نشر الكاتب الاسباني "أنطونيو فييغاس" عام 1565 في مدينة " ريّال كامبُو "، كتاباً طريفاً جمع فيه قصائدَ وحكاياتٍ وقصصا كلاسيكية نال بها شهرة واسعة فى الأندلس، وفى مختلف أصقاع شبه الجزيرة الإيبرية فى القرن السادس عشر، ولقد استوحى المؤلف كتابه من نصوص بعنوان " حكايات الأمير الماجد دون فرناندو الذي إسترجع أنطيكيرا "، ويجد القارئ فى هذا الكتاب قصّة حبّ رومانسيّة عن أسمىَ مراتب الشّهامة، والولاء، والنبل والوفاء في عهدٍ كانت الكلمة فيه تُحترم، وكان العهدُ لا يُنكث حتى مع الخصوم،وقصّة من هذا القبيل جديرة بأن تُحكىَ هذه الأيام لأنها ترتفع بالحبّ وبأهله وذويه وأصحابه إلى أعلى علييّن في عيده. الحبّ في زمن المُواجهات يحكي لنا المؤلّف في هذا الكتاب قصّة حبٍّ موريسكية عميقة المعنى، بعيدة الغور عن أندلسيٍّ نبيل يُسمّى إبن سرّاج الذي كان مُغرماً بحبيبته الحسناء"شريفة" فى ظروف صراعاتٍ عصيبة ساد فيها التطاحن والمواجهات، وعشعشت فيها الضغائن والأحقاد بين مختلف العوائل والأسر الحاكمة من الجانبين العربي الإسلامي وبين الإسبان النصارى ، ومع ذلك إنتصر الحبّ الذي كان مغلفاً بالعفّة والصّدق والوفاء وسط هذه الأجواء الحالكة والمُدلهمّات والمحن . وهذه القصّة تظهر في العديد من الحكايات والكتب الرومانسية في ذلك العصر، وتكمن قيمة عمل" أنطونيو فييغاس" في إحياء هذه القصّة وإعادة نشرهاعلى أوسع نطاق ، وقد قدّمها في قالب قصصي سهل وبسيط، وتسجّل هذه القصّة المشاعر السامية والنبيلة، والأحاسيس المرهفة العفيفة لبعض النبلاء الإسبان في ذلك العصر وفي العصور التي جاءت فيما بعد، فحتى الكاتب الإسباني العالمي "ميغيل دي سرفانتيس" لم يفته أن يشير في روايته الشّهيرة "دون كيشوت" إلى حكاية إبن السراج مع خليلته شريفة ،بل إنّ هذا الكتاب كان وما يزال يُدرّس في المدارس الإسبانية الى اليوم. جزاء النّبل والوفاء تحكي لنا هذه القصة أنّ إبن السرّاج كان قد وقع في أسر الفارس الإسباني النبيل " رودريغو دي نارفايس" عمدة مدينة "أنطيكيرا " التي تبعد عن مدينة غرناطة بحوالي ثمانين كيلومتر ، وعندما رأى نارفايس الفارسَ العربيّ المسلم خلال سجنه غارقاً في حُزنٍ عميق سأله عن سبب كربه وغمّه ووُجومه، فحكى له ابن السراج قصته وهي أنه وقع في الأسر قريباً من المكان الذي كانت تنتظره فيه محبوبته شريفة لعقد قرانه عليها، عندئذٍ قرّر الحاكم الإسباني إبرام اتفاق مع الفارس العربي الحزين بإطلاق سراحه بشرط واحد أن يُقدّم له وعداً بأن يعود للسّجن متى إلتقى بخطيبته شريفة وعقد قرانه عليها فوافق ابن السرّاج على الفور على هذا الشرط وقدّم للحاكم وعداً بذالك ، ثم إنطلق للبحث عن شريفة وعند إلتقائه بها تزوّجها سرّاً ،إلاّ أنّها عندما عرفت قصّة خطيبها وسوء الحظ الذي وقع فيه قرّرت ألاّ تفارقه، وأن تصحبه إلى