قطاع المحروقات: من أجل معالجة شمولية معالجة سؤال المحروقات ومعضلة أسعارها لا يمكن حصرها ضمن قوانين تنظيمية مؤسَّسة على مبادئ وأسس زمن ما قبل الأزمات المتكررة التي يعيشها العالم جراء طغيان النيولبيرالية وتجبرها وبالخصوص في البلدان المتأخرة، وبعد ما عانيناه مع الأزمة الصحية كوفيد 19، ولا نزال مع الحرب الروسية الأكرانية الجارية. إن الإطار القانوني الذي ضمنه يتحرك عقل مجلس المنافسة في مقاربته لهذه المشكلة لا يزال، رغم حداثته ببلادنا، يخضع لفلسفة "السوق، وحده السوق قادر على تنظيم نفسه وليس للدولة مكان فيه"، التي أصبحت محل مراجعة لدة عتاة الرأسمالية، ولايزال تِكنقراطيُّونا يدافعون عنها باستماته. لكن ما الذي يمنع مجلس النواب والحكومة ومجالس أخرى دستورية تتمتع بصلاحيات تمكنها من الانفكاك من قيود قوانين لم تعد مقبولة خصوصا مع الدولة الاجتماعية التي أصبحت شائعة التداول والتي لاتزال تتجرع الضربات القاضية المسترسلة إلى الآن (حرر بنكيران سوق المحروقات السائلة، وغض الطرف عن السكتة القلبية لسامير، واليوم سيحرر أخنوش غاز البوطان/مشروع قانون المالية 2023…). إننا أمام مشكل مركب لا يمكن النظر فيه من الزاوية الاقتصادية البحتة، بل أن يحضر فيه السواد الأعظم والطبقات المتوسطة بقوة. وبالتالي أن يعاد النقاش فيما يدْعى بأساسيات السوق الحرة المطلوقة الأيادي حتى في قطاعات حيوية بل وجودية، كما هو الحال بالنسبة للمحروقات وغيرها من المواد والخدمات التي لا يمكن ولا يجب أن يطالها العقل النيوليبرالي. فالسؤال المطروح اليوم، ليس هل سوق المحروقات منسجم وسياسة المنافسة وقانون المنافسة في الواقع المغربي، بل هل هذه السياسة وهذا القانون يفضيان إلى العدالة بمفهومها الشامل تجاه جميع الأطراف المعنية بالمحروقات السائلة منها والغازية؟ فمن هي الأطراف المعنية بقطاع المحروقات؟ هذا سؤال جوهري يتعين على أية معالجة للقطاع الجواب عنه. لأن كل كلفة يجب أن يُوزَّع أداؤها وفق مبدأ كل حسب قدرته واستطاعته، وليس بشكل تقنوي ضيق. الطرف الأول، الدولة بكل سُلَطها باعتبارها الضامن لاحترام القانون والمواطنات والمواطنين والساهر على إحقاق العدالة الاجتماعية والمستثمر فيها؛ الطرف الثاني، الاقتصاد المنتج مُمثَّلا في نسيجه المقاولتي الخاص والعام؛ الطرف الثالث، تجار المحروقات باعتبارهم الطرف المباشر في القطاع؛ الطرف الرابع، عموم الناس، أي الجمهور العريض من المستهلكين والمقاولين الذاتيين والمقاولات الصغرى والقطاع غير المهيكل المعاشي منه على الخصوص؛ وأخيرا الطرف الخامس ألا وهو البيئة وبالتالي الأجيال المستقبلية التي يجب وضعها في الحسبان عبر ممثليها في المجتمع المدني لما تتعرض له من أضرار كبيرة بدأت آثارها المدمرة تظهر بالنسبة للأجيال الحالية فما بَالُنا بالأجيال القادمة. إن التجارب الليبرالية الاجتماعية عندما تضع قوانين المنافسة تستحضر بقوة المواطن. فالتجربة الفنلندية على سبيل المثال، جعلت من مؤسسة وسيط المنافسة آلية تُعبِّر عن مصالح الجمهور الواسع والمقاولات الصغيرة، تعمل على تقديم طلبات البث في قضايا تضر بهذه المصالح مثله في ذلك مثل للنقابات وجمعيات حماية المستهلك. وهذا في حد ذاته لم يعد كافيا في ظل تركيب الأطراف المعنية. إننا والحالة هذه أمام خمسة أطراف معنية يجب استحضارها في القرار ذي الصلة بالمحروقات. وهذه مقاربة لا تستمد جذورها لا من الاشتراكية ولا من الشيوعية ولكن من رأسمالية الأطراف المعنية التي تقدم نفسها على أنها بديل معقول للنيوليبرالية. فهل مجلس المنافسة استحضر كل هذه الأطراف في رأيه الأخير حول المحروقات؟ فالجواب قطعا بالنفي. فكل بطارية التوصيات التي انتجها تصب إما في جيوب تجار المحروقات أوفي خزينة الدولة، بينما الأطراف الثلاثة الأخرى، فلها الله. المحروقات كما قاربها مجلس المنافسة في نسختيه (19/1 و 22/3) ليست الغاية هاهنا القيام بمقارنة الخطين التحريرين للتقريرين لأن ذلك يتطلب عملا دقيقا لا يشكل أولوية بالنسبة لهذه المقالة. فالتقرير الأول والأحكام التي نتجت عنه تم إقبارها وأدى ثمنها رئيسها وتحتاج لوحدها تحقيقا نزيها حول مجرياتها لأن الطريقة التي جرت بها الأمور تطرح أكثر من علامة استفهام حول فعلية دولة المؤسسات. ولكن الغاية هي استحضار معطيات التحليل والخلاصات التي وصلا إليها. وقبل ذلك لا بد من الإشادة بعمل المجلس في نسختيه لما وفره للفاعل كيفما كانت طبيعة فعله بالمادة الضرورية للاقتراب من هذا القطاع الحيوي وفك طلاسمه. فإذا كانت المعطيات الموضوعية اتسمت بكثير من الموضوعية، فإن من حقنا أن نختلف في قراءتها وفي الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها. بين الإحالة التي قدمتها الحكومة للمجلس تحت رئاسة ادريس الكراوي، والإحالة الذاتية تحت رئاسة احمد رحو، لم يتغير الموضوع إلا من حيث الشكل. الأول مقدم من طرف الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالشؤون العامة والحكامة بتاريخ 06 دجنبر 2018″حول قرار الحكومة بشأن بتسقيف هوامش ربح المحروقات السائلة"، وذلك عبر إدراجها المؤقت ضمن قائمة السلع والمنتوجات والخدمات المنظمة أسعارها وفقا للمادة 2 من القانون 12.104 حول حرية الأسعار والمنافسة. ومنطوق الثاني والذي جاء في عداد إحالة ذاتية "حول الارتفاع الكبير في أسعار المواد الخام والمواد الأولية في السوق العالمية، وتداعياته على السير التنافسي للأسواق الوطنية (حالة المحروقات الغازوال والبنزين (". وفي كلتا الحالتين، فالموضوع يتعلق بمدى احترام فاعلي القطاع شروط المنافسة في سوق حرة مفترضة ومدى فعالية قرار تسقيف الأٍرباح مع الارتفاع الكبير للأسعار. ولقد عالجا معا بصفة إجمالية نفس الأسئلة وقارباها بنفس المنهجية، ولكن اختلفا في سياسة المعالجة. وقبل الخوض في الخلاصات العامة للمجلس، لا بد من التأكيد أنه اليوم وعبر العالم لم يعد خفيا مدى الأرباح الفائقة لتجارة الغذاء والنفط ومشتقاته واستغلال الفاعلين بها ظروف الأزمة، ولم يعد أيضا شيئا جديدا أن تجارة المحروقات قطاع ريعي بامتياز. وأهم خلاصات المجلس في النسختين معا للقطاع: قطاع شديد التركيز وضعيف المنافسة: إن سوق الغازوال والبنزين يتسم بنسبة عالية من التركيز في كل مراحل سلاسل القيمة الابتدائية منها والنهائية بالرغم من دخول فاعلين جدد لم يستطيعوا جراء حجمهم من التأثير في تنافسية هذه السوق وخلق دينامية جديدة بها. وتهيمن ثلاثة شركات بشكل كبير على كل سلاسل القيمة، وهي أفريقيا/ Afriquia SMDC ، وشال/Vivo Energy Maroc (Shell) و طوطال/TotalEnergies Marketing Maroc، من التموين والتخزين إلى