لم يسبق لدولة عربية ما وهي تستعد لاحتضان القمة العربية بين ظهرانيها، أن أثارت الشوشرة واللغط والتهافت والارتباك حول نفسها، مثلما شاهدناه من جانب نظام الجزائر، الذي يستعد لاستضافة قمة العرب: 01 02 نوفمبر 2022، والتي تأجلت ثلاث مرات، وكانت مهددة بالتأجيل لمرة رابعة. جرت العادة عند اقتراب موعد كل قمة عربية أن تنطلق المشاورات بين القادة ووزراء خارجيتهم والأمين العام للجامعة العربية، لتحديد طبيعة القضايا التي ستدرج ضمن جدول الأعمال، وفي مقدمتها ودون جدل أو مزايدات القضية الفلسطينية كبند دائم. هذا التداول التحضيري تنخرط فيه الدولة المضيفة، التي تحرص من جانبها على توفير ثلاثة شروط رئيسية لإنجاح القمة: الأول: ضمان حضور واسع للزعماء العرب، ثانيا: خلق أجواء تساعد على توحيد الصف العربي وتعزيز العمل العربي المشترك.، وثالثا: الانشغال بالترتيبات اللوجستية لاستقبال القادة العرب في أحسن الظروف إن لم نقل أرقاها، تعبيرا من الدولة المضيفة، عن تقديرها واعتزازها وهي تستقبل زعماء الأمة داخل البيت العربي الدوري. لكن دعونا نلقي نظرة حول ما أعده حكام الجزائر لهذه القمة العربية، بكل موضوعية ودون تحامل، من خلال قراءة متأنية لتحركات ومواقف كبار المسؤولين بالمرادية والخارجية. قدمت الجزائر منذ الانطلاقة إشارات خاطئة تنم عن سوء نوايا وإخلال بأصول وترتيبات استضافة قمة عربية، فانحرفت عن المسار الاعتيادي الذي تسلكه كل دولة مضيفة، من الناحية السياسية والتنظيمية والإعلامية والاعتبارية، عندما بنت عقيدتها بشكل غريب على أن من يحتضن القمة يتمتع بالفيتو/ الجوكير للتصرف كما يشاء في تدبير شؤون القمة، واختيار من يحضر ومن تعترض عليه، وانتقاء المواضيع التي ستعرض وكيفية تناولها وطبيعة مخرجاتها بل وتحديد الموعد، متغافلة أن أصول وتقاليد التنظيم تعود إلى عام 1945، وهناك زعماء دول وأمين عام للجامعة يتوجب الرجوع إليهم في هذا الشأن. فاندفع النظام الجزائري بداية، عندما تسرع في تحديد موعد للقمة شهر مارس 2022 ومحاولة ربطها بأجندة وطنية، في حين أن الظروف والشروط المناسبة لعقدها لم تكتمل بعد، فتقرر عربيا تأجيلها إلى أبريل ثم نوفمبر، لتتلقى الجزائر درسها الأولى. على الصعيد السياسي، فشل النظام الجزائري في فرض عودة النظام السوري إلى الجامعة رغم الوعود التي قطعها للرئيس بشار الأسد ولإيران بأن مسألة مشاركة سوريا وعودتها محسومة، فشل أيضا في استبعاد حضور المملكة المغربية للقمة بعد أن سعى للحيلولة دون ذلك، فرضخ في الأخير، وتحت ضغط عربي كبير، للامتثال للشروط البروتوكولية لتنظيم القمة، لما قرر، على مضض، إيفاد مسؤول حكومي إلى الرباط لتسليم رسالة الدعوة إلى الملك محمد السادس لحضور القمة العربية. سعت الجزائر أيضا إلى ضمان حضور النظام الإيراني من وراء الستار عبر استبعاد أية قرارات للتنديد بالتدخل الإيراني السافر في الشؤون الداخلية العربية. من جهة أخرى يسود الاعتقاد لدى حكام الجزائر بأن الفرصة مواتية لدس صنيعتهم "جمهورية الوهم التندوفية" حضورا أو موضوعا في القمة، بعد أن أعلنوا صراحة بأن القمة بالجزائر ستكون " قمة للتضامن العربي ودعم القضية الفلسطينية ودعم الشعب الصحراوي..". وفي خطوة استفزازية لمصر طالبوا بشكل استعجالي بالإصلاح الهيكلي للجامعة وتدوير منصب الأمين العام للجامعة، الذي تنفرد به