السّجن،ولم يتوان ابن السرّاج فى العودة إليه على الفور وفاءً منه للعهد الذي قطعه على نفسه مع الفارس الإسباني حاكم أنطيكيرا الذي عندما وجد الفارس العربي قد عاد اليه، ولم تشأ زوجته شريفة فراقه بل قرّرت مرافقته في السجن ، عندئذٍ فكّر الفارس الاسباني كيف يجازي " ابن السرّاج " على وفائه وإحترامه للوعد الذي قطعه على نفسه معه ، ويكافئه وزوجته شريفة على إخلاصهما ووفائهما فأطلق سراحهما على الفور الحبّ في الشّعر العربي كلما عاد" عيد الحبّ" أو" سان فالينتاين"، تعود إلى أذهاننا قصص العاشقين، وحكايات الوالهين، وأشعار المتيّمين، وتطوف فى خيالاتنا، وتدور فى خلدنا أسماء عالقة ولاصقة بذاكراتنا الوَهنة لها شهرة واسعة الأطناب فى العِشق، والهوىَ، والتيم والهُيام، والصّبابة والجوىَ، ممّا قاد بعضهم إلى مزالق الجنون، وعوالم المُجون، فمنذ معلقاتنا الشعرية القديمة التي كانت تُكتب بماء الذهب، وتُعلّق على جدران الكعبة كان شعراؤنا يبكون ، وينوحون، وينتحبون، ويتغزّلون نسيباً، وتشبيباً، وإعجاباً بمحبوباتهم ، ومعشوقاتهم ،ويتغنّون بأطلالهم الدارسة ، فهذا عنترة العبسي يسائل خليلته عبلة أنْ هل سَألت الخيلَ إن كانت جاهلةً بما لم تعلمِ ، وهذا عمرو بن كلثوم التغلبي يناشدُ خليلته بأن هبّي بصحنكِ واصبحينا، ولا تبقي خمورَ الأندرينا، وهذا طرفة بن العبد المنكود الطالع يذكّرنا بأطلال خليلته خولة ببرقة ثمهد ، والتي أصبحت تلوح له كباقي الوَشم فى ظاهر اليدِ، وهذا امرؤ القيس الكِندي يذكّرنا بليله السّديم الذي أرخىَ عليه سدوله كأمواج البحر ليبتليه بأنواع الهموم، وهذا جميل بثينة الذي يحلف لخليلته بربّ الرّاقصات إلى مِنىً، هُوِيَ القطا يجتزنَ بطنَ دفين ، لقد ظنّ هذا القلبُ أن ليس لاقياً.. سليمىَ ولا أمّ الحسين لحين،وهذا عمر بن أبي ربيعة فى جولاته، وصولاته، خلسةً فى جُنح الليالي الحالكات يزور خليلته ولم يعرف الواشون ما كان بينهما، ناهيك عن المجنون الهائم على وجههه فى الفلاة، والفيافي، والمفاوز، والقفار قيس بن الملوّح وحكايته مع ليلاه الأخيلية ،ونجد شاعراً عاشقاً ولهاناً آخر يقول فى ذات السياق : أشارتْ بطرفِ العيْنِ خيفةَ أهلها / إشارةَ مَحزونٍ ولم تتكلّمِ ... فأيقنتُ أنّ الطرفَ قد قال مَرْحبَا / وأهلاً وسهلاً بالحبيبِ المتيّمِ..وجاء بعد ذلك آخرون ،نذكر منهم أبا تمّام الطائي الذي يقول فى بيتيْه الشّهيرين: نقّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى / ما الحبُّ إلاّ للحبيبِ الأوّلِ... كمْ منزلٍ في الأرض يألفهُ الفتىَ / وحنينُه أبداً لأوّلِ منزلِ...