30 ألف بحار يعيشون في ظروف مأساوية داخل 'أحزمة فقر' شاطئية حميد المهدوي- روائح غريبة تنبعث من المكان. خلف إحدى الخيام يقف بحريُُّ متكأ على سارية خيمته، يُطأطئ برأسه كإشارة تحية منه لمرافق موقع "لكم. كوم". نمضي بخطوات قليلة حتى نختفي عن هذا الشخص. نحن بقرية الصيد البحري "لاساركا"، حوالي 30 كيلومترا بعيدة عن مدينة الداخلةجنوب المغرب. قرابة ألف براكة أو خيمة تنتشر هنا ب"لاساركا" بشكل عشوائي فوق مساحة تقارب الهكتار. أينما تُولي وجهك تُزكم انفك روائح كريهة. بخطوات سريعة يتقدم مرافق موقع "لكم. كوم" (أحمد)، وهذا هو اسمه، صوب إحدى الخيام يدفع شيئا قد يسمى أي شيء إلا أن يسمى بابا. نعبر فناءً قصيرا فنصل إلى غرفة بمساحة صغيرة. على طرفي سرير خشبي يجلس بحريان وهما يرتقان شبكة للصيد، أما ثالثهما فلازال مُمددا فوق سرير خشبي آخر، يبدو انه قد استيقظ من نومه للتو، فيما رابعهم يجلس القرفصاء أمام قنينة غاز زرقاء صغيرة وهو يزيل بسكين قشور الطماطم التي يضعها على مقلاة، قبل أن يلقي فوقها ثلاث بيضات. في خيمة أخرى، أو بالأحرى في "جحر آخر" يتحلق سبعة بحريون على صحن عدس، يأكلون بشراهة مُثيرة، بينما أحدهم فضل أن يجلس وحيدا في ركن الخيمة وهو يلحس إناءً قاعه أسود اللون، يبدو أن الوجبة قد طُهيت بداخله:"حنا عايشين هنا أكثر من دارفور أخويا" يقول شاب بدا من نبرات صوته أنه أحذق من زملائه وأجرؤهم على الحديث، قبل أن ننصرف بعد أن أشعرتنا نظرات أحدهم بتضايقه من زيارتنا المفاجئة. "20 سنة، ونحن على هذا الحال، حتى الماء لم يصل إلى هنا منذ أسبوع، نتيجة إضراب ناقلاته، منذ أسبوع عن العمل"، والكلام هنا لشخص ينحدر من قلعة السراغنة، قبل أن يضيف من داخل دكان صغير وضعت فوق رفوفه بعض المواد الغذائية محسوبة على رؤوس الأصابع:"والله العظيم لَمَا اخنزنا آخويا بغينا غير نصبنوا حوايجنا ما لقيناش الماء". ننتقل إلى قرية صيد أخرى وتحديدا بقرية "نتيرفت"، حوالي 70 كيلومترا بعيدا عن مدينة الداخلة. هُنا في"نتيرفت" لا فرق مع "لاسركا" سوى في اسميهما وأسماء البحارة بهما أما المأساة فواحدة. مئات الخيام و البراريك مع بنايات متهالكة للدولة غطت بشكل عشوائي قرابة 3 هكتارات. يُؤكد عدد من بحارة "نتيرفت"، شأنهم شأن بحارة قرية "لاسارغا"، لموقع "لكم كوم" أنهم في كثير من الليالي كانوا عرضة لعضات الجرذان داخل هذه الخيام، أما البراغيث فقد أصبحت جُزءً منهم. أحدهم، واسمه (عباس)، رجل في عقده السادس، يُغطي الشيب معظم رأسه، يحكي للموقع عن أمر في غاية الطرافة والغرابة فيقول: "يمكن لبحار أن يذهب للبحر للصيد قبل أن يعود ليجد قطة أو كلبة قد وضعت صغارها فوق فراشه الوحيد، فكثيرا ما حدث هذا مع البحارة". في "لاساركا" وحدها الشموع تقاوم الظلام الدامس، وفي كثير من الأحيان تسببت تلك الشموع في حدوث الكارثة بحسب شهادات متطابقة، أما هنا في "نتيرفت" فقد تفتقت عبقرية بحار على إحداث محرك يوزع بواسطته خيوطا كهربائية على أصحاب الخيام مقابل أداء كل مستفيد لمبلغ 40 درهما في الأسبوع. "فلوس اللبان يديها زعطوط" تشكل"لاساركا" و"نتيرفت" إلى جانب قرى صيد أخرى تنتشر بمنطقة الجنوب ثمانية قرى صيد، 5 منها بجهة "وادي الذهب الكويرة" وهي: "إموتلان" و"نتيرفت" و"لاسركا" و"لبيردا" و"العين