حاولت في مقال " رحلة بداخل الحزب الشيوعي الصيني.. " تقريب هيكلة الحزب الشيوعي من القارئ العربي، لكن من الصعب في الصين الفصل بين أجهزة الحزب وأجهزة الدولة فهما وجهان لعملة واحدة، كما أن هذه الهيكلة لازالت محتفظة بنفس خصائصها منذ نشأة الحزب الشيوعي، فالدولة لازالت خاضعة لسيطرة الحزب والجيش. غير أن التحول الحقيقي قد مس عقيدة الحزب، فرغم استمرار الحزب في تبنيه لخيار البناء الاشتراكي والأيديولوجية الماركسية- اللينينية والإرث الماوي. إلا أن واقع الحال، يؤكد على أن الحزب أخد يميل أكثر إلى الفلسفة الليبرالية أكثر من تشبثه "بالأيديولوجية الحمراء " . فرغم أن الحزب لازال في أدبيات يؤكد على الانتقال إلى المجتمع الشيوعي، إلا أن التوجه الحالي لن يقود نحو الشيوعية، وذلك لسببين : السبب الأول: هو أن الإصلاحات التي لازال الحزب يعتبرها ضرورية ولا يمكن التراجع عنها، تتعارض مع مبدأ الشيوعية. فالملكية الخاصة أصبحت هي القاعدة بينما الملكية العامة هي الاستثناء.. هذا إلى جانب أن المبادرة الفردية غدت المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي للصين، فهل سيفجر الحزب ثورة شيوعية جديدة بملكية خاصة، أو سيعمد إلى تأميم ما تمت خصخصته؟ أما السبب الثاني: فتاريخ الشيوعية في الصين لا يحفز الشعب الصيني على الإقدام على مثل هذه الثورة، لاسيما بعدما أحس بنعيم الانفتاح والنمو، وأصبح يتطلع بشغف إلى ذلك المجتمع المزدهر والديمقراطي، الذي تعهد الحزب ببلوغه في أفق الخمسين سنة القادمة. ويبقى الشيء المؤكد، هو أن الحزب شهد تحولا عميقا باتجاه تبني الأسلوب الجماعي في اتخاذ القرار. فبعد وفاة "ما وتسي "و"دونغ" انقرضت الزعامة الكاريزمية، وحل محلها توزيع الأدوار بين مجموعة من القادة، وهو مؤشر ايجابي باتجاه تعزيز الديمقراطية الداخلية.. خاصة وان مختلف أجهزة الحزب أصبحت تخضع للانتخاب، مع تحديد فترة الولاية في دورتين متتاليتين لا يسمح بتجاوزهما.. لكن إعادة إنتخاب "شي" لولاية ثالثة و تبني تعديلات على ميثاق الحزب من خلال التأكيد : " على أن شي هو الزعيم "الجوهري" للحزب، وترسيخ أفكاره كمبادئ توجيهية للتنمية المستقبلية للصين، وتأكيد "الموقع المحوري" لشي داخل الحزب وسلطة الحزب المركزية في الصين…" هل يعد قطيعة مع الإدارة الجماعية التي تم ترسيخها بعد وفاة ماوتسي تونغ والإطاحة ب"عصابة الأربع"؟ وسأحاول في هذا المقال و المقال الموالي الإجابة عن هذا السؤال وتحليل مخرجات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني المنعقد من 16 إلى 22 أكتوبر 2022. وتوضيح رؤية الحزب والقيادة الصينية للتحديات الناشئة.. أولا- تعزيز مكانة "شي" كأقوى حاكم للصين منذ "ماو": أهم مخرجات المؤتمر الذي يعقد على رأس كل خمس سنوات، إقرار تعديلات جديدة على ميثاق الحزب تتضمن تكريس دور الرئيس "شي جين بينغ"، باعتباره الزعيم الملهم والشخصية المحورية في الحزب والدولة، الأمر الذي مهد لإنتخاب شي لولاية ثالثة مدتها 5 سنوات وهو ما عزز من مكانة شي بوصفه أقوى حاكم للصين منذ ماو تسي تونغ الزعيم المؤسس لجمهورية الصين الشعبية.. وتبعا لذلك، يشغل شي حاليا أقوى ثلاثة مناصب في الصين – الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، ورئيس القوات المسلحة في البلاد، والرئيس.. والجدير بالذكر، بعد وفاة "ماو" وانطلاق إصلاحات 1978 تم إقرار تعديل دستوري