في العشرين من شهر يوليو الماضي كتبت مقالا بعنوان نحو آفاق جديدة و الذي حاولت من خلال تأسيس أفق جديد للممارسة الأكاديمية في الخارطة الثقافية الصحراوية ، افق يحاول كذلك تقديم دراسة عليمة بعيدة عن أي ارتباطات سياسية كيف ما كان نوعها ، افق يستثمر مكاسب العلوم الانسانية و مكاسب ما حققته البشرية جمعاء . هذا من الناحية العلمية اما من الناحية الاخلاقية و فباعتبارنا نحن الصحراويين جزء من البشرية جمعاء فإنه من الواجب علينا الان الانخراط والتفكير بما اصبحت البشرية تفكر به من خلال التوجهات العقلانية و الحداثية و * التاريخانية وكل النزعات الانسانية . اننا في امس الحاجة الى تقديم دراسة علمية معاصرة تفكر بلغة و منطق اليوم دراسة لواقعنا و لثقافتنا بإعتبار هذه الثقافة شكلا تاريخيا ، بمعنى لها ارتباط بماض معين ، و الدراسة المعاصرة لا تعني قطع الصلة بماضينا و تراثنا ، و انما يجب علينا ان لا نسترجع هذا الماضي كما فهمه اسلافنا في لحظات معينة خصوصا عند سعينا الى فهم طبيعة التحولات السيسيوثقافية التي نشهدها اليوم ، و أن لا نعتبر كذلك هذا الماضي هو الفاعل الرئيسي في ما نحن عارضين عليه من تحديث و بناء مجتمع مدني اصبح الصحراويين يطمحون اليه . لقد عنونت هذا المقال "بمن زمن القبيلة الى موت القبيلة " على ان هذا العمل سيكون الجزء الاول من (ميتات) القبيلة اي اختفاء شكل او اشكال معينة من هذا التنظيم لكن لماذا مفهوم الموت بالضبط ؟ ان مفهوم الموت او الاختفاء هو مفهوم جوهري في الفلسفة و العلوم الانسانية المعاصرة ، حيث نعثر على مفهوم * مفهوم موت الواقع مع السوسيولوجي المعاصر جون بودريار * و مفهوم موت الفلسفة مع الماركسي الفرنسي لويس التوسير ، ثم مفهوم موت الانسان مع المفكر الفرنسي مشيل فوكو و الذي سنقف على افكاره بشكل مهم فيما سيأتي من هذا المقال على ان هؤلاء المفكيرن الثلاثة يشتركون في ما يصطلح عليه بالاتجاه البنيوي . يعرف عالم النفس السويسري جون بياجي البنية بأنها نسق من التحولات له قوانينه الخاصة باعتباره نسق (في مقابل الخصائص المميزة للعناصر) ، علما بأن من شأن هذا النسق ان يظل قائما و يزداد ثراء بفضل الدور الذي تقوم به تلك التحولات نفسها دون ان يكون من شأن هذه التحولات ان تخرج عن حدود النسق ، او أن تهيب بأي عناصر أخرى تكون خارجة عن هذا النسق (1) و تقوم البنية على ثلاث مبادئ (الكلية،التحولات ، التنظيم الذاتي ) . و قد قدم ستراوس الملامح المنهيجة التي تحكم المنهج البنيوي حيث حددها في أربع ملامح رئيسية : 1_ الانتقال من دراسة الظواهر الواعية الى دراسة البنية التحتية غير الواعية 2_ الابتعاد عن بحث الوحدات ككيانات مستقلة ، في مقابل اتخاذ العلاقات اساسا ومنطلقا للتحليل. 3_ استخدام مفهوم المنظومة او النسق بجانب مفهوم البنية . 