26 يونيو أو 30 منه أو 3 يوليوز، آنذاك سننتج مواقف مبتورة لا تصلح لتشريح دقة المرحلة وحساسيتها. الاحداث ابتدأت سنة 2011 حينما هبّ الشعب المصري ليقول كفى من الديكتاتورية وكفى من تسلط مبارك وزبانيته، واستطاع هذا الشعب بصموده طرد الطاغية والاعداد للمرحلة القادمة، هنا بدأت الأزمة بعد أن كان كل الشركاء في الميادين معا، بغض النظر عن توقيت التحاق كل طرف بالثورة، جاءت مرحلة تدبير ما بعد رحيل مبارك، وحدث عدم توافق بين أطراف الثورة. كل هذا كان ثمة مؤسسة ترافق وتعاين ماذا يحدث، إنها مؤسسة الجيش، وحري بنا هنا أن نذكر من هي هذه المؤسسة، وكيف سمح البعض لنفسه أن يجعل من قادات هذه المؤسسة ملائكة اليوم وغدا يعتبرونهم شياطين، أو من اعتبروهم بالأمس شياطين واليوم ملائكة. هذا التشريح الأخلاقي لا يساهم البتة في فهم الوضع بل يضيف اليه المزيد من بهارات التضليل والتمويه. ولذلك علينا أن نرجع قليلاً إلى الوراء لنعرف أن الجيش المصري كفّ عن أن يكون جيشاً وطنياً منذ أواسط السبعينيات، وهكذا صار في انحداره إلى أن أصبح أداة في يد الامبرياليين وخاصة في حقبة حسني مبارك، فحسني مبارك هذا كان عسكرياً فرضه العسكر في هذا المنصب بعد اغتيال أنوار السادات وظل وفياً للمؤسسة العسكرية، وقصة اصطفاف الجيش مع الشعب إبان ثورة 25 يناير كان هو اصطفاف من أجل انقاذ مؤسسة العسكر واستمرارها لا من أجل عيون الشعب أو مصالحه، لقد قبلت المؤسسة العسكرية التضحية بأحد أفرادها (حسني مبارك) مقابل استمرارها هي واستمرار النظام واستمرار مصالحها ومصالح أسيادها. إن الذي قتل الشهيد خالد سعيد يونيو 2006، وذبح أزيد من 35 شهيداً فيما يسمى بمذبحة ماسبيرو في أكتوبر 2011، وسهر على ذبح اخرين امام قصر الاتحادية ديسمبر 2012، هو نفسه الجهاز الذي يذبح الآن المواطنين في مصر. الثابت في كل هذه الجرائم هي المؤسسة العسكرية وأجهزة الشرطة، والمتغير هي الأسماء والالوان التي تزكي هذا الذبح، غداة المذبحة الرهيبة في ماسبيرو التي كان أغلب ضحاياها من الأقباط، خرج السلفيون في مسيرة أشبه بالاحتفال يرددون "إسلامية ، إسلامية"، وكذلك الاخوان الذين يكتوون الآن بنيران العسكر كان يباركون تدخل الشرطة والجيش في حق معارضي الاعلان الدستوري لمحمد مرسي، كما يهلل بعض العلمانيين لمذابح اليوم وكما يُشرعنها أيضاً بعض الاسلاميين من غير الاخوان. دائما المؤسسة العسكرية تجد من يغسل خناجر الذبح من اثار الدم المصري. مشكلة الفرقاء السياسيون في مصر هو أنهم حينما تخلصوا من مبارك ظنوا أنهم حققوا المراد وما عليهم الآن إلاّ الاستفادة من كعكة الانتصار، لكن في العمق لم يكن هناك كسبٌ للحرب بل كان هذا الانتصار مجرد كسب لمعركة صغيرة هي بداية الحرب الحقيقية التي تتطلب الكثير من الانصات الى العقل والايمان بالعيش المشترك والانتماء الى الوطن، لكن أغلب القوى طربت لسقوط مبارك واعتقدت أنه سقط النظام، في حين لم يسقط النظام بل ضحى بفرد