البيضة"، و قرية " لمهيريز" بإقليم "أوسرد"، ثم "أمكريو" و"تاروما" باقليم العيون ف"أكتي الغزي" و"أفتيسات" باقليم بوجودور. عدد قوارب الصيد التقليدية الموجودة ب5 قرى صيد بمنطقة الداخلة تناهز قرابة 3088 قاربا. يشغل كل صاحب قارب 3 بحارة إلى جانب عمال غير مباشرين، مهمتهم خياطة الشباك وإصلاحها وإخراج القارب إلى اليابسة بعد عودته من البحر، إضافة إلى فرق أخرى يسمى أعضاؤها ب"الحمالة". تقدر مصادر الموقع مجموع كل هؤلاء في حدود 35 ألف شخص تقريبا. وتُشير أرقام مالية توصل بها الموقع إلى أن رقم معاملات تلك القرى ابتداء من 15 نوفمبر من سنة 2012 إلى 30 مارس 2013، أي في ظرف أربعة أشهر ونصف فقط، بلغ ما مجموعه 36 مليار و630 مليون سنتيم، نتيجة اصطيادهم لقرابة 12 ألف طنا من سمك الاخطبوط. فيما لا يحصل البحارة من هذا الرقم سوى على قرابة 10 آلاف درهم خلال تلك المدة كلها. يقتُطِع من هذا المبلغ مليارين و639 مليون سنتيم كرسوم؛ حضي منها المكتب الوطني للصيد البحري بمليار و465 مليون سنتيم، والجماعات المحلية بمليار و900 مليون سنتيم، فيما حصلت جهة وادي الذهب الكويرة على 73 مليون سنتيم، بناء على أن المكتب الوطني للصيد هو من يتكفل باقتطاع 7 في المائة من كل محصول صيد قبل أن يحتفظ لنفسه ب4 في المائة ويمنح الجماعات المحلية 3 في المائة فيما نصيب الجهة لا يتعدى 0.20 في المائة. تخلف هذه الاقتطاعات التي يباشرها بشكل دوري المكتب الوطني للصيد عن كل عملية بيع للمنتوج داخل أسواق قرى الصيد، ألما كبيرا داخل نفوس البحارة؛ "كيف لا والبحارة لا يشعرون بأي فائدة أو نفع لهم من هذه الجماعات المحلية أو الجهة او حتى المكتب الوطني للصيد" يقول حسن الطالبي، رئيس "جمعية أرباب قوارب الصيد التقليدي بالداخلة" قبل أن يعلق بسخرية على هذه الاقتطاعات:"فلوس اللبان تيديها زعطوط". 600 مليون درهم في مهب الريح في سنة 2004، أبرمت وكالة تنمية الأقاليم الجنوبية اتفاقية مع وزارة الصيد البحري والمكتب الوطني للصيد البحري وصندوق الحسن الثاني اتفاقية شراكة لإيجاد حل لمعانات البحارة عبر بناء قرى للصيد لهم وهي المذكورة سلفا. حددت الاتفاقية أهدافا لها تتمثل في تهيئة منطقة سكنية عبارة عن بقع أرضية وتجهيزات عمومية مساجد ومدارس ومستوصف ومباني إدارية مع تهيئة مناطق للصيد تحتوي على تجهيزات تجارية ومستودعات الصيد ثم معامل لإصلاح القوارب والمحركات إضافة إلى حوانيت لبيع السمك مع تجهيز الطريق المؤدية إلى القرية وتزويدها بالماء والكهرباء. التزم المتفقون بتوفير مبلغ 917.27 مليون درهم، ساهمت فيه وكالة تنمية أقاليم الجنوب بمبلغ646.77 مليون درهم أي بنسبة 70 في المائة، وساهم صندوق الحسن الثاني ب118 مليون درهم، فيما جاءت مساهمة المكتب الوطني للصيد بمبلغ 150.50 مليون درهم. انفق من هذه المبالغ المعتمدة للمشروع حتى اليوم، وفقا لمسؤول كبير بوكالة تنمية الأقاليم الجنوبية، طلب عدم ذكر اسمه، مبلغ 600 مليون درهم. وجاءت المنشئات على شكل أسواق لبيع السمك وعدد من الدكاكين لوضع البحارة بها معداتهم ومحركات قواربهم وشباكهم، إضافة إلى مقرات أخرى لتخزين المحروقات وبعض المرافق العمومية كمستوصف ومسجد إضافة إلى أحياء إدارية تضم سكنا للبحرية الملكية وسكنا