محطات الخدمة ثم التوزيع، مع تصدر شركة أفريقيا هذه القائمة. على مستوى التوزيع هناك سبع فاعلين يمثلون أزيد من 80 بالمئة من حصص هذه السوق من حيث رقم المعاملات. والخلاصة العريضة بالنسبة للمنافسة في قطاع المحروقات هو أنها قد غابت أو تم إبطالها كما أكد على ذلك تقرير مجلس المنافسة. قطاع عالي الأرباح ومدر لمداخيل الخزينة العمومية ومستنزف للفئات الشعبية والوسطى: يؤكد المجلس في نسخته الثانية على أن نشاط التوزيع مربح جدا وهذا "لا يشجع الفاعلين على التنافس بواسطة الأسعار في هذه الأسواق، طالما أن النتائج الإيجابية المتعلقة بحساباتهم المالية تظل مضمونة أو شبه مضمونة، بصرف النظر عن الظرفية أو عدد الفاعلين، هذه الوضعية تفسر، إلى حد كبير، غياب خروج أي من الفاعلين من هذه الأسواق طوال العشر سنوات الماضية". علاوة على ذلك، فخزينة الدولة تتغذى من الضرائب التي يجنيها من خلال نوعين منها تنهك القدرة الشرائية للمستهلك الأخير، أي المواطن من فئات شعبية واسعة وطبقات متوسطة؛ وهما الضريبة على الاستهلاك الداخلي وهي محددة لم تتغير منذ زمن بعيد كما جاء في تقرير المجلس ولا تتأثر بتغيرات الأسعار العالمية، والضريبة على الدخل (10 بالمائة) وهي متحولة حسب التحولات الذي يخضع لها ثمن البترول. وتشكل مجموعة حوالي %40 من سعر البيع. وخلاصة القول إن هيكل السعر الأخير الذي يقتني به المستهلك الغازوال والبنزين، يتألف من كلفة الشراء (%51 و %43)، متبوعة بالضرائب (35% و45%)، فأرباح الموزعين ( 12%و 14%). ويؤكد المجلس على ان الفاعلين فضلوا مضاعفة هوامش ربحهم بدال من السعي إلى الزيادة في حصصهم السوقية عن طريق تطبيق تخفيضات هامة في أسعار البيع، في الوقت الذي انخفضت فيه الأسعار عالميا سنة 2020 وفي النصف الأول من سنة 2021. إننا والحالة هذه أمام سوق متروكة لحالها في خدمة الدولة وتجار المحروقات، وذلك نتيجة التحرير الأعمى لهذه السوق من لدن "الليبراليين" المتخلفين. ولذلك اقترح التقرير 2019/1 إنشاء "آلية قطاعية للنظامة بالنسبة لسوق المحروقات على شاكلة ما هو معمول به بالنسبة لبعض الصناعات الشبكية مثل سوق الاتصالات." قوانين تستبطن شروط الريع والربح السهل: إن طبيعة قطاع المحروقات ببلادنا وشروط تنظيمه تستبطن كل العوامل المولدة للاحتكار كما وقف على ذلك تقرير الإحالة 1/2019 لمجلس المنافسة. ففي غياب رأسمال قوي لا يمكن دخول معترك المنافسة في المحروقات ( شرط 30 محطة جاهزة للتوزيع عل أي مستثمر وبنيات للتخزين لا تقل على 2000 متر مكعب) وعليه فإن القطاع يعاني أصلا من تركيز مرتفع مع وجود بنية شبه احتكارية كما أكد عليه ذات التقرير. وهو ما دفع الرأي السابق إلى معالجة بنيوية لأعطاب القطاع وفق ما يسمح له به الإطار المرجعي الذي يؤطر عمل المجلس ترتكز على مقومات ضمان المنافسة الحرة "انسجاما مع الأهداف الاستراتيجية المتعلقة بتأمين تموين السوق، والفعالية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية." ولهذه الأسباب البنيوية منها والعارضة، كما جاء في التقرير رقم 19/1، فإن "تسقيف هوامش الربح للمحروقات السائلة يبقى اختيارا غير كافٍ وغير مجدٍ من الناحية الاقتصادية والتنافسية ومن زاوية العدالة الاجتماعية "؛ لأن قطاع المحروقات يعرف مشاكل بنيوية، فالتسقيف حل ترقيعي محدود