جميل جدا، القاموس الذي أصبح سياسيونا يستعملونه في خطاباتهم وحواراتهم وتدخلاتهم، وحتى في حروب الرسائل المشفرة التي يرسلونها فيما بينهم، ولمن يهمهم الأمر. عندما أقول "جميل جدا"، فإنني أعني ما أقول، ولا أقصد من وراء ذلك، التهكم أو السخرية. والسبب؟ بداية، يجب أن أعترف بقدرتهم الكبيرة على خلق الفرجة، فلأول مرة منذ زمن بعيد، وأظن أن هذا لم يحدث معي من قبل، يتمكن سياسيونا من انتزاع الابتسامة، وحتى الضحك من بين شفتي، بعد أن ظل لزمن طويل متسما بالتجهم والصرامة والاتزان المصطنع. الخطاب عند هؤلاء، نزل من مقامه العاجي المتعالي ليختلط باليومي، نفض عنه برودة لغة الخشب التي كان يختبئ وراءها سياسيونا المؤسسون الأوائل، واستدعى ما كان مقصيا لزمن طويل، إلى ساحة التداول العامة؛ وبذلك أعادوا الاعتبار للكلام المتداول بيننا، فأصبح خطابهم قريبا منا يشبهنا يدخل الدفء إلى قلوبنا، وإن لم يدفئ جيوبنا، فالمهم بالنسبة لنا هو أن يأتي الله "بلي يفهمنا وما يعطيناش". أتذكر في هذا الصدد، كيف كان بعض فنانينا سامحهم الله، يصرون على استعمال العربية الفصحى في المسلسلات أو الأفلام المقدمة على شاشتنا الصغيرة، فتبدوا هذه الأعمال وكأنها مصابة بالفصام، عرجاء، تحدث عند المتلقي عسرا في الهضم، وتأثر على إقبال الجمهور على إنتاجاتهم؛ لكن الوضع تغير خلال السنوات الأخيرة، بعد أن تطوع بعض المبدعين الجدد، لإفهامهم أن قوة الإنتاجات السمعية البصرية، لا تكمن في لغة الحوار بل في لغة الصورة التي تتكلم. ورغم ذلك فإن الكثيرن منا يتباكون على الزمن السياسي المغربي الجميل، حين كان السياسيون يبلورون خطابا بادخا راقيا متعاليا، ويتأسفون لسماعهم كلاما هو لا يرقى إلى مستوى خطاب مبتذلا سطحيا، ويقترب مع توالي السنين من الحضيض، متهمين أصحابه بالشعبوية. لكن سياسيينا المؤسسين، وإن كانوا يستعملون خطابا سياسيا راقيا، إلا أن النتيجة نراها اليوم أمام أعيننا، فلا يمكن لأحد أن يدعي أن الأمور نحت في الاتجاه الصحيح. لذلك أقول، قبل إعطاء أحكام قيمة متسرعة، لا بد من وقفة تأمل للتجربة الحالية، ومحاولة الفصل بين مفهومي الشعبي والشعبوي أولا. بداية، يجب الإقرار بأن المصطلحين قريبان من بعضهما البعض، بحيث لا يفصلهما إلا خيط شفيف، وقد يتداخلان، فلا نتبين من أي الجهتين يمتح الخطاب. لذلك أقدم هذا التعريف، لأنني أعتبره إجرائيا، ويفي بغرض الفصل بين المصطلحين: "الخطاب الشعبي، هو خطاب يصاحب أحلام الشعب ليوصلها إلى بر الأمان (التحقق)؛ أما الخطاب الشعبوي فهو الخطاب الذي يركب أحلام الشعب للوصول دونها"؛ بمعنى آخر، الفرق بينهما يكمن في النتيجة وليس في الخطاب في حد ذاته. بالنسبة لي، لا مشكلة في شكل الخطاب ونوعه، المشكلة تكمن في توجسي من أن يكون هذا التبسيط، دليل عجز عن القدرة على ابتكار حلول ناجعة للمشاكل التي تتخبط فيها البلاد، أما إذا استطاع سياسيونا أن يخرجونا من عنق الزجاجة، وينتشلونا من بين براثن الأزمة التي تداهم اقتصادنا وتهدد بنسف توازناتنا المالية الهشة أصلا، فلهم كل الحق في أن يستعملوا ما طاب لهم من كلمات أو مفردات، تمتح من الحمام أو السوق أو مدرجات الجامعات أو حتى من خرجات القنص كما حدث مؤخرا، ففي الأخير، النتيجة هي التي تهمنا، أما الكلام فيذهب أدراج الرياح، والسلام. كاتب