4_ السعي الى اكتشاف قوانين عامة و ضرورية وواقعية تستخرج إما بالاستقراء او بالاستدلال المنطقي . ان المنهج البنيوي افتتح افقا * ابستيمولوجيا جديدا للبحث في الظواهر الإنسانية و المجتمعية يقوم على إعطاء الاولوية للكل على الاجزاء و للعلاقات على العناصر ، ثم تعليق الزمن و منح الاولوية المنطقية لعلاقات التآني على علاقات التتابع و التتالي ، مع إعطاء الأهمية للبنية على التاريخ و التطور وذلك من خلال البحث عن قوانين البني او المنظومة (2). لقد دافعت البنيوية عن الغاء الذات وإذابتها في الموضوع وفي اطار حتمية مطلقة و صارمة ، فمقابل الفكرة السائدة و المتوارثة عن الفلسفة المثالية حول الانسان ككائن مريد و حر و فعال أبرزت العلوم الانسانية مظاهر الحتمية الاجتماعية و الاقتصادية و النفسية و الرمزية التي يخضع لها الانسان، لتؤكد الانشطار الكامل للإنسان و ان الحرية التي تغنى بها مجرد امل اكثر مما هي واقع ، و لعل القول بالحتمية المطلقة و بموت الانسان يشكل الملمح الفلسفي و الايديولوجي الاساس للبنيوية ملمح يحدد الفاعل في الكل اي البنية و ليس الانسان (3). يقول * ميشيل فوكو " ان اختفاء الانسان هذا، كان في ذات اللحظة التي كان البحث عنه فيها قائما الى حدود جذوره ، لا يعني هذا ان العلوم الانسانية ستزول و ستختفي ، فهذا ما لم أقله قط و الكلام هنا لفوكو و لكني اقول ان العلوم الانسانية ستنشر الان في أفق لم تعد تسده او تحدده *النزعة الانسانية ، ان الانسان يختفي في الفلسفة ، لا كموضوع للمعرفة بل كذات تتمتع بالحرية و الوجود .(4) ، حيث ارتقى الانسان فجأة الى مرتبة اصبح فيها الانسان موضوعا للعلم في الوقت الذي كان يفترض فيه ان يكون هو مصدر لهذا العلم " قبل القرن الثامن عشر لم يكن الانسان موجودا .... و قد اشرف الان على نهايته و ربما اصبحت ساعة اختفائه وشيكة ! و فوكو هنا لا يعني اختفاء الجنس البشري و ان كان ذلك هو ما توحي به للوهلة الاولى هذه الافكار ، ولم يبلغ بفوكو و مهما يقال عنه الى حد ان يعلن نفسه نبيا للعصر الحديث انه لا يقصد اعلان نهاية إختفاء الانسان بالمعنى الحرفي للكلمة ، و لكن هو يقصد نهاية مفهوم معين عن الانسان ؛ انسان النزعة الانسانية و (اعلان حقوق الانسان) (5) بمعنى الانسان كواقع و حقيقة لها قوام و خصوصية مميزة كذات مؤسسة للمعرفة واعية و فاعلة في التاريخ مهيمنة ومسؤولة . الانسان الذي كان من قبل كائنا عاقلا اصبح الان مجرد موضوع بين الموضوعات الاخرى ، و موضوعا للمعرفة ، انسان اصبح محكوم عليه بالتلاشي و الاندثار . في شهر فبراير الماضي اصدر الاستاذ رحال بوبريك مؤلفا في غاية الاهمية كونه يتماشى و بشكل موضوعي ويجسد علميا و أكاديميا الاساس و الافق الذي تحدثت عنه في المقال الماضي ، و اقصد هنا مؤلف زمن القبيلة للأستاذ بوبريك و الذي كما اسلفت يمثل عملا في غاية الاهمية ، يقول بهذا الصدد بوبريك في مقدمة هذا كتاب زمن القبيلة " رغم ان الدولة الامة etat –nation منذ نشأتها كانت تهدف الى تقويض البنيات التقليدية او ترويضها ، فإن هذه البنيات بما فيها القبيلة لم تمت و ان تم اعلان تشييعها بسرعة . فهي إما تأقلمت مع نظام الدولة الجديد او كبتت او بقيت فاعلة في الخفاء ، و يقوم بتفعيلها الفاعلون السياسيون و الاجتماعيون خدمة لمصالحهم سواء في مواجهة الدولة او في خدمتها ، كما تقوم الدولة احيانا بإعادة إحياء القبيلة و استعمالها أداة في وجه معارضيها او ضد اي تغيير في غير صالحها. (6) " . المثير في هذه الفقرة هو كيف ان مؤسسة القبيلة منذ ان ارتبطت بالدولة لم تعد مستقلة أو هكذا على ما يبدو و ذلك بسبب عامل موضوعي اي خارجي و هو عامل سياسي بالأساس قد يكون الدولة و قد يكون فاعلين سياسيين آخرين . وفي تحليله