توفي هذا الأسبوع بمستشفى "لاريبوازيير" في باريس واحد من أشهر الصحفيين العرب، بعد إصابته بفيروس كورونا. هو الفرنسي من أصل تونسي الصحفي بشير بن يحمد، عن عمر 93 عاما، العمر نفسه الذي عاشه الصحفي المصري محمد حسنين هيكل (رحل سنة 2016). ولو أن كليهما جمعتهما المهنة والانتماء إلى البلاد العربية، وتقاطعت أبعاد كثيرة في مساريهما. إلا أن نقاطا شتى فرقت بين الاثنين، أولها لغة الكتابة، وصِلَةُ كل منهما بالسلطة في ارتباطها بالصحافة، وأكثر من هذا وذاك، المدرسة الصحفية التي انحاز كل واحد إليها، وهما مدرستان مختلفتان حد التعارض. بين هيكل وبن يحمد عرف المصري محمد حسنين هيكل بآرائه وغزارة كتاباته المؤثرة، وقد وصف بعد رحيله ب"صحفي القرن". هو الوصف ذاته الذي ألقاه الناعون على الراحل بشير بن يحمد. بما فرضه الرجلان من حضور وازن في الساحة الإعلامية والسياسية، في بعدها الإقليمي والقاري والدولي. فكانا معا من الشخصيات المثيرة للجدل، طبيعي أن يشكل غيابهما خسارة كبيرة لدنيا الصحافة وللوسط السياسي. يكفي استعراض الأحداث والشخصيات الكبيرة التي عرفها العالم منذ الستينيات ، لنقترب شيئا ما من زمن الرجلين والعلاقات المتشعبة التي نسجها كل واحد منهما مع دوائر صنع القرار في كبريات العواصم، في إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا إلى الاتحاد السوفييتي السابق. كان هيكل مقربا من النظام في مصر، وتولى وزارة الإرشاد القومي (الإعلام) في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ولم يقطع شعرة معاوية مع من خلفوه. بشير بن يحمد كان أيضا مقربا من النظام التونسي، وشغل منصب وزارة الإعلام، (بنفس الاسم: الإرشاد القومي)، وما أن لبث أن صار مقربا من معظم الأنظمة الإفريقية، ومن دولة فرنسا التي استقر وعاش بها وتزوج امرأة من بناتها، وأنجب ولديه اللذين أورثهما مهنة الصحافة. ارتبط هيكل بالرئيس جمال عبد الناصر وظل معه حتى ساعاته الأخيرة. في المقابل ارتبط بشير بن يحمد بالرئيس الحبيب بورقيبة، لكن سرعان ما ابتعد عنه، وكان أصغر وزراء الزعيم (28 سنة) ليختار خدمة بلاط صاحبة الجلالة. كان هيكل كثير الحضور في وسائل الإعلام، بخلاف بن يحمد قليل الظهور الذي لا يحضر إلا عبر مقالاته وافتتاحياته في "جون أفريك" بعنوان: "هذا ما أؤمن به"، وهي افتتاحيات متفاوتة في الوضوح والصراحة، أو في درجات الترميز ولغة بياض ما بين السطور. وإذا كان هيكل يتوجه إلى جمهور القراء في الوطن العربي، كما كان يتقن اللغة الإنجليزية، لذلك كان تحاوره الإذاعات والقنوات الأنجلوسكسونية، وكانت الصحافة الغربية عموما تترجم مقالاته وآرائه. فإن بن يحمد بحكم لغته وثقافته الأساسية يتوجه إلى القراء الفرنكفونيين في المغرب العربي والبلدان الإفريقية الناطقة باللغة الفرنسية. وكان هيكل قوميا عربيا ناصريا، أما بن يحمد فكان مقربا من "الاشتراكيين الديمقراطيين"، سرعان ما حول مجلته إلى منبر للدولة الفرنسية التي منحته