– قل شيئا، تكلم..لماذا تتجاهلني ولا ترد على مكالماتي.. أعرف أن الأمر يصعب تقبله وأنك غاضب جدا مني، فالخبر أضحى معلوما لدى كل أهالي الدوار. لكنك أقرب الناس إلي، كل ما يهمني هو أنت، رأيك أنت…تاتسمعني؟ – إيه تانسمعك – قل شيئا إذاً. تعلم أن صمتك يقتلني ويضاعف محنتي، يمكنني أن أتحمل جفاء العالم كله لكن جفائك أنت يسحقني. أرجوك سامحني وأخبر صفية وسعيد أن أمهم ستعود قريبا. – متى؟ – لقد حدد القاضي تاريخ الإستماع لشهادات الضحايا نهاية الشهر القادم، سأدلي بشهادتي وأعود فورا. فقد اكترت لنا جمعية حقوقية منذ أسبوع شقة بوسط كرطاية. العيش بلا ماء ولا كهرباء داخل براريك بلاستكية شهر غشت هو الجحيم عينه. لقد تعبت، أريد فقط أن أعود الى منزلي وأولادي، أريد فقط أن ينتهي هذا الكابوس. لقد اشتقت إليك. – السعدية – نعم.. نعم السرغيني خويا – أنت طالق
كانت السعدية منهمكة في أشغال المنزل عندما دخل السرغيني على غير عادته مبكرا، راسما على وجهه ابتسامة شبيهة لتلك التي اعتلت وجهه وهو يحضن لأول مرة ابنه البكر سعيد. بلا مقدمات، أخبرها أنه التقى رفقة صاحبه العروسي رجلا في الفيلاج، وعدهما أنه مقابل مليونين يستطيع التوسط لهما من أجل الحصول على عقد موسمي للعمل في حقول الفراولة بإسبانيا، فهنالك يدفعون ثمانية ألاف لليوم كما أنه يمكن العودة كل سنة لقضاء حوالي خمسة أشهر إذا كان الملاَّك راضيا عن العمل المنجز. – السعدية، يجب أن نعجل قبل أن ينتشر الخبر بين أهالي دواوير جماعة البسابسة، إنها أول مرة يختارفيها السيد العامل جماعتنا للإستفادة من هذا المشروع، كما أنها ستكون فرستنا لنكون أول المستفيدين من دوار المطالسة قبل أن يدخل الآخرون على الخط فيزيد الوسيط من سعره. – السرغيني آ السرغيني – نعم ألسعدية – نت منين هاتجيب هاد جوج لملاين – لقد فكرت في الأمر مسبقا، سنبيع الخمسة أغنام التي نملك ونطلب من أختك أن تقرضنا مليونا ونصف. لقد أخبرني زوجها أنهم قد تسلموا الأسبوع الماضي من شركة التأمين مبلغ التعويض عن حادث السير الدي تعرضت له ابنتهم سميرة. أعلم أنك ترفضين الاقتراض من أختك لكنه يبقى خيارنا الوحيد، ثم إننا سنخصص أول شهرية تتحصلين عليها لتسديد ما اقترضناه. – لم أستوعب جيدا، هل تقصد أنني أنا من يفترض بها السفر إلى إسبانيا؟ – أنصتي إلي جيدا السعدية، لقد أُعدت هذه العقود للنساء فقط، إنهم يشترطون أن تكون المرشحات أُمهات حتى يضمن الإسبان عودتهن الى المغرب، كما أنك تعلمين جيدا أن ظهري لا يسعفني على الانحناء لقطف الفراولة، فأنا عاجز عن العمل في الحقول منذ حادث الشغل الدي ألم بي عندما كنت أشتغل بضيعة الحاج مزوار. إنها فرصتنا السعدية – فرصة ماذا، هل جننت، أتريدني أن أعبر البحر وحيدة تاركة منزلي وأولادي لأشتغل عند الأغراب، ألا تخاف علي؟ ألم تسأل نفسك أنك ستصبح أضحوكة الدوار، وأن كل من اعترض طريقك سيُلْمِزُك ساخرا متهكما '' المدام مسافرة'' السرغيني – ليقولوا ما يريدون، عندما نصبح ملاَّكا ونشتري قطعة أرض، وعندما تتزايد رؤوس قطيعنا ونحظى بفرصة لزيارة مقام النبي، وقتها سيحترمنا الجميع وسنغدو أحد وجهاء الدوار، بل جماعة البسابسة كلها. ثم ألم تتعبي من هذا الوحل الدي نعيش فيه، أمضينا حياتنا كلها خَمَّاسَة عند كل من هب ودب دون أن نستطيع شراء ولو شبر أرض واحد ندفن فيه. كما أن سعيد سينتقل للإعدادي العام المقبل، من أين لنا بمصاريف تنقله عيشه ومبيته، فحتى مشروع بناء داخلية في الفيلاج يظهر أنه كذبة أخرى تنضاف لمسلسل كذبهم الطويل. إنها فرصة العمر السعدية لنعيش ما تبقى لنا من عمر كآدميين – هذا قدرنا وأنا راضية به – قدرنا! لما تبين أن الحاج مزوار قد كذب علينا واتضح أنه لم يُؤَمِّن العمال ضد حوادث الشغل، أصر الجميع ان أقبل تعويضه الهزيل وأن أعتبر الأمر قضاء وقدر، فالرجل في النهاية نافد ولا حيلة لي على مجابهته. عندما قررنا فصل صفية عن المدرسة لتتفرغ لجلب الماء ورعاية الماشية قلنا إنه قدرها وأن أخوها أولى، وعندما توفيت صفية الأولى في طريقها لتاونات بسبب عدم توفر مستوصف الفيلاج على أمصال مضادة للعسات العقارب، قيل لنا انه قدرها. ألم يحن الوقت ليتزحزح هذا القدر قليلا ويعيد توجيه بوصلته بعض الشيء لتحسين واقعنا. فأنا الأن عاطل مرسم وأنت تشتغلين أسبوعا وتتوقفين شهرا – استغفر الله السرغيني وانعل الشيطان وكفاك يأسا -الله ينعلو ويخزيه. إنه ليس اليأس السعدية، إنه ما بعد اليأس. سيدي القاضي، ليلة يوم السبت، غرة شهر يوليو، أنا وثلاثة من زميلاتي العاملات بحقول الفراولة المغطاة القريبة من مدينة كرطاية، كنا نائمات بمسكننا الكرتوني البلاستيكي المقابل للضيعة التي نشتغل بها، لقد فُرِض علينا أن نسكن هذه البراريك حتى نكون قريبات من مكان العمل ومقيدات الحركة. حرارة المكان تجبرنا على النوم شبه عاريات. في لحظة ما، لم أميز هل هو حلم أم حقيقة، أحسست بقبضة يد قوية تشتد على رقبتي وتخنقني. كم تمنيت لو كان الأمر كابوسا لكنه كان كابوسا حقيقيا، إنه خافيير الباترون يا سيدي. بصوت خافت تفوح منه رائحة الكحول، قال لي لا تصرخي وإلا ستركبين أول باخرة متوجهة لطنجة ولن تحلمي بالعودة الموسم القادم. كان مصحوبا بثلاثة كلهم مخمورين، وعندما رجوناهم بأن لا يلمسوا مليكة لأنها حامل، ردوا علينا ساخرين بأن ما سيقومون به سيسهل عليها عملية الوضع. بصوت مرتجف وعيون محمرة، تابعت السعدية سرد وقائع ليلة تبدو وكأنها مقتطعة من ليالي غرناطة، شهورا بعد أن غادرها عبد الله الصغير. لم يعرف السرغيني امرأة قط غير السعدية، صحيح أنه كان يقدم صحبة العروسي على بعض المناوشات من قبيل ''وفين الزين'' التي تتيحها لهما وفرة المعروض أتناء احتفالات 3 مارس، لكنها تبقى جد محدودة، إستيهام فرجوي، طلقة في السماء