الأثر زمنيا، لا أثر له على المستوى المتوسط والبعيد. أي عديم الفعالية اقتصاديا واجتماعيا. وهذا الرأي في الحقيقة واقعي ومعقول. كما أن العمل على إضافة قطاع المحروقات لقائمة المواد المنظمة أسعارها وفق المادة 4 من قانون حرية الأسعار والمنافسة رقم 104.12، التي تعطي للسلطة التنفيذية اختصاص اتخاذ تدابير مؤقتة ضد ارتفاع أو انخفاض فاحش في الأسعار تعلله ظروف استثنائية أو كارثة عامة أو وضعية غير عادية بشكل واضح في السوق بقطاع معين، ستبقى محدودة الأثر. إن قطاع المحروقات لا يمكن معالجته في إطار قانون حرية الأسعار نظرا للتقلبات التي يعرفها باستمرار ولتأثيره القوي والمباشر على جميع القطاعات والمجالات الاقتصادية والاجتماعية بغية ضمان استقراره والحد من الهامش الواسع الربحي والضرائب المرتفعة جدا، فالمحروقات تعتبر مادة حيوية لا يمكن التعامل معها بمنطق السوق والربح. تكرير النفط وطنيا مسألة سياسية/سيادية وليست تقنية سوقية: أليس عيبا أن نستورد محروقاتنا من بلدان غير منتجة للبترول؟ كيف تكالبت السياسة النيوليبرالية لجميع أصناف المحافظين الإسلاميين منهم وأشباه الليبراليين، في التحرير الأعمى لقطاع المحروقات، واللامبالاة من لدن الجميع حيال أزمة مصفاة سامير مع التوقيف التام لأنشطته في التكرير والتخزين، إذ كانت لها قدرة على تخزين مليوني متر مكعب كما جاء في التقرير الأول. يقول ذات التقرير: " لقد وضع غياب الشركة الوطنية للتكرير البلاد في وضعية تبعية بنيوية أمام الاستيراد، مع ما يحمله ذلك من انعكاسات على مستوى تصاعد الفاتورة الطاقية والميزان التجاري للبلاد. فقد انتقل معدل تغطية حاجيات السوق الوطنية من المواد المكررة من %41،4 سنة 2014 إلى %4،6 سنة 2015، كما تعمق العجز التجاري للمواد الطاقية بنسبة %16،4 حيث انتقل من 54،3 مليار درهم إلى 63،2 مليار درهم." فمن المستفيد من توقف أنشطة سامير إذن؟ حسب تقرير الإحالة 2019/1، عادت أنشطة سامير للعملاء الكبار في القطاع الذين يتوفرون على بنيات تحتية تمكنهم ذلك، وتضرر صغار القطاع جراء هذا التوقف. بينما المستهلك والوطن كانوا أكبر المتضررين. إذا كان التقرير 19/1 قد أوصى بالتكرير الوطني في إطار القطاع الخاص أو العام أو هما معاً، وتعزيز القدرات التخزينية وفصلها عن باقي سلاسل القيمة للمحروقات، مع إنشاء آلية لنظامة القطاع ضمانا لتنافسية عادلة بين جميع الفاعلين والمستثمرين، فإن التقرير الثاني للمحروقات 2022/3 نظر إلى المسالة من زاوية الربح والخسارة مكتفيا بتوصية موجهة للحكومة بالقيام بدراسة اقتصادية وتقنية لهذا النشاط بناء على مستجدات هذا الفرع عالميا. في الوقت الذي أوصى تقرير الأول الحكومة بضرورة وضع تدابير تحفيزية خاصة لتشجيع وتنمية الاستثمار في نشاط التكرير الخاص، و/أو بشراكة مع القطاع العام. إن العودة إلى سياسة تكرير البترول وتعزيزها لسد حاجيات الطلب الوطني تعتبر ضرورة وطنية لا تحتمل التذبذب والتأجيل. وتتكفل بها الدولة وفي ذلك ربح ثلاثي بالنسبة لبلادنا، ربح اجتماعي في التشغيل، وآخر اقتصادي في عدم الارتهان كليا بالتقلبات الدولية والتقليل من هامش الكلفة، وثالث سيادي في ضمان التموين الوطني. إن قطاع المحروقات يحتاج لمعالجة سياسية على أساس مقومات الدولة الاجتماعية في زمن الأزمات البنيوية، وليس