منه ليعود غداً أو بعد غد أكثر تحكما، وهي الحيلة التي انطلت على الفرقاء السياسيين للأسف إلا من رحم ربك، وراح كل واحد يتصور مصر كما تشتهيها غرائزه لا كما يتطلبها العيش المشترك والانتماء الى وطن الجميع، وضرورة أخْذِ الحذر والاستعداد لمواجهة عودة رموز النظام القديم، فمعروف في كل تجارب التاريخ؛ لم تستطع أي ثورة أن تنجز مهامها في يوم أو شهر أو سنة، الثورة هي عملية مستمرة تستهدف دفن القديم ورعاية الجديد حتى يشبّ ويصلب عوده. لكن الذي حدث هو أنه راح كل طرف يراقب الاخر ويحترس من أن لا يسحب البساط من تحت أقدامه، انشغلوا بمراقبة بعضهم البعض وشحن خطاب الكراهية والشك والريبة فيما كان النظام الذي اعتقدوا أنه سقط بدأ يسترجع مكانته شيئاً فشيئاً يساعده في ذلك حدة الخطاب والصراع المشتعل بين أطياف الثورة. أكيد أن الاخوان هم الآن ضحايا الآلية العسكرية الهمجية والتجييش من بعض الاعلام التابع للنظام القديم، لكن هذا لا يعني حينمانقول هذا أنه توقيعٌ على بياض لهم وإشهاد بنظافة يدهم، إذا نظرنا إلى عمق الاشياء سنجد أن كلا الطرفين لا الاخوان لا جبهة الانقاذ يتحملون مسؤولية رجوع النظام القديم. الاخوان كانوا سبباً في رجوع النظام القديم عبر المؤسسة العسكرية حين بلغ بهم تضخم الانا أن أرادوا جعل مصر اخوانية، جماعة لهم، لا وطنا للجميع، لا يمكن البتة تبرئة الاخوان من خطاب تقسيم العالم وفق معادلة فسطاط الايمان وفسطاط الكفر الى أن تصير المعادلة انا والاخر؛ من معي ومن ضدي، لم يمتلك الاخوان حس الانتماء المشترك الى الوطن، وحس الثورة وصون المرحلة الانتقالية حتى لا يعود النظام القديم، بل تضخمت الانا عندهم واعتقدوا أن الله قد آتاهم بالنصر الذي وعدهم به كما تقول احدى أناشيدهم، والآن ما عليهم إلا أن يعضّوا عليه بالنواجد، كانت البداية الاعلان الدستوري وأعقبته الكثير من القرارات التي تصرف فيها مرسي بوصفه رئيس جماعته لا رئيس وطنه، هل كان مرسي غداة الخطاب الشهير بعد ما سمي ببيان علماء الأمة بشأن أحداث سوريا رئيساً لمصر أم كان يتصرف بوصفه عضوا في الاتحاد العالمي للمسلمين؟ كيف أغلق سفارة سوريا في مصر مباسرة بعد بيان اخوة القرضاوي لكنه بالمقابل لم يغلق سفار الكيان الصهيوني رغم مذابح غزة التي استمرت لأيام. هل قرارات مثل هذه هي قرارات رئيس دولة في مرحلة انتقالية تعيش مخاض الثورة؟ وهذا نموذج فقط من قراراته البعيدة عن روح الانتماء الى الوطن لا الانتماء إلى الجماعة. مرسي أيضا كانت جل سلوكياته السياسية مبنية على التشكيك في شركاء الثورة إلى حدّ نعتهم بالفلول، رغم أن العديد منهم يعرف نفسه أنه التحق بصفوف الثورة حتى قبل أن يلتحق الاخوان، كان على الاخوان في هذه الظروف أن لا يضخموا من خطاب التخوين من أجل الاقصاء السياسي، المنطق السليم كان يقول ضرورة اشراك الكل من أجل الوصول بمركب الوطن إلى برّ الامان، حتى يتخلص نهائيا من امكانية عودة النظام القديم والفلول الحقيقيون. وهنا أختلف مع العديد من الكتابات التي تطرح سؤال منزوعاً من السياق للدفاع عن حق مرسي في استكمال ولايته، تراهم يقولون في فرنسا مثلا إذا طلع الرئيس بنسبة كذا بعد أشهر تدنت نسبة شعبيته كثيراً فهل يعقل أن يخرج الشعب الفرنسي لعزله؟ لا يا سادة، قديما قيل لاقياس مع وجود الفارق، مصر ليست دولة ديموقراطية، مصر ليست فرنسا، مصر تعيش مرحلة انتقالية، مرحلة ثورة اشترك فيها كل أطياف الشعب وطوائفه وتعيش على ايقاع امكانية عودة النظام القديم الذي لم ينهزم تماماً، ولم يرحل، بل تنحى رئيسه وظل هو يتربص ويتحين فرصة عودته، في مصر المرحلة الانتقالية ليست النِّسب والارقام هي المهمة، بل الاهداف هي الاساس لأنها ديموقراطية وليدة، بالكاد خرجت من سنوات الديكتاتورية وفي حاجة الى كل أبنائها من أجل توطيد هذا الوليد. في الجانب الاخر أيضاً، رغم أن هذا الجانب أخطاؤه قليلة، ليس لنبله بل لأنه لم يمتلك السلطة، دائما كان في موقع الضحية، لكن يمكن لنا اجمال الاخطاء الاستراتيجية في: قبولهم فيما يسمى بجبهة الانقاذ وَضْعَ اليد مع بقايا النظام القديم لمواجهة الاعلان الدستوري لمرسي، فمواجهة قرار سلطوي كهذا لا يشرعن أبدا الرجوع إلى بقايا النظام القديم ولا التحالف معهم، إن التحالف معهم تحت أي مبرر هو خيانة للثورة وخيانة لدماء شهدائها. ثم دعمهم للتدخل العسكري من أجل عزل مرسي، فهذا التدخل ضدّ استمرارية الثورة ولا يخدم مصالحها كيفما حسبناها، فالتدخل أفقد المعارضة مصداقيتها، وجعل من الاخوان ضحية ، وهيأ الظروف لعودة النظام القديم. كنتُ أتمنى أن ترغم القوى الثورية الحقيقية مرسي على التنازل عن عنجهيته وارجاع الامور الى نصابها بدل أن يتدخل الجيش ليصادر حلم الشعب في استكمال ثورته. إن تدخل الجيش هي ضربة حجر واحد من النظام القديم أصاب طَائريْ ثورة 25 يناير، أصاب المعارضة من خلال ادخالها تحت جبة الجيش وأصبح الجيش ناطقاً رسميا باسمها ووصياً عليها، وأصاب الاخوان بأن قمعهم وسجنهم وضيق عليهم. هكذا عاد النظام القديم بمساعدة الثوار أنفسهم. ولا مناص الآن إلاّ الرجوع لحكمة العقل والنظر الى الأمور بمنظار مصلحة الوطن لا مصلحة الأنا، مازال ثمة متسع من الوقت والمعطيات الميدانية تسمح بتفويت الفرصة على مؤسسة العسكر في سعيها لإعادة النظام القديم، والعمل على اجتراح مخرج يضمن الاعتراف بكل الاطياف ويوطد قطع الطريق عن عودة النظام القديم، بغير هذا فالطريق معبد لعودة الفاشية والديكتاتورية، والجيش متلهف لتطبيق قانون حالة الطوارئ الذي ظل ساري المفعول منذ 1981 ولم يسقط إلى مع ثورة 25 يناير. بقيت مسألة أخيرة لابد من الاشارة إليها وهي أن هذا التوصيف لا يشمل كل التيارات السياسية في مصر، فثمة تيارات وثمة أشخاص كانت لهم مواقف شجاعة ولم تنطل عليها الحيلة، لكنها للأسف أقلية قليلة لا تأثّر كثيراً، لكن مع ذلك ما زلتُ يحذوني الأمل على أن ينتصر هذا الخطاب الخافت ليسكت نعيق خنق الثورة ووأدها.