يقضي تولي الرئاسة لولايتين، وهذا التعديل الدستوري وضعه "دنغ شياو بينغ" لمنع ظهور شخصية تشبه "ماو".. ومنذ وفاة "ماو" لم يتولى أي زعيم القيادة لفترة ولاية ثالثة. لكن شي نجح في إلغاء هذا القيد.. ففي عام 2018، ألغى البرلمان الصيني القانون، ما سمح لشي فعليا بالبقاء في منصب الرئيس طالما شاء.. ومن بين التعديلات التي أُدخلت على ميثاق الحزب: النص على أن شي هو الزعيم "الجوهري" للحزب، وترسيخ أفكاره كمبادئ توجيهية للتنمية المستقبلية للصين، وتأكيد "الموقع المحوري" لشي داخل الحزب وسلطة الحزب المركزية في الصين. وجاء في قرار تم تبنّيه بإجماع المندوبين قبيل اختتام المؤتمر في بكين، وتضمن تعديلات لميثاق الحزب؛ أن على أعضاء الحزب البالغ عددهم نحو 97 مليونا أن "يدعموا الدور المحوري للرفيق شي جينبينغ داخل اللجنة المركزية للحزب والحزب بمجمله". وتم إبعاد أربعة أسماء وازنة شغلوا مراكز حساسة في الدولة خلال العقد الماضي من اللجنة الدائمة للمكتب السياسي وهم: رئيس الوزراء "لي كه تشيانغ" (67 عاماً)، ورئيس مجلس نواب الشعب الصيني "لي تشان شو" (72 عاماً)، ورئيس المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني "وانغ يانغ" (67 عاماً)، ونائب رئيس مجلس الوزراء "هان تشنغ" (68 عاماً).. في حين تم إعادة تعيين العضوين الحاليين "وانغ هو نينغ" (67 عاما) و "تشاو لي جي" (65 عاما) اللذين يُعتقد أنهما يتمتعان بعلاقات وثيقة مع "شي" في اللجنة الدائمة.. كما قرر الحزب الشيوعي أن يدرج لأول مرة إشارة في ميثاقه تؤكد "معارضة" بكين لاستقلال تايوان.. وجاء في القرار أن مؤتمر الحزب الشيوعي "يوافق على إدراج بيانات في ميثاقه حول (...) المعارضة الحازمة للانفصاليين الذين يسعون للحصول على استقلال تايوان، وردعهم". وقال "شي" في ختام المؤتمر " إن الصين ستواصل دمج نفسها في الاقتصاد العالمي في فترة ولايته الثالثة، مؤكدا أن تنمية الصين لا يمكن أن تتم بمعزل عن العالم وأن العالم يحتاج إلى الصين…وعلى صعيد الشأن الداخلي، قال جينبينغ إن الحزب الشيوعي سيظل العمود الفقري القوي لمجتمع الصين، وهي التصريحات التي رأى حقوقيون أنها تشير ترجح زيادة الممارسات القمعية ضد كل من يعارض الرئيس الصيني.. ثانيا- الحزب الشيوعي و دورة الإصلاحات الهيكلية: شرعية الحزب الشيوعي الصيني مستمدة من نجاحه في تنفيذ إصلاحات هيكلية منذ 1978، مكنت البلاد من التحول و الانتقال من إقتصاد منغلق إلى إقتصاد معولم، و من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي، ومن الصناعات المعتمدة على كثافة اليد العاملة إلى الصناعات القائمة على كثافة رأسمال، و الانتقال من السلع المحدودة القيمة المضافة إلى السلع العالية القيمة، فقد إنتقلت من صناعة الأجهزة البيضاء إلى صناعة هواتف الجيل الخامس، كما أن تركيزها إنتقل من النمو و التنمية إلى ميادين أوسع و أعم تعرق في الأدبيات الصينية ب "الحلم الصيني" لكن قبل أن نحلل بنية و أهداف هذا "الحلم " الذي يراود قيادات الحزب الشيوعي، علينا قبل ذلك فهم منطق التدرج و التراكم الذي يتحكم في السياسات الإصلاحية و التنموية التي ميزت الصين و مكنتها من تحقيق سلسلة من الأهداف بنجاح و فتحت شهية الصين للمزيد و جعلت طموحاتها تنمو و تتوسع تبعا لنمو اقتصادها … ذلك أن سياسات و مخططات كل من "دينج شياو بينغ" و "جيانغ زيمين" التي إمتدت من القضاء على "عصابة