الأنثروبولوجي لمؤسسة القبيلة الصحراوية يبرز بوبريك طبيعة السلطة داخل هذا التنظيم و كذا وظائف مؤسسات * ايت اربيعن و * الشيخ و * المقدم وظائف ظهرت في المجتمع الصحراوي ما قبل الاستعمارين الفرنسي و الاسباني للمناطق الصحراوية . ثم يبرز كيف كانت هذه المؤسسات (ايت اربعين و الشيخ و المقدم ) تدبر شؤون القبيلة بطرق سلمية و ديمقراطية قائمة على الاقناع و التشاور (7) ، كيف كانت تعيش هذه الشخصيات حياة بسيطة و لا نكاد نميزها عن باقي أفراد القبيلة الصحراوية . مع دخول طرف خارجي على الخط في تسيير شؤون القبيلة و نقصد هنا الاستعمار ظهرت النواة الاولى للحكم الاستبدادي الذي عانت منه القبائل الصحراوية ، خصوصا القبائل التي كانت تحت النفوذ الفرنسي ، حيث اوجدت السلطات الفرنسة آنذاك في المناطق التي كانت تحت سيطرتها و بالخصوص مناطق شمال وادي درعة نموذج القائد الذي نقلته من قبائل الاطلس الى المناطق الصحراوية الشمالية(8) . ان النموذج القائدي بني على سلطة قهرية و فردية بل الاكثر من ذلك حاول القائد القضاء على السلطة الفعلية لأيت أربعين و الشيخ و المقدم ، و القائد لم ينشأ الا من اجل خدمة مصالح المستعمر الفرنسي آنذاك ضدا على مصالح القبيلة التي ينتسب لها. و اسبانيا هي الاخرى إبان وجودها في المناطق جنوب وادي درعة سعت الى تقويض السلطات التقليدية و في مقدمتها جماعة ايت اربعين ، حيث طلبت اسبانيا من القبائل الصحراوية تعيين شيخ على رأس كل * فخذة يكون واسطة بينها و بين الادارة الاسبانية و ذلك من اجل ضبط و مراقبة القبائل الصحراوية .(9) لم تكن سياسة اسبانيا تختلف عن سياسية فرنسا فكلا الدولتين حولتا البحث عن من يخدم مصالحهما و يتعامل بانتهازية مع المؤسسات التقليدية كجماعة القبيلة ؛ و عليه اصبح الولاء لإسبانيا هو المعيار الوحيد لإختيار الشيوخ و ليس المصالح العليا للقبائل ، و اصبحت القبيلة مجرد وسيلة للحصول على امتيازات سياسية و اقتصادية(10). لم اقصد بموت القبيلة الموت بالمعنى الحرفي ، بل قصدت موت عدة رموز و قيم مثلها من كان يشرف على الشأن القبلي في فترة ما قبل الاستعمارين ، حيث وجدت آناذاك قيم الديموقراطية و المساواة و قيم المحبة الحقيقية قيم خدمة المصالح العليا لإنسان الصحراوي ؛ فعندما تحدث فوكو عن موت الانسان لم يقصد الموت بالمعنى الحرفي للكلمة كما اشرنا سابقا ، وانما قصد موت الانسان كحرية و تقدم و كل مبادئ النزعة الانسانية التي دافعت عنها العقلانية الغربية ، موت كذلك للإنسان حسب فوكو دائما كواقع و حقيقة لها قوام و كذات مؤسسة للمعرفة مهيمنمة و مسؤولة . و اليوم حال القبيلة الصحراوية ليس افضل حال من زمن الاستعمارين ان لم يكم اسوء ، على اعتبار ان اغلب اعيان القبائل الصحراوية المؤثرين تربطهم روابط قوية بمرحلة الاستعمارين ، و ان غابوا عن القبيلة حسب تعبير الانثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي فإنهم يحافظون على روابط قوية بقبائلهم و هم جزء لا يتجزأ من الحياة السياسية ، بل ان اغلب المنتخبين بالمناطق الصحراوية هم من فئة الاعيان اي ممن يمثلون القبائل الصحراوية، ومن الطبيعي ان ما يحدد توجهاتهم السياسية هي العصبية القبيلة و ليس اي تحديث حقيقي و ديمقراطي، وتحركاتهم نفعية ليس الا ، وقد يؤيدون الدولة او يغضبون