لرؤية تكنوقراطية خاضعة لمنطق السوق/الربح والخسارة. على مجلس المنافسة أن يتحمل مسؤولية اختصاصاته كاملة، العقابية منها أيضا مهم جدا أن يعمل المجلس على تحريك اختصاصاته الاستشارية بإبداء رأيه في هذا الباب، ولكن من المهم أيضا أن تُفَعَّل جميع اختصاصاته الأخرى التقريرية والردعية والعقابية انتصارا لانتصاف الاقتصاد والمجتمع والدولة والبيئة؛ وألا يبقى مكتوف الأيدي تحت تأثير ضغوط اللوبي القوي لهذا القطاع، فلا أحد فوق القانون. وإذا ما اقتصر دور مجلس المنافسة في إبداء الرأي فحسب، فهذا يمكن اعتباره تقاعسا في القيام بأدواره كاملة كما ينص عليها القانون. أدواره التقريرية في الردع والعقاب والإخطار كلما تم اختراق مقتضيات المنافسة النزيهة. وبما أنه وقف على تركيز كبير للقطاع وضعف في المنافسة وأرباح طائلة لعملائه في زمن تجرع فيه الشعب أكبر أزمة في حياته اليومية، فمن واجبه وهو محاسب إن أخل به على إنزال العقوبات التي اتخذها المجلس على الشركات الأساسية به. هذا من جهة، وأما من جهة أخرى، إذا كان مجلس المنافسة مقيد بضوابط قانونية لا يمكنه الاجتهاد خارجها ولا تغييرها وإن كان قد قدم بشأنها رأيه بأنها أصبحت متجاوزة، فإن البرلمان كمؤسسة تشريعية تتمتع بسلطات أكبر بكثير من تلك التي لمجلس المنافسة، تمكنه من تغيير القوانين وتبني أخرى، ويمكنه أن يرفع المحروقات من مجرد سلعة كباقي السلع الأخرى إلى اعتبارها مادة حيوية أساسية للمجتمع والاقتصاد كالماء والكهرباء وغيرهما. لماذا هذا القطاع يجب أن تدبره الدولة، وكيف يمكنها أن تخفض من كلفته على المستهلك دون أن تعود إلى دعمه؟ إننا لا نخترع العجلة من جديد عندما نقول إن استيراد المحروقات ضرورة لا بد منها، ولكننا عندما نستورده مكررا، يعتبر هذا سوءا في تدبير الموارد المالية الشحيحة، وتعريضا قويا للبلاد لمخاطر تقلبات هذه السوق. وكما أكد على ذلك مجلس المنافسة في نسخته الاولى، التكرير حاجة ملحة ولا يمكننا أن ندير لها الظهر، لأن من شأن ذلك الرفع من كلفة المحروقات على الاقتصاد وأغلبية المواطنات والمواطنين، واستفادة قلة قليلة من عائدات يمكن وصفها بالريع لأنها غير منتجة لا اقتصاديا ولا اجتماعيا. كما انه لا يمكن وضع مسألة الأمن الطاقي بيد القطاع الخاص في هذا الباب. على المستوى الضريبي، يمكن التقليص منها في جميع المستويات. فالضريبة على الاستهلاك الداخلي غير مفهومة بتاتا، وهو ما يتوجب استبدالها وتخفيضها، كأن تتحول إلى الضريبة البيئية وهنا يمكن العمل بما هو جاري به العمل ببلدان أخرى، كما أن الضريبة على القيمة المضافة غير مفهومة أيضا، فما هي القيمة التي نضيفها عندما نستورد المحروقات مكررة وجاهزة للاستهلاك؟ هذه يجب حذفها بالمرة. في هذا الباب، ليس من الأخلاق السياسية أن تملأ جيوب الدولة وتجار المحروقات على حساب المواطن، لأن هامشهما معا كبير مقارنة بتكلفة المحروقات عند الشراء. إن الأمر لا يعلق بمقارنة من يربح أكثر، الخواص أم الدولة، بل من يتحمل الكلفة الأكبر، المواطن والاقتصاد المنتج. فتوصية المجلس بتضريب الأرباح المفرطة على غرار الأبناك (37 بالمئة) بالرغم مما يروج عن توظيفها في السياسات الاجتماعية، عبث وتلاعب بالمصطلحات. ما يجب القيام به هو القطع مع ثقافة الاغتناء على حساب الناس في قطاعات لا يمكن