الأربع" سنة 1978 إلى حدود 2002 تميزت بسلسلة من الإصلاحات الهيكلية التي سعت إلى تحقيق الانفتاح الاقتصادي و تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، و الحرص على تحقيق أعلى معدل في النمو الاقتصادي.. و عموما، الإصلاحات الكبرى التي خضع لها الاقتصاد الصيني منذ 1978 إلى 2002 يمكن إعتبارها إصلاحات هيكلية مست القطاعات التالية: – الإصلاحات التي استهدفت خصخصة الإنتاج الزراعي وما واكبها من سياسات لتحرير أسعار المنتجات الزراعية، كما سنتاول التصنيع الريفي ودوره في استقطاب العمالة الريفية في الأنشطة الغير زراعية . – الإصلاحات التي إستهدفت المؤسسات المملوكة للدولة، وفسح المجال أمام مشاركة أوسع للقطاع الخاص في التنمية والبناء الاقتصادي.. – الاصلاحات التي مست سياسة الاستثمار الأجنبي، والسياسة النقدية وما صاحبها من تحرير تدريجي للصناعة المالية، وتأهيل الجهاز المصرفي للقيام بدور الوساطة بين الادخار و الاستثمار وتأهيل قطاع التامين للقيام بدور اكبر في تخفيف الأعباء الاجتماعية على المقاولات من جهة، ومساعدة الدولة في توفير شبكة أمان وتغطية اجتماعية بأقل تكلفة ممكنة من جهة ثانية.. وقد حددت بكين بوضوح العشرات من أهداف السياسات التي يتعين تحقيقها بحلول عام2020 ..و نجاح الأهداف و الإصلاحات السابقة هو الذي قاد إلى الموجة الموالية من المخططات التي توجت بصياغة "الحلم الصيني" .. ثالثا – "الحلم الصيني" غايته ضمان النمو الاقتصادي المرتفع والمتوازن و المستدام: نصب الحزب الشيوعي الصيني نفسه منذ عام 2 " 200حزبا حاكما" غايته الوفاء "بالمصالح الأساسية" للشعب، وقد حرص قادة الحزب على توسيع نطاق مدلول هذه المصالح لتضم في الوقت الحالي موضوعات اقتصادية، وسياسية، ورفاهية اجتماعية، وثقافية، وبيئية.. وهذا يمثل تحولا بالغ الأهمية في فكر و منهجية عمل القيادة السياسية الصينية.. وقد وضع الحزب الشيوعي الصيني الحاكم رؤية لإعادة تطوير الصين كقوة عظمى، يُشار إليها "بالحلم الصيني" و يستهدف من خلالها تحقيق هدفين اساسين : زيادة مستوى معيشة جميع أفراد الشعب الصيني. تحقيق صعود الصين ً كقوة عظمى. ووفقا لتصور الذي أدلى به "شي جين بينغ" في إجتماعاته مع قيادات الدولة و الحزب، يتجسد "الحلم الصيني" في ".. استكمال بناء دولة ثرية وقوية وديموقراطية ومتحضرة واشتراكية حديثة متناغمة" الذي أتوقع أن يتحقق بلا شك، و ينبغي الوصول لهذا الهدف قبل حلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام1949.." وعلى الرغم من أن "الحلم الصيني" يسعى بدرجة أولى إلى نهضة الدولة و دعم المثل و القيم الجماعية، إلا أنه يسعى إلى ضمان سعادة و رفاه الأفراد.. ويعكس هذا التحول حقيقة أن النمو الاقتصادي الصيني المستقبلي سيتزايد اعتماده على القوة الشرائية للمستهلكين، و رفع مستوى الدخل للأفراد والأسر، وفي ظل ارتفاع مصادر الدخل، فمن المرجح أن ترتفع مطالب عموم المواطنون، بضرورة تحسين أدوات الحكم و تعزيز قواعد الحكم الصالح.. ونتيجة لذلك، فإن أهداف الصين على المدى المنظور و المتوسط و فق "الحلم الصيني" هي أهداف سياسية داخلية بالأساس غايتها تحقيق الرخاء الاقتصادي وضمان الاستقرار السياسي و السلم الاجتماعي، و تحقيق حياة أفضل لعموم المواطنين..وهذا التوجه العام يقتضي بالضرورة توسيع نطاق السلطة الوطنية للدولة، بما في ذلك التطوير العسكري والعلاقات الدولية..