منها اذا لم تستجب لمصالحهم السياسية و الاقتصادية (11). كان هذا هو الموت الاخلاقي للقبيلة حيث نفتقد اليوم الى القيم الأصيلة لمؤسسات (ايت اربعين ، و الشي ، والمقدم) في مقابل عبثية واستبداد اغلب من يتصرفون في الشأن القبلي اليوم ، و رأينا كيف تم تهميش مؤسسة الجماعة الصحراوية من قبل فرنسا التي أنشأت مؤسسة القائد المستبدة . و رأينا كيف ان اسبانيا هي الاخرى اقصت نفس المؤسسة و استبدلتها بشيوخ فخذات القبيلة ، و هذا فإن دل على شيء فإنما يدل على بداية اختفاء الطابع الاخلاقي الاصيل الذي مثلته القبيلة الصحراوية، اختفاء نعيشه و نلاحظه اليوم بأم أعيننا كما نرى كيف يلعب الفاعلين السياسيين و الاجتماعيين دورا أساسيا في تثبيت هذا الاختفاء و الموت الاخلاقي ، على انه هناك موت آخر للقبيلة الصحراوية موت مؤسساتي و قانوني و هو ما سنراه في المقال القادم . --- الهوامش : *التاريخانية: يعرفها عب الله العروي في خاتمة كتابه السنة و الاصلاح بأنها فهم الواقع السوسيولوجي على ضوء التاريخ. والتاريخانية تقوم على اربعة مبادئ (ثبوت قوانين التطور ، وحدة الخط التاريخي، امكانية اقتباس الثقافة ، اجابية الدور السياسي للمثقف ) *مفهوم موت الواقع عند جون بودريار: يرى جون بوديار نهاية او موت المبدأ المؤسس للواقع ، و انتهى عصر الاقطاب و المواقع و الايديولوجيات ، انتهى الواقع الذي كان بموجبه الانسان يميز بين الكاذب و الصادق ، و بين الواقعي و الخيالي.... . *موت الفلسفة عند لوي التوسير : يرى التوسير بأن الفلسفة ماهي الا أيديولوجيا و بالتالي لها وظيفة سياسية ، وهي ميادن للصراعات السياسية في شكلها الميثالي. 1) مجلة مشكلات فلسفية (مشكلة البنية ) ، العدد الرابع ، تأليف زكريا فؤاد ، مكتبة دار مصر ، ص 30 *الابيستيمولوجيا : تعني نظرية العلم ، و يعرفها لالاند فلسفة العلوم التي تعنى بدراسة العلوم من حيث مبادئها وفروضها و نتائجها بغية تحديد منطلقاتها المنطقية و الموضوعية 2) محمد سبيلا ، مخاضات الحداثة ، دار الهادي للطباعة و النشر ، الطبعة الاولى 2007، ص 256 *ميشال فوكو (1926 - 1984) فيلسوف فرنسي، يعتبر من أهم فلاسفة النصف الأخير من القرن العشرين، تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه "تاريخ الجنون", وعالج مواضيع مثل الإجرام والعقوبات والممارسات الاجتماعية في السجون. ابتكر مصطلح "أركيولوجية المعرفة" *النزعة الانسانية : وهي في مجملها مختلف الايديولوجيات التي دافعت عن فاعلية الانسان ودافعت عن العقلانية و قيم الحرية و التقدم كالماركسية و الهيجيلية و الوجودية. 3) محمد سبيلا : نفس المرجع ص262 4) مجلة بيت الحكمة ، العدد الاول (عدد عن ميشيل فوكو) ابريل 1986 ، الطبعة الثانية ، ص 20 5) عبد الرزاق الدواي ، موت الانسان في الفكر الغربي المعاصر ، دار الطليعة للطباعة و النشر ، الطبعة الاولى دجنبر 1992، ص 160 6) رحال بوبريك ، زمن القبيلة ، دار ابي رقراق للطباعة و النشر ، الطبعة الاولى 2012، ص 11 7) رحال بوبريك نفس المرجع ص 54 8) رحال بوبريك نفس المرجع السابق ص 257 9) نفس المرجع السابق ص 304 10)نفس المرجع ص305 11) عبد الله حمودي ، الشيخ و المريد ، ترجمة عبد المجيد جحفة ،دار تبقال للطباعة و النشر ، الطبعة الرابعة ،2010 ص 61