حالة الاقتصاد المغربي ليست على ما يرام. هذه هي الحقيقة التي بات يدركها الجميع. انتهت سنوات البقرات السمان وبدأت سنوات البقرات العجاف. جميع التصريحات الصادرة مؤخرا تؤكد ذلك: بدءا من تصريح عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب الذي دق ناقوس الخطر محذرا من قرب حدوث الكارثة.. ومرورا بتصريح امحند العنصر الأمين العام ل "الحركة الشعبية"، ووزير الداخلية في الحكومة التي ينتقد آدائها، والذي دعا المغاربة إلى شد الحزام أكثر مما هو مشدود بالنسبة للفئات والشرائح المعدمة والمنسية في القرى والجبال والصحاري وهوامش المدن.. وانتهاء بمزايدات حميد شباط الأمين العام لحزب "الاستقلال"، الشريك الأول للحزب الذي يقود الحكومة، الذي قالها واضحة عندما صرح بأن "المغرب في خطر"، وأخيرا عمد إلى وضع برنامج جديد للحكومة المشارك فيها، وهذه سابقة في حكومات العالم، عندما يقوم حزب مشارك في حكومة بناء على برنامج صوت عليه نوابه داخل البرلمان باقتراح برنامج آخر على نفس الحكومة التي هو أحد أهم مكوناتها الأساسية! وقبل صدور هذه التصريحات مر خبر صغير دون أن يلفت اهتمام الكثيرين. ففي شهر مارس الماضي زارت كريستين لاكارد، رئيسة صندوق النقد الدولي الجزائر، وكان مبرمجا أن تزور المغرب أيضا إلا أنها ألغت زيارتها للرباط في آخر لحظة دون أن يُعرف السبب. وبدلا من أن يصدر من الرباط ما يفسر لماذا استثنت لاكارد المغرب من زيارتها، اكتفت وكالة الأنباء الرسمية المغربية بسياسية "تقطار الشمع" على الجزائر حيث تنشر الأخبار "السيئة" عن الحالة الاقتصادية الجزائرية، وكأن الاقتصاد المغربي ينعم بألف خير! لاكادر لم تقل هي الأخرى لماذا لم تعرج في زيارتها على المغرب، لكن من يعرفون خبايا الاقتصاد المغربي، يدركون أن خبراء المؤسسة النقدية الدولية غير راضين عن طريقة تدبير المغرب لاقتصاده الذي يمر من حالة أزمة غير معلنة رسميا. وقبل أيام تم تداول أنباء حول تقرير سري قدمه نزار بركة، وزير الاقتصاد والمالية أمام "زعماء" الأغلبية المكونة للائتلاف الحكومي، وحسب ما تسرب عن ذلك الاجتماع المغلق وعن التقرير الذي رسم لوحة سوداء للاقتصاد المغربي، فإن كل مؤشرات هذا الاقتصاد اكتست اللون الأحمر. أي لون الخطر المحدق الذي ينذر بالانفجار. فقد أشار إلى نسبة عجز تجاوزت 7.1 في المائة، وكتلة أجور تلتهِم ما يناهز ثلث ميزانية المغرب أي ما يفوق 96 مليار درهم، وصندوق مقاصة مفتوح الشهية مثل نار جهنم، كلما رميت فيه ملايير الدراهم إلا وقال "هل من مزيد؟"