الاستغناء عنها. أما تمويل السياسات الاجتماعية فيجب البحث عنها بطرق أكثر عدلا، أي تضريب الثروات المحصنة. وكم هي ساذجة وصورية هذه التوصية بتضريب الأرباح على المحروقات التي تعتقد أن من شأنها ثني الشركات على جني هذه الأرباح خصوصا عندما تنخفض الأسعار دوليا. ففي جميع الحالات فهذه الضريبة لا تمس إلا الأرباح، إنها هدية من مجلس المنافسة لتجار المحروقات مضافة للهدية الكبرى/ "عفا الله عما سلف". فمبدأ "عفا الله عما سلف" والاكتفاء بتوصية الرفع من الضريبة على الأرباح القياسية لتجار المحروقات المتأخرة يعد تقاعسا عن تفعيل المهام المنوطة بمجلس المنافسة في الحكم على تجار المحروقات بدفع كلفة عدم احترام مقتضيات القانون والاغتناء في وقت الأزمة. إننا في هذا الباب لسنا أمام اختيارين لا ثالث لهما، إما الدعم العمومي للمحروقات أو التحرير الفج لها؛ بل هناك اختيارات أخرى يجب الاجتهاد فيها باستقلالية عن الإملاءات الخارجية لكيلا يتضرر المواطن والاقتصاد جراء تحرير هذه السوق. إن المحروقات لا تمس الفئات الهشة فحسب، بل المجتمع والاقتصاد برمته. ومن ضمن هذه الاختيارات أن يدبر قطاع المحروقات من لدن شركة عمومية كما هو الشأن بالنسبة للفوسفاط وأن يخفض هامش الربح إلى درجات قصوى تحذف معها الضريبة على الاستهلاك الداخلي، وتخفض الضريبة على القيمة المضافة وتقلص من سلسلة الفاعلين حتى لا نبقى إلا مع محطات الخدمة التي يديرها القطاع الخاص مع تسقيف أرباحها آنذاك. منطق السوق المقدسة لن يسعف في حل إشكالات الأزمات البنيوية يقول جوزيف استكليز، في مقالة له صادرة بمجلةProject Syndicate يوم 17 أكتوبر 2022 وضع لها عنوان " لا تُربح الحروب باقتصاد زمن السلم"، يقول: عُرِف تاريخيا أن مستغلي ظروف الحرب يعدمون. إنهم اليوم يشملون العديد من منتجي الطاقة وتجارها الذين وعوض ان يلف حبل المشنقة على عنوقهم، عليهم أن يخضعوا لضريبة على الأرباح الاستثنائية التي يجنونها. ويتابع، "إن الاتحاد الأوروبي قد اقترح مثل هذا الإجراء، لكنه سيأتي بعد فوات الأوان، وهو ضعيف للغاية وضيق للغاية بالنسبة للتحدي المطروح." فماذا فعل هؤلاء المستغلون لظروف الأزمتين المتتاليتين ببلادنا ليستحقوا كل هذه الأرباح؟ وفي جميع الأحوال، فهذه الضريبة على الأرباح الصافية فحسب. اقتراح من هذا القبيل يستفيد منه طرفان أساسيان، هما الرأسمال والدولة. وهي عملية غير مجدية وصورية اجتماعيا بالنسبة للمواطن، يستنزف جيب المواطن، وتضخ أرباح طائلة في "اشْكَارة" المقاول، وتوهم الدولة عبر هذه الضريبة أنها تقوم بالتوزيع العادل. إنها فعلا مسرحية بليدة. علاوة على أن هذا الإجراء متأخر. الحقيقة أن الدولة سهلت استنزاف الشعب بالتحرير، وتوقيف نشاط التكرير وغياب المراقبة القبلية والحرص الواجب في زمن الأزمات، لأن الرأسمال غير المنتج للقيمة ينتعش في هذه الظروف. إن مقاربة مجلس المنافسة للمحروقات، باعتباره قطاعا حيويا، مفارِقة للظروف الجديدة التي نعيشها اليوم. إن تضريب الأرباح الكبيرة التي يجنيها الفاعلون به وعدم المساس بالضرائب التي تجنيها الدولة مقاربة غير عادلة بالمرة تعكس مفهوم الدولة الاجتماعية لدى النيولبراليين النامون ليسوا باعتبارهم أفرادا ولكن بانتمائهم لدولة نامية. لأن الاعتقاد أن هذه المقاربة اجتماعية خاطئ، إنها تداري