15 سنة على رحيل الكاتبة مليكة مستظرف رأيتها أول مرة في بيت صديقي الراحل الكاتب محمد زفزاف لما زرته في بيته، وكان مريضا في بداية إصابته بالمرض الخبيث الذي أودى بحياته. ظننتها الخادمة. كانت بنتا قصيرة بشعر منفوش، تلبس سروال جينز أزرق باهت وقميصا أبيض، أخذت معطفها المعلق وراء باب الغرفة وانسحبت، بعد أن طمأنت الكاتب أن كل شيء رتبته كما يجب، وأنها لن تتأخر وستعود. لما غادرت حدثني عنها محمد زفزاف. قال إنها ابنة الجيران. تسكن غير بعيد عن زنقة ليستيريل (حيث يقيم الكاتب الكبير). والدها يتاجر في الأثاث المستعمل. دكانه في الزنقة المجاورة. وأخبرني أنها تساعده في البيت. ثم حدثني عن روايتها "جراح الروح والجسد"، ومساعدته لها في مراجعة سيرتها الروائية وطباعتها، كما أن زفزاف قدم مليكة لناقد فرنسي زاره فكتب عنها. كانت الرواية لم تنشر بعد. وتحكي فيها قصة اغتصابها طفلة صغيرة. ولم يذكر لي زفزاف المريض شيئا عن مرضها. سأراها مرة أخرى رفقة صديقي المرحوم الشاعر محمد الطوبي، وكانا يجلسان معا بمقهى داخل معرض الكتاب الدولي بالدارالبيضاء، سأعرف لاحقا أن علاقة حميمية جمعتهما لما تعرف صاحب "سيدة التطريز بالياقوت" على صاحبة "ترانت سيس" ذات مساء في بيت مؤلف "المرأة والوردة". لكن زفزاف سيقطع لاحقا علاقته بالطوبي وبمليكة، ويمتنع عن استقبالهما في بيته، وعندما ذكرت مرة أمامه اسم محمد الطوبي تحدث عنه بعداء كبير. * بعد إصابتها بداء الفشل الكلوي، عجزت مليكة عن توفير المال للعلاج، فراسلت عددا من الأثرياء الذين تمكنت من الحصول على عناوينهم، كما كاتبت دواوين أمراء وملوك الخليج، بل إنها ستكتب لولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز، أمير ويلز وولي العهد البريطاني، من أجل تمكينها من زرع كلية. تعبت وداخت كثيرا من أجل أن تحصل على دعم لعلاجها وإنقاذها، ولما حصلت على أمنية حياتها من القصر لم تستطع الاستفادة من هذا العطف الملكي السامي، لأسباب بيروقراطية حالت دون تفعيل قرار الملك محمد السادس. * في أحد ايام سنة 2003، ببهو محطة القطار بمدينة الرباط، سأصادف صديقي الشاعر محمد الطوبي يتجول كالهائم، يتفرج على العابرين الرائحين والغادين. يرتدي معطفا ثقيلا أسود وسروالا رياضيا وادخل قدميه في جوارب صوفية وصندالة من جلد. أما الرأس فغطاه بطاقية لإخفاء نسل شعره بسبب السرطان. كان الهزال باديا على ملامحه ولم أتعرف عليه لو لم يقم هو بتوقيفي. أخبرني الطوبي أنهم يسمحون له أحيانا بمغادرة غرفته بالمستشفى الأنكولوجي مولاي عبد الله بالرباط، لذلك يستغل الفرصة للنزول إلى وسط المدينة. وقفنا أمام كشك الصحف والمجلات داخل المحطة (في صيغتها القديمة)،.سألني الطوبي عما أبحث عنه، فأخبرته أني أفتش عن العدد الأخير من مجلة "الآداب" البيروتية، فرد علي أنه لم يصل بعد. وذكر لي أنه ينتظر نشر ديوان شعري جديد له سيصدر عن دار نشر في ليبيا. ثم تفاخر بحصوله على العطف الملكي، فسألته عن مليكة مستظرف، فأخبرني أنها لم تستفد من شيء، رغم أن القناة الثانية قد أذاعت في إحدى نشراتها المسائية بلاغا صادرا عن الديوان الملكي، يقول إن الملك قد أنعم على الشاعر محمد الطوبي والكاتبة مليكة مستظرف بالاستشفاء على حسابه. توفيت مليكة وفي نفسها ليس "شيء من حتى".. كما يقولون، بل "حتى" كاملة… * في اتصال هاتفي مع صديقي الشاعر حسن نجمي، حكى لي أنه في فترة توليه مسؤولية رئاسة منظمة اتحاد كتاب المغرب، هو من سعى شخصيا في المكتب المركزي للاتحاد إلى طلب الرعاية الملكية من أجل استشفاء الكاتبة مليكة مستظرف لما علم بمعاناتها، وأنه حرص على منحها بطاقة الانتساب لاتحاد الكتاب لأنها تستحقها، ولم تكن من قبل عضوا به، حتى تستمد مخاطبة الديوان الملكي مشروعيتها القانونية. وساعد في هذا الصدد المستشار الملكي وقتها وعضو الاتحاد الكاتب الروائي والمفكر حسن أوريد. لكنهم فوجئوا بمليكة مستظرف تصر على أن تنقل للعلاج على حساب الديوان الملكي بالديار الفرنسية، وهو ما عارضه تقرير طبيب الملك الذي رأى أن العلاج متوفر ولا حاجة لطلبه خارج المغرب. ما دفع مستظرف للتمرد، وجاءت إلى رواق اتحاد كتاب المغرب بإحدى دورات المعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء، بنية القيام باعتصام احتجاجا على عدم قبول ملتمسها، فتراجعت لما أفهمها حسن نجمي وبعض أعضاء المكتب المركزي للاتحاد بينهم الكاتب عبد النبي دشين، أن محاولتها لن تجدي نفعا، وهي إذا أصرت فهم على استعداد كامل لمساندتها والاعتصام بجانبها. * في آخر حوار معها قالت مليكة مستظرف:"حلمي بسيط جدا، إني لا أطلب امتياز الصيد في أعالي البحار، ما أطلبه هو كلية لا يتعدى حجمها ستة سنتيمرات. أريد أن أزرع كلية وأعيش مثل بقية الناس، وآكل وأحيا مثلهم. لكني وجدت أن هذا الحلم كثير عليّ ". انطفأت مليكة ابنة بائع الأثاث القديم في المعاريف، وذابت كشمعة. ذات مساء من بدايات شهر سبتمبر 2006. بالإضافة إلى سيرتها الروائية الذاتية "جراح الروح والجسد" التي أصدرتها على نفقتها بإحدى مطابع القنيطرة بغلاف يحمل لوحة للشاعر محمد الطوبي، سيساعدها الكاتب أحمد بوزفور في نشر مجموعة قصص بعنوان: "ترانت سيس"، صدرت عن مجموعة البحث في القصة القصيرة، والعنوان يحيل على الاسم الشعبي لجناح المرضى النفسانيين بمستشفى ابن رشد في الدارالبيضاء. وفي عام 2002 سيعتذر الكاتب أحمد بوزفور عن قبول جائزة المغرب للكتاب، بسبب معاناة "أصدقائه وزملائه الكتاب المغاربة الذين يعانون من الإهمال"، كما كتب بوزفور في رسالته الشهيرة التي أشار فيها إلى معاناة مليكة مستظرف.