لكن إهتمام القيادة داخلي بدرجة أولى، و توجهها للخارج غايته حماية مصالحها الاقتصادية و التجارية و تأمين مصادر الطاقة و المواد الخام، و ضمان سلامة طرق الملاحة ..أما التطلع لقيادة النظام الدولي فالصين غير مستعدة في المدى المنظور للقيام بهذه الوظيفة.. ثالثا- التحديات الداخلية تعوق قيادة الصين للنظام الاقتصادي و المالي العالمي خصوصا في المدى المنظور: إن أهداف السياسات الأولية منذ عام 2002 و التي تم ترجمتها في "الحلم الصيني" ركزت على زيادة مصادر الدخل للأفراد، مع الحرص على تحقيق النمو المتوازن والمستدام، و تقليص فجوة الدخل و التنمية بين الحضر و الريف و بين المناطق الساحلية و الوسطى، و تسهيل النمو في المناطق الغربية والجنوبية الغربية بتطبيق سياسات مثل استراتيجية النمو الغربي العظمى " "Great Western Development Strategy ومن ثم زيادة المساهمة الاقتصادية لتلك المناطق من خلال إعادة تجديد المناطق الريفية بالدولة التي لا يزال يقطنها ما يزيد عن نصف سكان الصين… فالصين على الرغم من أنها قوة إقتصادية عالمية و هي ثاني إقتصاد في العالم، بمتوسط ناتج محلي إجمالي 14 تريليون دولار عام 2021 ، وتعتبر الصين أكبر مستورد للنفط الخام في العالم بنحو 10 ملايين برميل يوميا، وثاني أكبر مستهلك له بواقع 12.5 مليون برميل يوميا، أي بنسبة 14% من حجم الطلب العالمي على النفط يوميا، وقد انتقل الاقتصاد الصيني من 4% من الناتج الإجمالي العالمي في عام 2000 في المرتبة السادسة، إلى المرتبة الثانية في 2018 بنسبة تمثل حوالي 15% من الاقتصاد العالمي…ووفقا للعديد من التوقعات، فإن اقتصاد الصين سيتفوق على نظيره الأمريكي من حيث حصته من الناتج المحلي الإجمالي، بحلول عام 2029 بقيمة ناتج محلي تبلغ 25.6 تريليون دولار، مقابل 24.5 تريليون دولار للولايات المتحدة… لكن هذه المؤشرات الماكرو-إقتصادية تخفي وراءها العديد من التحديات التي تواجهها الصين و التي تم التعبير عنها في "الحلم الصيني"، و من ذلك أن متوسط الدخل الفردي في الصين لازال جد منخفض مقارنة بالولايات المتحدة و غيرها من القوى الاقتصادية الأخرى، فمتوسط الدخل بلغ في شانغهاي نحو 9316 دولار في العام 2017 ، وهو الأعلى بين 31 منطقة على مستوى المقاطعة في الصين، ، لكن في المقابل هناك مناطق في الصين متوسط الدخل فيها لا يتعدى 2400 دولار للفرد..و هذا تحدي أخر يواجه الصين، فثمار التنمية لا تتوزع بشكل متوازن بين مختلف المقاطعات الصينية ، و أيضا هناك تفاوت حاد في الدخل بين سكان الحضر و سكان الريف..و في ظل تبعات أزمة "فيروس كورونا المستجد" و الأزمة الروسية الأوكرانية و التنافس الحاد في بحر الصين الجنوبي و الحرب الباردة بين الصين و أمريكا، من المتوقع أن ينخفض معدل النمو في الاقتصاد العالمي، وبالتبعية سوف يتضرر الاقتصاد الصيني و الذي دخل بالفعل في دورة أزمات منها أزمة عقارية، و تباطؤ في معدل النمو.. لذلك فإن أولويات الصين في هذه الأزمة ليس البحث عن قيادة العالم أو تسيده، أو الاطاحة بالولايات المتحدةالأمريكية.. و لعل خطاب "شي" في المؤتمر 20 حاول التركيز على هذه الأولويات، فأولويات الصين لازالت داخلية بالدرجة الأولى..و سنحاول توضيح ذلك في مقال موالي إن شاء الله تعالى.. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون.. إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..