على الرأسمال وتلتف على مقومات الدولة الاجتماعية. إن استعادة الدولة لتسيير هذا الاقتصاد ليست أيديولوجية، إنها لعمري اجتماعية فحسب. وعدم الحسم في تبني موقف من التكرير المحلي ليس إلا دليل على هذا التذبذب والوفاء للأطروحات النيوليبرالية التي كانت تمليها المؤسسات المالية الدولية، المعتمدة على منطق السوق في الربح والخسارة الآنيين وسد الأعين على ما هو استراتيجي في انتظار الإملاءات المستقبلية. إن المغرب يحتاج لنساء ورجال لهم من الجرأة والاستقلالية والنزاهة الفكرية ولا ينتظرون في ذلك مكافئات، بل على العكس من ذلك، قد تكون مثار إزعاج، غضبات بل وعداءات، لما لا! للنظر عندما تكون العدالة والأمن والسيادة دوافع اللبرالية الحقة، ماذا تفعل الدول عندما يصاب قطاع مفصلي بأزمة، إنها لا تتوانى ولو لحظة عن إنقاذه ولو تعلق الأمر بتأميمه. في 21 شتنبر 2022، أعلنت الحكومة الألمانية أنها قامت بتأميم Uniper أكبر موزع للغاز الطبيعي القادم من روسيا والذي يقوم على تزويد البلاد بأزيد من ثلث حاجياتها الغازية، ضاربة عرض الحائط المبدأ الليبرالي الأوربي بعدم تدخل الدولة في مثل هذه الحالات. كما ان الحكومة الألمانية وضعت اليد منذ اندلاع الحرب الروسية على اكرانيا على المصافي الثلاثة لضمان الأمن الطاقي. فلماذا قامت ألمانيا بذلك غير مكترثة بالتوجيهات الناتجة عن ظروف لم تعد قائمة اليوم؟ إنها بكل بساطة لها من العقول ما يمكِّنها من معرفة التغييرات التي نعيشها اليوم والتحولات اللازمة وفق ذلك كما أنها واعية ببطء تفاعل العقل الأوربي مع الظروف. ليس غريبا على ألمانيا بلد الإنتاج الفكري الغربي بامتياز. يقول استكليز على الغرب أن يقدم أجود الأجوبة الاقتصادية، البداية بإجراء الضريبة على الأرباح القياسية لتجار المحروقات، ولكنها غير كافية، بل تحتاج لرزمة من الإجراءات الأخرى من مراقبة أسعار الكهرباء والأغذية مع تشجيع تدخل الدولة كلما دعت الضرورة لتخفيف حدة الخصاص الحاد. ويختم، إن النيوليبرالية المبنية على أفكار تبسيطية حول طريقة عمل السوق التي لا تمكنهم من معرفتها حقيقة، لم تكن فعالة حتى في زمن السلم فبالأحرى في زمن الأزمات والحرب. وفي مقالة منشورة بلوموند ديبلوماتيك لشهر أكتوبر 2022، تحت عنوان " تضخم، أرباح استثنائية، أزمة الطاقة: صدمة للاقتصاد العالمي"، يؤكد صاحبها أنه إذا كانت التوترات الحالية تتحول إلى أزمة مالية، فإن حجم الركود الاقتصادي الذي يمكن التنبؤ به سوف يكون قياسيا. ولذلك فإننا نعيش حقيقة أزمة العولمة الكاشفة لكل عيوبها، وأن الأسس التي تنبني عليها حكامة السياسة الاقتصادية خلال العقود الأخيرة سوف تؤجج التوترات، ولكن لا شيء يلوح في الأفق لتغيير الوجهة. موضوع معالجة حرية الأسعار والتنافسية والسوق الطليقة يحتاج لمعالجة عميقة وليست معالجة شكلية متشبثة بحرفية نص لم يعد لائقا مع ما يعيشه العالم من تحولات كبرى وما تعيشه النيوليبرالية من أزمات متكررة راجعة إلى أزمته الأصلية باعتباره نظاما غير منتج لا للثروة المنتجة ولا للعدالة الاجتماعية وبالخصوص في نسخته الرقمية. إن ما كان يروج له من أن السوق قادر على تنظيم نفسه وأن الدولة عاجزة تماما عن ذلك تبين بالملموس ومنذ أزمة 2008، أن ذلك مجرد هراء ودعاية كاذبة للرأسمالية المالية لتستحوذ على الشعوب.