، ففي عام 2012 فاق ما ابتلعه هذا الصندوق 55 مليار درهم، أي أنه ابتلع أكثر بكثير من ميزانية التعليم التي تعتبر الأضخم بين الميزانيات القطاعية (49 مليار درهم عام 2013). ويتوقع أن ترتفع تكلفة صندوق المقاصة خلال العام الجاري، أي سنة 2013، لتناهز 60 مليار درهم، وبالتالي سيصبح القرار الذي اتخذته الحكومة بالزيادة في سعر المحروقات غير ذي جدوى، لأن 5 مليارات التي ضختها تلك الزيادات في ميزانية الدولة ابتلعها الثقب الأسود لصندوق المقاصة. أما الحديث عن إصلاح هذا الصندوق فتحول إلى حديث ذي شجون، كل يغني له كمن يغني على ليلاه. رئيس الحكومة وحزبه "العدالة والتنمية"، يريدون أن يحولوه إلى "حصان طروادة"، الذي من خلاله سيحققون الفتح العظيم. وحلفائهم داخل الحكومة يرون فيه الحصن الذي يحتمون وراءه اتقاء من لهيب السعار الاجتماعي. والمعارضة البرلمانية ومن خلفها لوبيات الاقتصاد والمال والأعمال والسلطة ترى فيه "البقرة الحلوب" التي يرفضون الفطام عنها. لقد تحول هذا الصندوق إلى "عجل مقدس"، صنعه كهنة الاقتصاد لتمتطيه الآلهة ويقدسه الشعب، وما خواره إلا ما نسمعه اليوم من نقاش بيزنطي حوله، من مدافِع عن بقائه، ومن محذر من المساس بقدسيته، ومن كافر به يدعو إلى تحطيمه وتوزيع "لحمه" على الفقراء والأتباع والمشايعين وكسب الأصوات الانتخابية... وسيبقى الأمر كذلك إلى أن يخرج من بين الناس من يهش بعصا "موسى" الغاضب، فيحطم الألواح ويحرق العجل ومن صنعوه وعبدوه وقدسوه... مع أن الأمر واضح وجلي مثل شروق الشمس من الشرق. فأموال الصندوق التي تذهب إلى غير مستحقيها يجب أن تعود إلى خزينة الدولة. هناك جزء كبير من أموال دعم هذا الصندوق تذهب إلى كبريات الشركات وإلى أثرياء هم في غنى عنها. واستعادة هذه الأموال يجب أن يكون في إطار القانون من خلال مطالبة الشركات بإعادة أموال الدعم إلى خزينة الدولة، ومن خلال فرض ضريبة الثروة على الميسورين وعلى أصحاب المداخيل المرتفعة كما هو سار به الأمر في جميع أنحاء دول العالم. لقد سبق لحكومة عبد الرحمن اليوسفي في بداية عهدها أن سعت إلى فعل ذلك، عندما طالب وزير الشؤون العامة للحكومة آنذاك، أحمد الحليمي باسترجاع أموال السكر المدعوم من كبريات الشركات، فأقيمت الدنيا حوله ولم تقعد إلا بعد أن تراجع عن مطالبه.. مشاكل المغرب الاقتصادية لا يمكن اختزالها كلها في هذا "الصندوق" الذي تحول إلى ثقب أسود يصعب سبر غوره أو لجم فمه. ولفهم حالة الاقتصاد التي وصلت اليوم إلى درجة الخطورة وتحولت إلى حديث الصالونات المترفة في الرباط والدار البيضاء، لا بد من وضع الأمور في سياقها التاريخي. فهذا الصندوق خلق أصلا لشراء نوع من السلم الاجتماعي الهش منذ سنوات الثمانينات من القرن الماضي، لإسكات الفئات الفقيرة والمعوزة والمهمشة. وما يعانيه الاقتصاد المغربي اليوم من أزمة خانقة هو نتيجة لتراكم سنوات من سوء الحكامة الاقتصادية على مر عقود من الزمن. والخطير في الأمر أن الحكومات المتعاقبة على المغرب خلال العشرية الأخيرة لم تكن تصارح المغاربة بما يجري، وقد كشفت مؤخرا تقارير مؤسسات نقدية دولية أن الأرقام التي كانت تقدمها تلك الحكومات عن حالة الاقتصاد المغربي هي أرقام مغشوش، لكن حالة الاقتصاد العالمي الذي ازدهر مع بداية الألفية الحالية كانت تساعد على تضميد الكثير من الأعطاب التي يعاني منها الاقتصاد المغربي من خلال تحويلات المهاجرين المغاربة في الخارج