مصر، وهو موضوع في غاية التعقيد واقتحامه ليس بهذا الاستخفاف الذي يجعله على جدول أعمال قمة الجزائر، فلم تلق دعوتهم التجاوب، بل تقرر التجديد لولاية ثانية للأمين العام الحالي للجامعة، المصري، أحمد أبو الغيط. وهو درس آخر لدعاة الإصلاح الدعائي. من جانب آخر وفي خطوة استباقية، تم استدراج الرئيس الفلسطيني محمود عباس المشغول بهموم قضيته والمغلوب على أمره، للتلاعب بالهبات والخطاب الثوري الذي يعد بتحرير فلسطين وباقي الأراضي العربية المحتلة ودحر كيان صهيون، بغية استخدامه كورقة ضغط ضد أصحاب التطبيع مع إسرائيل. بالموازاة مع ذلك أطلقت مبادرة المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس، وهي مبادرة لا يعدو مداها أن يخدم أجندة جزائرية ظرفية لا أكثر. هذا الاقتحام الجزائري المتهافت لمشاغل القمة العربية، جعل القادة العرب ينتبهون منذ البداية لهذا الاندفاع، بالعمل على أخذ زمام المبادرة، بعدما تعاظم التشكيك في قدرة الجزائر على احتضان القمة. فارتفعت أصوات دبلوماسية وسياسية بالقاهرة وعواصم عربية أخرى، تردد أن هناك صعوبات تواجه القمة بسبب عدم التفاهم على أجندة موحدة للعمل وعدم رغبة عدد من الأقطار العربية في اللقاء بالجزائر بسبب مواقف مسؤوليها، التي لا تراعي ما يحيط بالأمن القومي العربي من مخاطر. فتضامن مع إثيوبيا ضد مصر، وتحالف مع إيران في مواجهة دول الخليج، واندفاع زائد عن اللزوم بالإعلان عن رفضهم لأية وساطة عربية مع المغرب، وهي الوساطة التي لم يتحدث عنها أي طرف عربي رغم الإشارات التي لاحت من قبل السعوديين، جرت على حكام الجزائر متاعب في علاقتهم مع السعودية. متاعب أضيفت إلى الأسلوب الذي حاولوا به إقحام الحرب في اليمن الداعم لتوجه حلفاء إيران، فضلا عن تعقيدات مسألة السلام مع إسرائيل. في الحقيقة كلها طروحات تنم عن عدم إلمام أو تجاهل حكام الجزائر للواقع العربي الراهن وتعقيداته ومصالح باقي الأطراف العربية وعلاقات العالم العربي بمحيطه الإقليمي والدولي. ويبدو وكأن حكام الجزائر أرادوا تحويل القمة العربية إلى لقاء جماهيري أو تجمع لقادة أحزاب أصحاب الخطابات الطوباوية، جرت العادة أن يخرج أصحابها ببلاغات نارية ونداءات حماسية، ينتهي مفعولها بعد مغادرة قاعات الاجتماعات. هذه الأجواء التحضيرية المتوترة والغير مطمئنة، خلقت توجسات للقادة العرب حول ظروف القمة العربية وما سيترتب عنها، ليس من حيث مخرجاتها فقط، بل ما قد يطرأ من مفاجآت يرتبها النظام الجزائري ليضع الجميع أمام الأمر الواقع تجاه مواقف صادمة. فمن غير المستبعد مثلا الزج برئيس الجمهورية الجزائرية الثانية، أو شخصية مثار خلاف ليبي عربي، أو محاولة إقحام موضوع جديد غير متفق عليه مسبقا في جدول الأعمال، أو محاول الإساءة إلى استقبال وفد دولة عربية، كل شيء منتظر في هذه القمة، قنابل موقوتة وألغام جاهزة قابلة للانفجار في أية لحظة، من الممكن أن يذهب ضحيتها صاحبها أولا لضعف في تقنية التوضيب والتلغيم والضغط على زر التفجير دون حساب للعواقب. كان الله في عون الوفد المغربي. هذه توجسات عربية حاضرة عندما بدأنا نسمع تصريحات لهذا الزعيم العربي أو ذاك يطلقون صفارات إنذار للنظام الجزائري بالإلحاح والإصرار على مراعاة شروط وأصول استضافة القمة العربية وعدم المغامرة بمواقف سياسية نزقة وتصرفات وفلتات تنظيمية قد تسيء لأجواء