للدرك الملكي ثم سكنا لقائد المنطقة وكذا سكن لمسؤول عن وزارة الصيد البحري. "لقد جرى تشييد كل شيء لتوفير شروط أفضل لإنتاج الثروة السمكية إلا تشييد سكن لمنتج الثروة وهو البحري وصاحب القارب". يقول (عباس) صحاب قارب صيد بقرية "نتيرفت". "أفظع من ذلك" يضيف نفس المصدر، أن الحوانيت التي تم تشييدها من طرف الوكالة مساحتها لا تتعدى مترين، ومع ذلك قررت الوكالة تخصيصها لصاحبي قاربين مقابل أدائهما لسومة كرائية شهرية حددتها في 250 درهم لكل واحد منهما. البحارة وأصحاب القوارب رفضوا هذا العرض متشبثين بتوفير سكن لهم "أما المحرك والشباك وكل لوازم الصيد فلا مانع عندي أن تبقى في الهواء الطلق" يقول (عباس). مرت على تشييد هذه المنشئات قرابة 10 سنوات، ولازالت حتى الساعة بلا استغلال بعد أن تحولت دكاكينها إلى قبلة لقضاء الحاجيات البيولوجية للبحارة والغرباء فيما عمت التشققات معظم جدرانها وأسقفها وتلطخت الصباغة وتلاشت الأبواب وانتزعت الأقفال. مسؤولو الوكالة يتبرؤون من الملف مندوب الصيد البحري بالداخلة، بدا متحمسا عند حديثه لموقع "لكم. كوم" للكلام في كل شيء يخص قطاع الصيد البحري بالداخلة، غير أن سؤال واحدا من الموقع عن أحوال قرى الصيد غير ملامح وجهه قبل أن يتخلص من الموضوع عبر لفت انتباهنا إلى طريقة مراقبتهم لسفن الصيد بأعالي البحار، وهو يشير بأصبعه إلى شاشة حاسوب الكتروني فوق مكتبه. أما المدير الجهوي لوكالة تنمية الآقاليم الجنوبية فلا يجد حرجا في أن يُلقي باللائمة مباشرة على السلطات المحلية ووزارة الصيد لأن هاتين الجهتين، يقول نفس المسؤول موضحا: "هما من باستطاعتهما إحصاء البحارة ومعرفة العزاب من المتزوجين". ويؤكد مسؤول الوكالة هذا على أن مسؤولية عدم استغلال هذه المنشئات تقع خارج دائرة الوكالة، موضحا بأن مسؤولية الوكالة تقف عند حدود تجهيز المشروع والبنايات أما تفعيله وخلق سكن للصيادين فمن مهام السلطات المحلية ووزارة الصيد البحري. في حين يذهب مسؤول كبير بالوكالة في اتجاه آخر دون أن ينفي ما أكده المدير الجهوي في حضرته، عندما يوضح هذا المسؤول الكبير بأن ما يقيدهم ويمنع مبادرتهم لتوفير سكن للصيادين هو طبيعة الصيد الذي يباشره الصيادون حيث هو صيد موسمي. ويشترط المسؤول الكبير لتدخل الوكالة لتوفير سكن للصيادين وجود ضمانات بأن يسكن المستفيدون رفقة أهاليهم وزوجاتهم لا أن يستفيدوا كعزاب، مشيرا إلى أن البحار العازب يمكن أن يستفيد من البقعة اليوم ويبيعها غدا، بحسبه. أما البحارة "المنكوبون" كما يصفهم حسن الطالبي، فيذهبون في اتجاه آخر عند تحليلهم لخلفيات امتناع السلطات والوكالة عن توفير السكن لهم، وهي خلفيات ذات طبيعة انتخابية سياسية، ترتبط بتخوف اللوبي الانتخابي المسيطر على مواقع القرار بمنطقة الداخلة من تبلور كتلة ناخبة قد تفرز منتخبين ينافسونهم في الريع والمصالح التي يستحوذون عليها داخل جهة "وادي الذهب الكويرة". إشارة قد تنفع أهل الحل والعقد بهذا البلد في سنة 2004، لعلع الرصاص في قرية "نتيرفت" بعد أن انتفض الصيادون في وجه الوالي محمد طريشة قبل أن يكسروا واجهة سيارته ويحرقوا العجلات ويعرقلوا حركة السير على خلفية تدمير العديد من قواربهم في إطار مخطط "تهيئة مصايد الأخطبوط" الذي اقترحته الوزارة الوصية.