وتدفق أموال السياح وبعض الاستثمارات التي استقطبتها حالة الانفتاح الاقتصادي التي شهدها المغرب مع بداية تولي الملك محمد السادس المُلك قبل أن تصطدم تلك الاستثمارات بمنافسة القصر فيحزم أصحابها حقائبهم ويقفلوا راجعين إلى بلدانهم أو على الأقل يحدوا من المغامرة في توسيع مشاريعهم في المغرب. يضاف إلى ذلك أن الاقتصاد المحلي المغربي نفسه ظل يعيش داخل فقاعة صنعها لنفسه هي فقاعة "العقار"، الذي أنعش المضاربات بين محدثي الثروة واستقطب حتى رجال أعمال من قطاعات أخرى مثل النسيج وغيرها فشلوا في تطوير صناعاتهم التي لم تعد قادرة على مجاراة المنافسة العالمية، وحولوا استثماراتهم إلى "المضاربات العقارية" المربحة وغير المكلفة اقتصاديا واجتماعيا... ومع ارتفاع وثيرة المضاربات استشرى الفساد الذي أصبح "مؤسساتيا" كما سبق أن أشارت إلى ذلك إحدى قصاصات "ويكيليكس"، ولم يعد محصورا في الإدارات وإنما تعدى ذلك إلى المؤسسات بما فيها تلك صاحبة السيادة بلا استثناء.. لقد كان السيناريو واضحا، والأزمة كانت على الأبواب، ومع ذلك استمرأت الحكومات السابقة خطابا سهلا و"كاذبا"، مفاده أن المغرب في منأى عن الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم وحطمت اقتصاديات أقوى من اقتصاد المغرب ودفعت بدول متقدمة على المغرب إلى هاوية الإفلاس والخراب... إن الاقتصاد المغربي يدفع اليوم ثمن فاتورة هذا "التواطؤ"، وعدم قول الحقيقة للمغاربة، وأكثر من ذلك فهو يؤدي ثمن التأخر في تأهيل البلاد سياسيا قبل تأهيلها اقتصاديا، من خلال إصلاحات سياسية حقيقية تفصل بين السلط، وتقر باستقلالية كاملة للقضاء وتضع حدا للفساد المستشري وتضع حدا فاصلا بين ممارسة الحكم وممارسة التجارة... لكن أي شئ من هذا لم يحدث. وحتى عندما نزل الناس إلى الشوارع للمطالبة بهذا التأهيل الذي تأخر وصوله سعت السلطة إلى رشوة الموظفين ومنتسبي الأجهزة الأمنية من خلال زيادات كبيرة في الأجور. حدث ذلك في حكومة إدريس جطو عندما تمت الزيادات في أجور رجال الأمن وفي المناصب المخصصة سنويا للأجهزة الأمنية، وتكرر ذلك بصورة فجة مع بداية الحراك الشعبي في المغربي، عندما أقرت حكومة عباس الفاسي بزيادة 13 مليار درهم سنويا، عبارة عن زيادة في أجور الموظفين لإسكات النقابات التي تواطأت مع الحكومة والسلطة لإخماد الاحتجاجات في الشارع المغربي... إن المشكل كان ومازال في المغرب هو مشكل سياسي بامتياز، قبل أن يكون مشكلا اقتصاديا، وما تفاقُم الأزمة الاقتصادية التي يحذر اليوم الجميع من انفجارها سوى نتيجة لتراكم المشكل السياسي. إنه مشكل استمرار السلطوية والاستبداد التي يدفع ثمنها من خزينة الدولة لشراء سلم اجتماعي وهمي وربح الوقت. سلم اجتماعي يقوم على شراء النخب السياسية والثقافية والإعلامية ورشوة الموظفين وقمع المحتجين وتهميش المعدمين المنسيين في قراهم وجبالهم وصحاريهم البعيدة... وأكثر من ذلك إخفاء الحقيقة عنهم، حقيقة الأزمة التي تهدد بحرق الأخضر واليابس...