من كثرة ما أصبت بتخمة الخطاب الساسوي لعدد من القادة السياسيين الذين احترفوا الشعبوية للتباكي على الشعب وتشنيف مسامعه بالاتهامات والاتهامات المضادة، بدأ اليأس والاحباط ينال مني، وبدأت أشعر بإحساس غير مسبوق بأن القرف السياسي وصل الى مداه، وأن حالة المزاج السياسي العام في البلاد، لم تعد تستحمل الابقاء على هذا القرف والتمييع الى أجل غير مسمى. نعم، أتخمتني تحذيرات شباط من حزب العدالة والتنمية ومن مخططاته الجهنمية للهيمنة على البلاد، وكأن هذا الحزب، الذي صوت عليه المغاربة في انتخابات لم تطعن فيها الأحزاب، التي اصطفت على عجل لتقليم أظافره، يشتغل خارج الشرعية السياسية ، أو أنه لم ينل تقه المؤسسة الملكية، التي احترمت المنهجية الديمقراطية ونتائج الاقتراع، وسارعت الى تعيين أمينه العام عبد الاله ابن كيران، رئيسا للحكومة التي تم تنصيبها دستوريا من قبل البرلمان. على غرار تخمة شباط، الذي بدا واضحا أنه فقد السيطرة على أعصابه، بسبب طول انتظاره للحسم الملكي بعد أن طلب منه التريث في سحب وزرائه من الحكومة الى حين عودة الملك من فرنسا، أتخمني مصطفى بكوري بحديثه عن الحلوف، وأتخمني لشكر بحديثه عن الصف الديمقراطي وعن تحالفاته الممكنة لمواجهة المد الاسلامي في الدولة والمجتمع، وأتخمني رئيس الحكومة بخطاباته المكرورة أيضا عن التماسيح والعفاريت، الذين قال عنهم الوزير المكلف بالعلاقة مع البرلمان والمجتمع المدني، الحبيب الشوباني، أن حزبه يعرفهم دون أن يجرؤ على تمسية ولو واحدا منهم. الحياة السياسية في المغرب تم تمييعها الى الحد الذي لم يعد مقبولا فيه استمرار التعايش مع كائنات سياسية باتت تحترف السياسية بأسلوب مسرحي فرجوي بئيس، وبأساليب تفتقد الى الحد الأدنى من الأخلاقيات في العمل السياسي النبيل. الحياة السياسية أنتجت رجال دولة كبار من عيار سي عبد الهادي بوطالب وعباس الجراري ورضا اكديرة، وزعامات سياسية وتاريخية متنورة، من طينة، سي محمد الفقيه البصري، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الرحمان اليوسفي، والحبيب الفرقاني، وسي محمد الحبابي، ومحمد جسوس، والجابري ، وعلال الفاسي وعبد الكريم غلاب والدويري وعبد الجبار السحيمي، وسي بوستة، والجامعي، وسي بن سعيد ايت يدر، وعبد الحمان بن عمر، وعلي يعته، واسماعيل العلوي، وغيرهم من السياسيين الذين مارسوا السياسة بعيدا عن الشعبوية والبلطجية السياسية، كما أصبحنا نتابع ونشاهد اليوم.. ما الذي تغير اذن حتى وصلت الحياة السياسية الى هذا المستوى المتدني من الابتذال السياسي؟ من يتحمل المسؤولية ؟ هل الدولة التي دجنت الأحزاب واحتوت نخبها بالريع والاستوزار؟ أم الأحزاب السياسية التي لم تفلح في تربية مناضيلها وتركتهم عرضة لكل عوامل التعرية الفكرية والثقافية والسياسية؟ تحليل الخطاب والسلوك السياسي السائدين اليوم في الوسط السياسي المغربي، حتى لا أقول لدى النخبة، يؤشر على أن هناك تحول خطير في الثقافة السياسية بالبلاد. تحول، انتصرت فيه القيم الشخصانية والانتهازية في العمل السياسي، مقابل نكوص كبير لقيم المواطنة والتحديث والدمقرطة، التي أطرت تاريخيا علاقة الدولة بالأحزاب. خرجات شباط التي تلت قرار المجلس الوطني لحزب الاستقلال القاضي بالانسحاب من الحكومة الموقوف التنفيذ في انتظار عودة الملك من فرنسا، خرجات قال فيها شباط أشياء غير مفهومة وتستدعي الوقوف عندها بعض الشيء. آخر ما جادت به قريحة زعيم الاستقلاليين شباط المطعون في شرعيته أمام القضاء من قبل رفاقه في الحزب، وصفه للمغرب بالزاوية، وتذكيره بشكل تعسفي، في سياق مزايداته السياسية على رئيس الحكومة عبد الاله ابن كيران وعلى حزبه العدالة والتنمية، بمصير كل من وزير الداخلية الأسبق، ادريس البصري، وبمصري كل من الجنرال الدليمي والجنرال أوفقير، وتحذيراته المتكررة من محاولات التحكم في الدولة من قبل اخوان ابن كيران ! ما الذي وقع للسياسيين في هذه البلاد؟ هل بات حزب العدالة والتنمية يكتسي كل هذه الخطورة في ظرف سنة ونصف؟ هل يملك حزب الاستقلال معلومات تفيد بأن قادة هذا الحزب يتآمرون على البلاد؟ حديث عبد الاله ابن كيران في أكثر من مناسبة عن الثقة التي تحظى بها حكومته من قبل الملك محمد السادس، دليل على أن الملكية لا مشكل لها مع الحزب الذي اختاره المغاربة بنسبة فارق كبير في عدد المقاعد المحصل عليها في انتخابات 25 نونبر 2011. كما أنها مؤشر سياسي دال على أن شباط في مأزق صعب، لا سيما، وأن حزبه خرج بقرار الانسحاب دون أن يقوم بسحب وزرائه من الحكومة، حتى يتسنى لرئيس الحكومة، التحرك دستوريا وفق الفصل 47 من الدستور لإيجاد حلفاء جدد، أو الدعوة الى انتخابات سابقة لأوانها بعد حل البرلمان. استمرار الابقاء على الوضع السياسي في المغرب هكذا، لا يخدم المصالح الحيوية والاستراتيجية للبلاد، بل يدفع في اتجاه تأزيم الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، والى مزيد من التشنج السياسي، والاحتقان الاجتماعي الغير مرغوب فيه تماما. كما أنه يزيد من حالة التذمر والاستياء لدى المغاربة، من السياسة والأحزاب وهو ما سينكعس سلبا على المشاركة السياسية في الاستحقاقات المقبلة. بدل المراهنة على جولات شباط الحزبية في العديد من المدن، للإساءة الى السياسة والأحزاب والحكومة، منطق الخيار الديمقراطي، يستدعي توقيف نزيف هذا العبث السياسي، قبل أن تتسع دائرة الأزمة التي يمكن أن تأتي على الأخضر واليابس وتفتح الابواب مشرعة أمام تدخل المؤسسات الدولية المانحة بمشروطية سياسية يمكن أن تمس بسيادة البلاد على اقتصاده اذا أراد شباط الانسحاب من الحكومة فما عليه، الاّ، اقناع وزرائه بتقديم استقالاتهم منها، بدل، الاحتكام الى الفصل 42 من الدستور الذي يندرج بدوره في باب الملكية الى جانب الفصل 47 وغيره من الفصول التي تنطبق عليها واقعة الانسحاب، أو اللجوء الى لعبة شد الحبل في العلاقة مع البيجيدي، فيما يشبه، الحملة الانتخابية السابقة لأوانها بالنسبة للاستقلاليين. من يراهن اليوم على حالة تقويض أسس العملية السياسية في البلاد، من أجل حقائب وزارية، أو حصيص سياسي، في اطار ما يسمى بحكومة الوحدة الوطنية المزعومة في خطاب بعض الاعلاميين والسياسيين، كمن يراهن على الحرث في البحر، في ظل وجود دستور جديد، يحدد بدقة عالية قواعد اللعبة السياسية وفق الأصول الديمقراطية. حكومة عبد الاله ابن كيران، لا تشكل أي تهديد أوخطر على استقرار الأوضاع في المغرب، ورسائل القصر الى رئيسها واضحة وضوح الشمس، وأي محاولة لإجهاض هذا التمرين الديمقراطي ، وتقويض أسس العملية السياسية في البلاد، ستكون لها انعكاسات سلبية على صورة المغرب في الخارج، وعلى سلمه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في الداخل. المطلوب اليوم في البلاد، فتح ورش الجهوية المتقدمة، والاسراع بإصلاح صندوق المقاصة وأنظمة التقاعد، واجراء الانتخابات الجماعية للقطع مع دستور 1996، وتنزيل القوانين التنظيمية، واعمال التأويل الديمقراطي للدستور، وتسريع ورش اصلاح العدالة في المغرب...وليس التراشق بعبارات الحلوف والتماسيح والعفاريت والحاج الشيوعي وغيرها من عبارات الابتدال السياسي.