جنسيتها بعد أن وصلها قادما من روما. مجلة مرجعية تنافست وسائل إعلام عربية ودولية عديدة على تمجيد الراحل بن يحمد، وتناولت شخصيته المتعددة الأبعاد وعلاقاته المتشعبة التي جعلته مثار جدل كبير. وبحكم قربه من الدوائر العليا بفرنسا وبأكثر من بلد افريقي وعربي كان بن يحمد مطلعا على أسرار دولية كثيرة، ونأمل أن يكون قد خط بعضا منها في مذكراته التي ستنشر قريبا، وأن لا يكون الكتمان هو لبنات الامبراطورية الإعلامية التي شيد بها مجموعة "جون أفريك" التي صارت مصدرا هاما تعتمد على أخبارها الخاصة وتحليلاتها وكالات الأنباء العالمية التي تعتبر مجلة بشير بن يحمد مرجعاً مطلعاً ومقربا من أصحاب القرار في افريقيا الفرنكفونية وفي المغرب العربي. عندما يحكي بن يحمد عن بداياته، كان يحب أن يذكر سبب ابتعاده عن دواليب السلطة في بلده الأصلي، وهو انفراد بورقيبة بالحكم، لقد تبين له مبكرا أنه يعمل إلى جانب شخصية تتحول بشكل متسارع نحو الدكتاتورية، في ظل صراع الحبيب بورقيبة مع خصمه صالح بن يوسف، (أحد أبرز قادة الحركة الوطنية التونسية، اغتيل في 1961 بألمانيا). وكانت النقطة التي أفاضت الكأس هي مقال نقدي كتبه بن يحمد ضد الحكم الفردي، فحصلت الاستقالة من منصبه الوزاري، ليذهب بعيدا ويعتنق الصحافة. ولأن "كل الطرق تؤدي إلى روما" حط بشير بن يحمد الرحال بها أولا، قبل أن ينتقل إلى باريس. لكن المفارقة هي أن بشير بن يحمد سيصبح من أكبر مناصري الانقلابات العسكرية التي شهدتها القارة الإفريقية. منحازا إلى صحافة ممولة. وقد بالغت "جون أفريك" كما يقول البعض في نشر هذه الصنف الدعائي. إلا أن بشير بن يحمد كان ذكيا في لجوئه إلى خط تحريري لا يغالي في نبذ الحياد وكل أخلاقيات العمل الصحفي، محافظا على قدر من الاتزان في تحليل ومعالجة الأحداث السياسية الإقليمية والدولية، واستطاع إلى حد كبير أن يبقي على توازن مجلته واستمرار صلتها بالنخب المؤثرة في المجتمع، دون أن يفقد جميع قرائه المنتمين إلى تيارات سياسية متعددة. رغم التقلب في المواقف، فالمجلة تنشر هذا الأسبوع ما كانت تعارضه قبل أسابيع أو أشهر مضت. بمعنى أن "جون أفريك" كان تجيد المشي فوق الحبل الرفيع الواصل ما بين الصحافة والسياسة. هكذا كانت مقالاتها وتقاريرها وأغلفتها تتسم بالمهنية وبالإبداع والتجديد في الشكل والتصميم. وتوفر لها ذلك بفضل أقلام صحفية وكتاب لامعين لعبت أسماؤهم دورا في إشعاع المجلة. صديق مستشار الشؤون الإفريقية يقول د.عبد الصمد محيي الدين، وكان في وقت ما من كتاب "جون أفريك"، أنه لا وجود لخطوط حمراء في "جون أفريك" لا يمكن للصحفي والكاتب الاقتراب منها، أو مصلحة تفرض عليه حجب بعض الحقائق. إلا "أن بشير بن يحمد كان مع أجندة السياسة الفرنسية في ما يسمى "إفريقيا الفرنسية"، وكان ينشر ما يحصل عليه من جاك فوكار (1913 – 1997)، وهو كبير مستشاري الرؤساء الفرنسيين للشؤون الإفريقية، المتخصص في العمليات السرية في إفريقيا والمتورط في العديد