وهناك العديد من القصص ،والحكايات، والأشعار الأخرى التي يحفل بها أدبنا العربي منذ فجر التاريخ ، وهي حكايات تنخلغ لها الأنفس،وتخفق لها القلوب، وتتغيّر معها الطباع ،وتطول بسببها الليالي، وتحتدّ بها نوبات الأرق، وتزيد بها نبضات القلوب، ويتفاقم التنهيد والتسهيد، ويحلو بها ولها وفيها السّمر والسّهر. وصَايا ابن حزم في طوق حمامته تدخل هذه المواضيع فى صلب الإحساس العاطفي الذي كان الأقدمون ينعتونه بمسميّاتٍ جميلة مثل الغزّل، أو النسيب، أو التشبيب، ومنه العذري والإباحي، إنها مواضيع على الرّغم من مرور الزمن ، وانسياب السنين ما فتئت على أيامنا الغارقة فى الماديات ، والتكنولوجيات المتطوِّرة والمُحيّرة تُحيي الرُّوحَ، وتجذل القلبَ، وتُنعش الوجدانَ ، والتي كان لها حضور قويّ فى تراثنا العربي والأندلسي القديم على وجه الخصوص. إننا واجدون فى هذا التراث الزاخر كتاباً فريداً فى بابه ،يُعتبر من أروع ما كتب فى هذا الموضوع للعلاّمة الفقيه الشّاعر ابن حزم الأندلسي فى مؤلّفه الشهير "طوق الحمامة فى الألفة والألاّف"،وهو كتاب يُعالج تباريح الحبّ والهوىَ، وعذابات التّيم،والعِشق فى الأندلس ، ولقد أصبح هذا المؤلّف من بين أشهر الكتب التي وُضعت فى الاندلس خلال عهودها الزاهرة، تناول فيه صاحبه موضوع الحبّ وما تعتري صاحبَه من ظواهر الإنفعال ، والتغييرات التي تغشاه،وتأخذ بمجامعه ومعروف لدى القاصي والداني مدى التأثير البليغ، والأثر العميق اللذيْن أحدثهما هذا الكتاب فى آداب القرون الوسطى، سواء عند العرب أو فى العالم الغربي على حدّ سواء . أعراض الحبّ وصفاته في قراءةٍ متأنية تقول الأديبة الأردنية ديانا نصار عن هذا المؤلَّف : " هذا الكتاب ألَّفه واضعُه نزولاً عند رغبة صديقٍ مُحبّ طلب منه أن يصنف له (رسالةً في صفة الحبّ ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة). وهذا يدفع إلى أذهاننا التساؤل الأوّل: هل من الممكن فعلاً أن يُعرَّف الحبّ وتُقسَّم معانيه وأعراضُه وأنواعه والمشاعر المتعلقة به وأن يُصنّف في كتابٍ أو رسالة؟". وسرعان ما يأتينا الجواب الشّافي من الكاتبة فتقول :" بالرغم من غرابة الفكرة فقد انتهج ابن حزم منهجاً علمياً بحثياً في تقسيم الرسالة. حيث عمد إلى تقسيمها إلى ثلاثين باباً: عشرةٍ في أصول الحبّ، واثني عشر باباً في أعراض الحبّ وصفاته المحمودة والمذمومة، وستةٍ في الآفات الداخلة على الحبّ، واختتمها ببابين تحدث فيهما عن قبح المعصيّة وفضل التعفف". وتضيف الباحثة: " هناك آراءٌ واجتهادات. أبرزها أن يكون الإسم مبنياً على فكرة الديمومة والثبات؛ كقول العرب: "أبقى من طوق الحمام". أو أنه يحمل دليلاً على معاني الزّينة والحلية واستلهام الجمال الذي هو مثار الحبّ. أو – بكلِّ بساطةٍ ممكنة – أن الحمامة هي رسول الحبّ والهوى، والطوق حليتها وزينتها، أو الأمانة المعقودة في عنقها لحملها من العاشق إلى المحبوب ". يصف ابن حزم الحبّ فيقول : "الحبُّ – أعزّك الله – أوّله هزلٌ وآخره جدّ، دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تُدرَك