نستسمحُ بدايةً من مفكر زمانه، عبد الرحمان ابن خلدون الأفريقي، عن هذا الاقتباس من زُبدة تفكيره، والذي حاولنا أن نستلهم منه بعض الأفكار، والعِبر أيضاً، لعلّها تسعفنا في التقرّب من فهم ما يجري من حولنا؛ خلال اللحظة التاريخية التي نعيشها. وحينما نقتبس هذه المقولة الخلدونية، والتي تتحدّث عن الهرم (أي الشيخوخة) الذي يُصيب الدولة، فمردّ ذلك، هو الربط الذي أقامه ابن خلدون، بين عُمْر هذه الأخيرة، وبين عُمْر الكائن البشري، واستمراريتهما في الحياة. حيث جزّأ هذا العمر إلى مراحل، تبتدئ بالطفولة والشباب، فالكهولة والكمال، وانتهاءً بالشيخوخة والعجز، لتليها لحظة تاريخية أخرى مفصلية، تؤدي وظيفة التجديد والتطوير، تمهّد لمرحلة الطفولة والشباب من جديد.. وهكذا دواليك إلى نهاية التاريخ، إن كان حقاً للتاريخ نهاية. وهو ما ينطبق إلى حد كبير عن الدولة وأجهزتها المختلفة. ولمفهوم الهَرم هنا مظاهر وتجليات، تشمل مختلف مناحي الحياة؛ نكتفي، بإيجاز مفرط، بذكر البعض منها في مجالات السياسة، والاقتصاد، والثقافة والقيم ثم التربية والإعلام. لقد أورد الباحث عبد الله العروي اقتباساً من الفيلسوف مونتسكيو يُفيد بأن "لكل دولة مساحةٌ لا يجب أن تتعداها"، بعد أن قال ابن خلدون منذ ستة قرون ونيّف بأن "لكل دولة عمراً لا تتجاوزه أبداً". ويقوم بالتعجيل باليوم الموعود جملة من العوامل لعل أبرزها "استحالة الإصلاح بعد أن تظهر في الدولة ملامح الانحطاط". ونحن لا نريد أن تنحط الدولة إلى مستويات ينعكس فيها انحطاطها على المجتمع برمته، لكن عوامل نهضتها وانحطاطها، هي، (أي الدولة)، هي من تتحكم في جزء كبير من منها، من خلال سياساتها الداخلية والخارجية ومرتكزات استلهام شرعيتها وسيادتها، فضلاً عن عقلنة تدبيرها للمجتمع على قاعدة الفضيلة. الهرم السياسي؛ ففي مجال السياسة بمفهومها الشامل والعلائقي، تتبدى جملة من المؤشرات والعناصر الدالة على بلوغ أية دولة مرحلة الشيخوخة (وهي ما يسميها رجالها بنضج الدولة)، وتتمثل هذه المؤشرات في الآتي: سوء استعمال السلطة في التعامل مع المعارضين والمختلفين مع مذهب الدولة في السياسة والاقتصاد والثقافة والقيم الاجتماعية، وبشكل عام اختلافهم معها في تصورها للدولة نفسها. وبدا جزءٌ من هذا الأمر واضحاً إبان بداية اليقظة الاجتماعية، منذ سنتين ونيّف، من خلال طرح موضوع شكل ومضمون الدولة، رغم تلازمه الدائم لتاريخ المغرب دون انقطاع؛ بزوغ وامتداد دولة القلّة على مستوى المضمون لا الشكل، دونما اكتراثٍ لمسار بناء الدول في كثير من المجتمعات التي تتربع اليوم على قمة لائحة الدول الديموقراطية. وهذا الأمر يؤدي في منتهاه، إن استمر، إلى حكم الأوليغارشية المعروفة عبر التاريخ بصناعة المقدسات لحماية مصالحها الفئوية والعائلية في كل المجالات، بدءاً بمجال الدين والقيم والمعتقدات، والثقافة واللغة، والمجال الوطني، ومجال العلاقات السياسية وغيرها. مع العلم أن حكم القلة ليس دائماً مرفوضاً، بل هو محبوبٌ ومقبولٌ شريطة أن تكون هذه الأقلية هي