كطلقات البارود التي يفَرِّغُها الخيالة الدين يملؤون المكان عند خط معين. فعلاقته بالسعدية أقوى وأمتن من أن يهددها إغراء عابر أو مصلحة مؤكدة، فهي تتجاوز التعريفات النمطية للعلاقة الزوجية؛ مثلا هي لا تخضع لمنطق قانون الغيرة وما يليها من نكد غير مبرر، فكلاهما ومنذ سنوات زواجهم الأولى لم يسبق أن ارتاب أحدهما من سلوك الأخر، كلاهما شرط وجودي للآخر، أخوية من فردين, حلف استراتيجي متماسك ضد عوامل تعرية الزمن اكثر منه فريضة لإكمال نصف الدين، فحتى عندما كثر القيل والقال بعد تأخرهما عن الانجاب لسنوات، ظل السرغيني واثقا من خلود نسله، إذ كان يعتبر الأمر كله مسألة وقت لا غير وبأن السعدية ستمنحه بلا شك وليا للعهد. لذلك عندما أقفل السرغيني خط الهاتف، شعرت السعدية بجسمها كأنه أصبح كومة من الرماد بدأت في التلاشي شيئا فشيئا بفعل حركت الريح، تبعثرت كليا حتى صارت عدما، ورغم محاولات زميلاتها المتكررة لحتها على الخروج للترويح عن نفسها، لزمت السعدية غرفتها أسابيع بلا كلام ولم تغادر الشقة سوى يوم واحد قبل موعد المحكمة. تزاحمت الأفكار في دهنها، لكنها استطاعت شيئا فشيئا ترميم نفسها، كانت تحاول أن تجد مبررا لجبن السرغيني وجبن أهل الدوار، أن تفهم وهي الضحية سبب تبرأهم منها، لكنها أدركت في النهاية أن لا طائل من كل هذه الأسئلة وأن ليس هنالك ما يستدعي الفهم، فموقفهم المتكالب كان منتظرا، بل وطبيعيا. إذ بالنظر لمسلسل القهر والتهميش الطويل الذي تعرضوا له جيلا بعد جيل، شكلت هي ومثيلاتها المنتميات لخانة المختلفات على الدوام ملجئهم الأخير للتنفيس عن معاناتهم وفرصتهم الأقل كلفة لاسترداد شيء من كرامتهم المهدورة وقليلا من شرفهم المسلوب. شرف سلب يوم تنافس السرغيني وأمثاله على تقديم رشاوي لبعث زوجاتهم للاشتغال منحنيات طوال اليوم لقطف فراولة الاسبان. شرف سلب يوم طبعنا كأفراد مع مظاهر العبودية المقنعة اتجاه الفئات الأكثر فقرا وهشاشة. سبع سنوات بعد نهاية الحماية وعلى مدار عشرين سنة، كان المئات من الشباب ينتظرون في طوابير وهم نصف عراة في ساحات تالوين وأولوز وتزنيت وورززات وغيرها من قرى الجنوب، دالك الرجل الفرنسي المكتنز، الصغير القامة فيليكس موغا، ليضع على صدور أفضلهم, الأصحاء الأقوياء والرشيقون، وشما أخضر كإعلان عن قبولهم للعمل ألف متر تحت الأرض في مناجم الشمال الفرنسي قرابة السبعين سنة بعد نهاية الحماية، عوض أن يتكفل رجل اسباني بعملية الفحص والانتقاء، تم تكليف مؤسسة وطنية بهذه المهمة إلا أنها عكس موغا، تختار الأمهات الفقيرات و الأكثر حاجة ليكن أكثر قابلية للخضوع والطوع لأوامر الاسبان. يوم قبل موعد المحكمة، قصدت السعدية صالون تجميل غير بعيد من شقتها. رغم أنها أمية ولم تقرأ لزفزاف، فقد ظلت تردد في طريقها بشكل مسترسل، الوطن هو أينما وجدت عزة نفسك، الوطن هو أينما وجدت عزة نفسك.