يشكل قرار محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط الصادر مؤخرا والقاضي بمطالبة رئيس المجلس الوطني للصحافة بتنفيذ الأمر بتجديد بطاقة الصحافة أحد الإعلاميين بناء على الدعوى التي رفعها سابقة في تاريخ الوقائع الصحافية المغربية وقد يساهم كذلك في إثراء القضاء الإداري المتعلق بالصحافة والاعلام. ويبدو أن هذه القضية الأولى من هذا النوع التي يجرى فيها اللجوء الى القضاء بهدف استصدار حكم لإثبات الحق في تجديد بطاقة الصحافة، ليس فقط منذ إحداث المجلس الوطني للصحافة عام 2018، ولكن حتى حينما كانت وزارة الاعلام تشرف على عملية منح هذه البطاقة قبل تأسيس هذا المجلس. وكانت محكمة الاستئناف الإدارية بالرباط قضت في جلسة علنية، بتأييد الحكم الابتدائي القاضي بإلغاء القرار الضمني والحكم على المجلس الوطني للصحافة المطلوب في الطعن، بتجديد بطاقة الصحافة لإدريس الوالي مدير الجريدة الجهوية " صدى تاونات"، مع ترتيب كل الآثار القانونية الناجمة على ذلك. وبعد نشر قرار الحكم القضائي بمنابر الصحفية، أصدرت لجنة البطاقة بالمجلس الوطني للصحافة، "بيانا توضيحا" أكدت فيه بالخصوص أن " المزاوجة بين الوظيفة الإدارية ومهنة الصحافي، أمر غير قانوني" مشيرة الى أن " المعلومة التي أدلى بها المعني بالأمر، عندما قدم طلبه إلى المجلس لتجديد بطاقته المهنية، أنه موظف لدى مجلس النواب، وبالتالي فأجره الأساسي لا يتأتى من ممارسة مهنة الصحافة، كما تنص عن ذلك المادة الأولى من القانون المتعلق بالصحافيين المهنيين ". وتنص هذا المادة على أن الصحفي المهني هو " كل من يزاول مهنة الصحافة بصورة رئيسية ومنتظمة، في واحدة أو أكثر من مؤسسات الصحافة المكتوبة أو الإلكترونية أو السمعية أو السمعية البصرية أو وكالات الأنباء عمومية كانت أو خاصة التي يوجد مقرها الرئيسي بالمغرب، ويكون أجره الرئيسي من مزاولة المهنة". ما معنى أن تكون صحفيا؟ وبغض النظر عن حيثيات هذا الحكم وما أثاره من وردود فعل خاصة من الأوساط الصحفية، فإنه يشكل على مستوى البحث العلمي، محفزا للباحثين في المؤسسات والمعاهد الجامعية للعلوم القانونية والاجتماعية والإعلامية وللمهتمين بقطاع الاعلام والاتصال لتسليط الضوء على اسقاطاته العلمية. أما على المستوى المهني، تطرح إشكاليات مفاهيمية في مقدمتها تعريف الصحافي ومفهوم الصحافة و تساؤلات متعددة حول ما معنى أن تكون صحفيا اليوم؟ وهل لا زالت المادة الأولى من القانون رقم 89.13 المتعلق بالنظام الأساسي للصحافيين المهنيين تفي بالغرض في الألفية الثالثة؟ وأيضا هل ممارسة الصحافة تقتصر على الحاصلين على البطاقة؟ وهل الصحفي يظل هو نفسه في أي زمان وفي أي مكان؟ وبأي معيار يمكن أن نفرز الصحفي عن غيره؟ وهل لصحفي اليوم نفس السلطة الرمزية، في ظل التحولات الرقمية واختلاف وسائل التعبير الإعلامي والتقني بين هذا وذاك؟. وهل الصحفي هو ذاك الذي يحرر المادة الخبرية بتوظيف خبرته ومعرفته بحدود وطبيعة الأجناس الصحفية؟ وهل يمكننا أن نعتبر كل من يشتغل في حقل الصحافة والاعلام والتواصل صحفيا؟. وهل الصحفي هو ذاك الذى يرتبط بشكل فعلي بخصوصية عمله أولا، وبالأسئلة الحارقة المطروحة عليه وأيضا على مجتمعه ؟. النطاق الضيق لتعريف الصحفي وتخرج هذه التساؤلات عن النطاق الضيق للتعريف الذي ينص عليه قانون الصحفي المهني، وهو ما يزيد من صعوبة الإجابة عنها، اعتبارا لارتباط ممارسة الصحافة بحقول أخرى حقوقية وسياسية وقانونية وأخلاقية. فإذا كان الصحفي " موظفا "، فإنما يتعين أن يكون موظفا في مجال البحث عن الحقيقة، وأن يحوّل وقائع المجتمع وتجاربه الإنسانية إلى معطيات خبرية تساهم في تشكيل آراء واتجاهات الأفراد والجماعات. وإذا كانت الصحافة بمتاعبها المتعددة، تظل مهنة حقيقية كباقي المهن فلها قواعدها وأخلاقياتها، وليست مهنة من لا مهنة له. عمال مهرة في الاعلام غير أن الصحافة تواجه تحديات كبرى لن تجيب عنها قوانين الصحافة والاعلام منها ما تفرزه التحولات المتسارعة نتيجة الثورة الرقمية، مع استحضار هشاشة الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين خاصة الأجيال الجديدة الذين أصبحوا يشكلون طبقة جديدة توصف ب" العمال المهرة في الاعلام"، كما جاء في كتاب " الثورة الرقمية ثورة ثقافية" للباحث الفرنسي ريمي ريفيل المتخصص في اجتماعيات الإعلام. الصحافة فن الممكن وعلى الرغم من أن الصحافة عبارة عن نشاط فكري وإبداعي له خصوصيته وقوانينه وأساليبه وطرق عمله، فإن القيمة المركزية، رغم التطور التكنولوجي، تبقى للعنصر البشري الذي له تأثير حاسم في العمل الصحفي الذي يرتكز على التحري الموضوعي عن الأخبار والمعلومات لجعلها في متناول الجمهور. فممارسة الصحافة، تتطلب قدرا كبيرا من التكيف مع شروط وسياقات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، لكن شريطة ألا يصبح هذا التكيف خضوعا لما يتعارض مع حقائق الأشياء، ومع معايير المهنة وأخلاقياتها، إذ أن من لا يقتنع بأن الصحافة كفن للممكن، فقد يصطدم بمختلف أشكال المقاومة السياسية والاجتماعية والثقافية والقانونية والمالية. مؤثرون في الفضاء الرقمي نوع آخر من التحديات تواجه الصحافة بسبب التكنولوجيات الرقمية التي أحدثت تحولات عميقة في الفضاء العام، ومن افرازاتها تنامي ما يطلق عليهم حاليا ب" المؤثرين " وهي الظاهرة التي تجتاح وسائل التواصل الاجتماعي، وتنافس الصحفيين المهنيين، ويتعاظم دورها في توجيه الرأي العام والاستئثار باهتماماته. فالتكنولوجيا الرقمية، وإن كانت وسيلة للدفاع عن حقوق الإنسان، لكن قد تستخدم أيضًا لقمع هذه الحقوق والحد منها وانتهاكها من قبيل الرقابة والمضايقات عبر الإنترنت، فضلا عن سوء تأثير استخدام هذه التكنولوجيات على الأفراد والجماعات المهمشة، وإشاعة عدم المساواة والتمييز، عبر الإنترنت وفي الحياة الواقعية كما تسجل تقارير للأمم المتحدة . فهل سيتمكن المجلس الوطني للصحافة القادم الذي تفرزه الانتخابات المقبلة من كسب رهان المصداقية واتخاذ مبادرات لتحفيز النقاش العمومي حول أهمية الصحافة والإعلام، والاسهام في توطين موقع الصحافيين والصحافة ووظائفها.