من الانقلابات في القارة خلال الستينيات". لذلك لم تنتقد "جون أفريك توجهات الدولة الفرنسية وسياساتها الاقتصادية ومشاريعها الإيديولوجية واللغوية في مستعمراتها السابقة بإفريقيا. "كما لم يسمح بن يحمد لأحد من العاملين معه بذلك"، يضيف محيي الدين. ورغم أنه كان يعين رؤساء تحرير للمجلة، إذ تولى رئاسة تحرير "جون أفريك" عدد من الصحفيين العرب والفرنسيين، كان أولهم الصحفي التونسي محمد بن إسماعيل، وآخرهم الفرنسي فرانسوا سودان، إلا أن بن يحمد كان هو رئيس التحرير الفعلي، لا يمكن أن يمر أي شيء في المجلة من دون موافقته. مضاهاة الإكسبريس كان بشير بن يحمد معجبا بأسبوعية "الإكسبريس" الباريسية، فعمل في نوفمبر سنة 1961 على إنشاء مجلة "جون أفريك" (إفريقيا الفتية) على منوالها، بشراكة مع شيوعي تونسي (المحامي عثمان بن عليّة) برأسمال لم يتجاوز الألف دينار، ثم طوّرها بعد اقتنائه لأسهم بن عليّة، لتصبح مجموعة كبيرة تلعب دورًا محوريًّا في صناعة الأحداث وتوجيهها في افريقيا والمغرب العربي، وتصدر عنها عدة مطبوعات، من أهمها شهرية "أفريك ماغازين" التي انطلقت عام 1983، وفي 2006 نشر مجلة "المجلة". من بين الأسماء التي كتبت في "جون أفريك": الفرنسي جان دانيال، والتونسية درة بن عياد، والفرنسية جوزي فانون زوجة الطبيب والمناضل الأممي فرانز فانون (انتحرت سنة 1989 في الجزائر)، والمغربي حميد برادة، والمغربية زكية داوود، والسينغالي سيراديو ديالو، والتونسية صوفي بسيس، والتونسي عبد العزيز الدحماني، والفرنسي فرانسوا سودان، والمغربي محمد السلهامي، واللبناني أمين معلوف. بين المغرب والجزائر لم تكن علاقة "جون أفريك" بالمغرب علاقة طبيعية، غالبا ما تعرضت الأسبوعية للحجز ولم يسمح بوصولها إلى قرائها العديدين بهذا البلد. واتسمت حكايتها المغربية بالشد والجذب. وكان للنزاع بين المغرب والجزائر والقائم حول قضية الصحراء منذ قرابة نصف قرن، في صالح مجلة بن يحمد، وأصبحت "جون أفريك" تنشر في الغالب مقالات مؤيدة للطرح المغربي. إذ اقتنع بن يحمد بمغربية الصحراء، كما صرح. وهو ما أزعج قادة الجزائر. ومن المصادفات أنه في يوم رحيله توصلت "جون أفريك" برسالة احتجاج من محمد عنتر داود السفير الجزائري في باريس ضد نشر المجلة لخارطة المغرب متضمنة الأقاليم الصحراوية. لم تستطع المجلة الفرنكفونية الأخرى مجاراتها، رغم احتضانها من طرف النظام الجزائري، وهي مجلة "أفريك أزي" المتخصصة في حركات التحرر، التي أطلقها سليم مالك، صحفي شيوعي من يهود مصر، اشتهر باسم: سيمون مالي، وكان مقترنا بأمريكية يهودية من أصل روسي من أنصار جبهة التحرير الجزائرية، وسيمون مالي هو والد روبيرت مالي الذي يتولى حاليا الملف الإيراني في إدارة جو بايدن. يقول بن يحمد أن علاقاته بالقيادة الجزائرية كانت أعمق من ارتباطه بالحسن الثاني، وكان يتفهم الحجز الذي تتعرض له "جون أفريك" في المغرب. وقد لجأ مرة إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك ليتدخل لدى العاهل المغربي لرفع الحظر عن مجلة "جون أفريك". كما أن بن يحمد كان يعتبر نفسه مقربا من اليسار المغربي الذي يمثله عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي، أما المهدي بن بركة فقد صنفه ضمن المغامرين. أول مراسل بالمغرب أول مراسل لأسبوعية "جون أفريك" في المغرب كان هو الصحفي محمد السباعي. يحكي السباعي أنه توصل باقتراح العمل مع بشير بن يحمد من صديق تونسي مشترك كان يقيم بالدارالبيضاء، واضطر للسفر إلى روما لإنهاء تفاصيل العقد والاطلاع عن قرب على الخط التحريري للمشروع، وفوجئ بلطف بن يحمد وبساطته، إذ كان ينام بمكتب المجلة. و بعد انتقالها إلى فرنسا استمر السباعي مراسلا ثم مديرا لمكتب"جون أفريك" في شارع الجيش الملكي بالدارالبيضاء. وبعد أن طلق السباعي مهنة المتاعب للعمل في قطاع المطاعم، استقبل بن يحمد في مطعمه المغربي بنيويورك، وبعدها في مطعم "المنية" بوسط الدارالبيضاء. كما ربطت بن يحمد علاقات كثيرة مع شخصيات من النخبة المغربية، منهم المهدي بنبركة وعبد الرحمان اليوسفي وعبد الرحيم بوعبيد والفقيه محمد البصري ومحمد الباهي. بعد أن انتقل توزيع "جون أفريك" في المغرب من شركة "سوشبريس" التابعة ل"هاشيت" الفرنسية إلى شركة "سبريس" الوطنية، نشأت علاقة ود خاصة بين بشير بن يحمد ومدير "سبريس" الإعلامي محمد عبد الرحمان برادة، تبادلا فيها الزيارات العائلية. يحكي برادة أنه وجد نفسه ذات مرة وسيطا، عندما رافق واحدا من كبار الإعلاميين الخليجيين، وهو رجل أعمال في ذات الوقت، كان ينوي شراء مجموعة "جون أفريك". حصل اللقاء مساء في بيت بن يحمد بباريس، وخلال وجبة العشاء تبادل بن يحمد الحديث مع الضيف الخليجي بلغة شكسبير، ثم طرح الضيف موضوع رغبة الجهة التي يتكلم باسمها في اقتناء المجموعة الصحفية لبشير بن يحمد. واختصارا لكل المساومات، بادر الضيف معربا إنه يدرك جيدا أن الأمر أرقى من تفاصيل عملية بيع وشراء تجارية، "لذلك نضع بين يديك شيكا أبيض واكتب المبلغ الذي يرضيك مقابل تفويت جون أفريك". هنا انعقدت أسارير بشير بن يحمد واعتدل في جلسته وعاد إلى حالته الجدية، ليرد بلطف منتقيا كلماته كما دأب على ذلك، فأجاب محدثه أن المال لا يهمه، وأنه لا يمكن له التخلي عن ولده الذي أنشأه ونماه على يده. ف"جون أفريك" صارت جزءا منه لا يقبل التخلي عنها. قبل هذه المساومة، استطاع صحفي إقناع بن يحمد بالتوجه إلى الجمهور العربي بلغة الضاد، فظهرت عن المجموعة في 2004 النسخة العربية من "جون أفريك" برئاسة تحرير الصحفي التونسي الكبير الصافي سعيد، وقد عاش زمنا بالرباط مراسلا لمجلة "كل العرب" الباريسية، وهو اليوم نائب بالبرلمان التونسي، وسبق أن ترشح للانتخابات الرئاسية. لكن هذا المشروع لم يعمر طويلا بعد صدور أعداد قليلة. ما يفيد أن بن يحمد كان يستطيع التأثير في النخب العربية بلغة غير اللغة. وكان له ذلك، حيث برزت القضايا العربية في "جون أفريك". * المصدر: عن موقع "الحرة"