حقيقتها إلاّ بالمعاناة. وليس بمنكرٍ في الديانة ولا بمحظورٍ في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزَّ وجل". وتشير الباحثة : "يكفينا هذا الاقتباس لملاحظة النزعة الدينية والقالب العقلاني الذي طغى على غير موضعٍ في هذه الرسالة". وهي تتساءل :" إن كان ذلك نابعاً من خلفية ابن حزم وفكره الديني، أو من حقيقة أنه كتب الرسالة رداً على طلبٍ من صديق؛ وبالتالي فقد كانت أشبه بالتوثيق والتوصيف العلمي، وأنها لو كُتبت في فترة أطول وفي وقتٍ مختلف من حياة ابن حزم لكان محتواها أو طريقة عرضها اختلفت عن المضمون الحالي " . وتضيف : أصل الحبّ عند ابن حزم " اتصالٌ بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع"؛ حيث يرى أنّ المحبّة ضروب: محبة المتحابين في الله عزوجل، ومحبّة القرابة، ومحبّة الألفة، ومحبّة التصاحب والمعرفة، ومحبّة البر، ومحبّة الطمع في جاه المحبوب، ومحبّة المتحابين لسرٍّ يلزمهما ستره، ومحبّة بلوغ اللذة، ومحبّة العشق التي لا علّة لها إلاّ اتصال النفوس"، هي المحبة فى رأيه هي الوحيدة التي لا تفنى ولا تزيد ولا تنقص كأنواع المحبة الأخرى. يحتوي كتاب طوق الحمامة على قصصٍ وأخبارٍ شهدها ابن حزم أو نُقلت إليه. فقد تربىّ في وسط يزخر بالنساء والجواري، وهنَّ من علّمنه وأدّبنه حيث اطلع على أسرارهنَّ وخباياهنّ ". شهادة شيخ المُستشرقين الاسبان في هذه الايام التي لا حدبث للناس سوى عن الحب على الرغم من الجائحة اللعينة التي تقضّ مضجعهم، وتثقل كواهلهم، وتنغّص عليهم حياتهم ما أحوجنا إلى إعادة نبش تراثنا ،وقراءة تاريخنا، والإستمتاع بدرره،وصدفاته، ونفائسه التي أُعْجِب بها الغربُ قبل العرب، يقول شيخُ المُستشرقين الإسبان الكبير الرّاحل " إميليو غارسيا غوميس" عند تقديمه لكتاب "طوق الحمامة" فى ترجمته إلى اللغة الإسبانية :" أنّ الحبّ العذري دخل الأندلس حوالي 890م. وكان لابن حزم نفسه تأثير واضح، وبليغ في هذا القبيل خاصّة في البلاطات الأوربية الرّاقية" .ومعروف أنّ هذا العالم الأندلسي الجليل قد سبق وبذّ بقرون علماء النفس الأوروبيّين المعروفين أمثال "كارل كوستاف يُونغ"، و" ألفريد أدلر"، و" سيغموند فرويد " وسواهم ممّن على شاكلتهم بملاحظاته العلمية الدقيقة ، وتفسيراته العميقة، وتحليلاته النفسية للأمارات والتغييرات التي تعتري الحالات النفسية للعاشقين المتيّمين، في كتابه الآنف الذكر الذي تُرجم إلى العديد من اللغات الحيّة – كما هو معروف- ولقي فيها نجاحاً وإنتشاراً منقطعيْ النظير. وهكذا فإنّ كتاب طوق الحمامة سيظلّ بالتأكيد كتاباً لا يخلو من المتعة والفائدة والأخبار العجيبة عن الحبّ، والصّبابة والجوىَ في سائر أنحاء العالم في كلِّ زمانٍ ومكان. كاتب من المغرب ، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم في بوغوتا كولومبيا.