القمة. وقد نبه إلى ذلك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حين أكد أثناء زيارته مؤخرا لقطر، على: " ضرورة التمسك بمفهوم الدولة الوطنية والحفاظ على سيادة ووحدة أراضي الدول" داعيا إلى " عدم التعامل تحت أي شكل من الأشكال مع التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة، ودعم الجيوش الوطنية والمؤسسات العسكرية". جاء الرد أيضا من العديد من العواصم العربية، التي اعتبرت أن بعض الأطراف العربية تحولت إلى معاول هدم للدول العربية والمساس بسيادتها الوطنية، في رسالة واضحة إلى حكام الجزائر. المثير للسخرية ونظام الجزائر منهمك في الترتيبات الأخيرة لاستقبال القمة، هو رد فعله المرتبك والانفعالي، الذي خلط حساباته وتوقعاته، إزاء الخبر الذي نشرته مجلة "جون أفريك" الفرنسية، بأن الملك محمد السادس سيحضر القمة بالجزائر. خبر لا يصدقه عاقل، نزل كالصاعقة بالجزائر، فذهبت صحيفة الشروق الجزائرية، إلى نشر مقال افتتاحي بعنوان " محمد السادس في الجزائر بين التقاليد والراهن السياسي" لتشرح وجهة نظر وتفلسف حكامها حول هذا الحضور الملكي ومدى ارتباطه بالعلاقة المتوترة بين البلدين. والعارف بأبسط أبجديات بروتوكول وضوابط الرحلات الملكية إلى الخارج، يدرك جيدا أنه من سابع المستحيلات إمكانية انتقال الملك محمد السادس إلى الجزائر في ظل الغياب التام لأية مؤشرات ايجابية وظرف مطمئنة وآمنة للاستقبال الملكي. ومن سخريات ومهازل الاستضافة الجزائرية، أنها أرسلت صاغرة مبعوثها إلى المغرب لتسليم رسالة الدعوة، فتبين أنها لم ترسل وزيرا بل إنسانا آليا " ROBOT" شحن بتعليمات عسكرية صارمة جرد فيها الرسول من إنسانيته وشخصيته، تلك القيود جعلته يرفض حتى دعوة المجاملة بالغذاء والاستراحة التي وجهها إليه السيد ناصر بوريطة وزير الخارجية. هذا فضلا عن عدم نشر وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية خبر تسليم الدعوة إلى المغرب، دون التغافل عن القصد من جعل المغرب آخر بلد عربي يتسلم هذه الدعوة البئيسة. في مجملها إشارات غير مطمئنة لظروف المشاركة المغربية في القمة وترتيبات استقبال وفد بلادنا. لقد كانت بعض البلدان العربية ذات الثقل، تمني النفس بجعلها لقاء لتلطيف الأجواء المغاربية والعلاقات المغربية الجزائرية وإعادة ترتيب الأوراق ذات الصلة بالملف الليبي، لقاء أيضا لتضميد الجراح العربية والتمسك بأسس الوحدة والتحصن داخل البيت العربي. لكن وكما ما يبدو، من واقع الحال، فإن من يحتضنها/ نظام الجزائر، قدم الإشارات المنافية لهذا الخطاب التفاؤلي، وأبى إلا أن يجعلها قمة جزائرية بامتياز، خدمة لأجندة داخلية تتمثل في تسليط الضوء الإعلامي والسياسي على الرئيس التبون ومن يقف وراءه من الجنرالات أمام الشعب وتحويل أنظاره عن المشاكل الداخلية للبلاد إلى الانشغال بالقضايا العربية الكبرى والالتهاء بها سنة تولي الرئاسة الدورية عربيا. من حق المراقب أن يتساءل حول الأرضية والمبادئ التي ستنطلق منها هذه "الزعامة" الرمزية الدورية، وقد هيأ لها النظام الجزائري حتى قبل الانعقاد، كل أجواء التفرقة والشتات والاصطدام، والطعن في معظم القضايا الحيوية المتعلقة بالأمن القومي العربي والوحدة الوطنية. ستكون لها آثارها السلبية على العلاقات العربية – العربية وليس المغاربية فقط. في مشهد جنائزي جديد بدل عرس عربي.