صفوة ونخبة من العقلاء والفضلاء والأخيار لا عكس ذلك؛ نزعة الهيمنة الشاملة على المجتمع من طرف الأقلية المتحكمة في دواليب الدولة، ومحاولة تسخير أفراد المجتمع وفئاته ومكوناته كزبناء مُخلصين مطيعين منبطحين، واضعين على أعين وعقولهم بعضهم غشاوة لا يرون أكثر من مصالحهم الخبزية اليومية، ومستعدون لتقديم كل أشكال الطاعة والولاء، ولو على حساب آدميتهم، فقط للحفاظ على المعيش اليومي. الهرم الاقتصادي؛ نقصد بالهرم الاقتصادي ذلك الالتباس والظلامية المعاصرة الناتجة عن تعقد العلاقة القائمة بين السلطة السياسية والمال أو الاستثمار. ولن نضيف هنا أكثر مما أشار إليه الفيلسوف مونتيسكيو بخصوص مخاطر وتداعيات الجمع بين ممارسة النشاط السياسي وممارسة النشاط الاقتصادي والمالي بالنسبة للسلطان على الحياة الاجتماعية، وعلى فضيلة المنافسة في الحقل الاقتصادي. وينتج عن هذا الأمر إذن، تمهيد الطريق للهيمنة الاقتصادية المستفيدة من الهيمنة السياسية، وتوجيه الثروة الوطنية، بكونها ثمرة مجهود المجتمع، بكافة أوجهها نحو ما يخدم الهيمنة المشار إليها. ومن تم نعتقد بأن هذا المزج، بمخاطره الاجتماعية، وبقتله للتنافسية الحرة، وشل الإرادة لدى الفاعلين، هو ما يعجّل ببلوغ الدولة مرحلة الهرم والشيخوخة الاقتصادية، التي تساهم من جانبها في استكمال دائرة الهرم العام الذي يُصيبها، ومن تم يؤدي موضوعياً إلى مرحلة العجز في بنيتها، وهنا مكمن الخطورة. (أنظر عبد السلام الشدادي، ابن خلدون من منظور آخر). الهرم الثقافي والقيمي؛ يعود هذا الوجه من الهرم العام إلى إخضاع المنظومة الثقافية والرمزية للمجتمع لقيم السوق وتعاملاته كالتسليع والتشيء chosification. وحينما نخضع الثقافة والفنون لمنطق الربح والخسارة، فإننا مبدئيا ساهمنا في تكوين وإنتاج طينةٍ من المثقفين والفنانين، همهم الوحيد والأوحد هو تقديس المال واللّهث وراءه في كرنفالات استعراضية، ويضعون، بالتالي، منتوجهم رهن إشارة من يدفع أكثر. بل الأدهى والأمر من ذلك، أنهم ينزعون فَنهم وثقافتهم وعِلمهم مبادئ الحرية والاستقلالية والتفكير النقدي ومحاربة الظلم والطغيان، ليطغى عليه طابع التهليل والاحتفال، إلى درجة صناعة مقدسات جديدة في زمن يتحدث فيه الفكر الحر عن نهاية فكر القداسة، لهيمنته المنبوذة على العقول والأفئدة، وشلّه لملكة الإبداع والجمال والخيال، وتحطيمه لقدرة المجتمع على النهوض ثقافياً وقيمياً كمدخل لا مهرب منه للنهوض الاجتماعي والإقتصادي والتكنولوجي، وبالتالي النهوض الحضاري المنشود. ويزداد الأمر حيرة حينما يتمسّك بعضٌ من أهل "السلطة العلمية"، بما يفترض أنهم يتوفرون عليه من سلطة رمزية وموقع ريادي داخل التراتبية الاجتماعية، بمنهجية التفكير الخبزي وهيمنة اليومي على حساب الانشغال بانتقاد انحرافات السلطة وهيمنتها التي لا تطاق على المجتمع والثقافة، ومن تم على مصير البلد. الهرم التربوي والإعلامي؛ يتجلى ذلك في بعض القيم التربوية التي تزكي وتدعم مبدأ المحافظة الاجتماعية والثقافية التي تعدّ بحق مدخلاً رئيسياً للمحافظة السياسية، والتي يُراد لها أن تكون عنوان البلد إلى الأبد. وأصبحت فكرة المحافظة عرقلة حقيقية أمام تقدم وتطور ملكة الإبداع لدى الناشئة. إن المنظومة التربوية التي تربي المؤمنين بدل المواطنين، هي منظومة تساهم، ولا شك، في شل فضيلة التطلع نحو الأفضل، وصناعته، وبناءه، وضمان موقع البلد بين الأمم المتحضرة والمتألقة ديموقراطياً. فالمدرسة، بوصفها مؤسسةً للتنشئة الاجتماعية والثقافية والتربية على قيم المواطنة، من واجبها أن تربي المواطن الذي يناضل من أجل الديموقراطية، مواطنٌ يقظٌ بحسّه النقدي، الذي يلازمه أينما حل وارتحل، مواطنٌ يسلك منهجية التحليل والتفكيك وإعادة البناء، مواطنُ يتخذ من الشك والريبة والتساؤل مسلكاً لبلوغ الحقيقة، مواطنُ لا يستكين للقائم من الأوضاع كيفما كانت درجة ضغطها، مواطنٌ متطلع للحرية والكرامة الإنسانية في أبهى تجلّياتها، مواطنٌ منخرط في القضايا الحيوية لبلاده، مواطنٌ يحتفظ بتشاؤم معطيات الواقع بكل تمظهراته ويتسلّح بالثقة والأمل في المستقبل. أما الهرم أو الشيخوخة الإعلامية فتجلياتها تكمن حينما يكون الإعلام حقيقةً جهازاً إيديولوجياً في يد السلطة السياسية، ويكون أداةً للدعاية لوجهة نظرها دون غيرها، ولا يقف في مسافة واحدة تجاه كل الفاعلين في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولا يهمه كثيراً مبدأ النزاهة والموضوعية. ومن داخله نجد شخص الصحافي مجرد هيكل عظمي، أو جهاز تقني، منزوع الفكر والقيم الإنسانية المُثلى كالتشبث بالحرية والاستقلالية والتفكير النقدي وغيرها. وتبقى وظيفته هي وظيفة مُكبر الصوت الذي يتم من خلاله إيصال صوت المُهيمنين إلى أقصى رقعة جغرافية ممكنة، وبأية لغة/لغات يفهمها الجمهور، وبأية وسيلة تكنولوجية حديثة، ليبقى مجرد حاكي الصدى لغيره دون القدرة على إبداء وجهة نظره أمام الملأ وعلى رؤوس الأشهاد. لعلنا نفلح في استنتاج أن اعتبار الهيمنة في كل هذه الواجهات، عكس ما يذهب إليه البعض من كونه تعبير عن الكهولة والشباب؛ هي في الحقيقة مَعلمٌ من معالم الهرم/الشيخوخة التي حلّت بالشخص (بالتحديد المعنوي) الذي بلغ من الكبر عتيّا، لأن جوهر المشكل يكمنُ في بنية التحديد الذي أُعطي لمفهوم الدولة قِبلاً، وهنا مكمن المشكل الذي يعوق مسيرتنا في هذه اللحظة التاريخية. بالنتيجة؛ نقول بأن الإصلاح الظاهري، الذي يتعمد إقصاء الإصلاح الجوهري والبنيوي، غالباً ما يكون مجرد إجراء أو تدبير استئناف؛ يؤدي وظيفة تأخير الانهيار ولا يقضي عليه نهائياً ومطلقاً. لأنه حينما تكون البنية متهالكة من الداخل، تقتضي عملية استئناف المسيرة من جديد تغيير الجوهر، أكثر مما يتطلب إصلاحه وترميمه وترتيقه. ونورد هنا كلاماً لعبد الله العروي، استقاه بدوره من فلسفة مونتسكيو، يقول: "كل دولة، بالمعنى الواسع، تنمو لأسباب موضوعية، مادية وتنظيمية وخلقية، ثم تنحطّ وتنهار لنفس الأسباب التي لم تعد توافق الظروف التي عملت هي على إنشائها" (تأملات في تاريخ الرمان: أسباب النهوض والانهيار. ص. 15).