نهوض الصين لم يكن بالأمر اليسير ، فهو نتاج لتباشك و تفاعل مجموعة من المعطيات و العوامل المتفاعلة، و من ضمن العوامل المهمة التي ساعدت في نجاح التجربة الصينية والانتقال بسلاسة من إقتصاد منغلق إلى إقتصاد منفتح، الدور الفعال و الإيجابي الذي لعبه الحزب الشيوعي الصيني، و الذي سيطر على السلطة منذ 1949 إلى حدود اليوم، وقد لعب هذا الحزب دورا محوريا في صياغة إصلاحات 1978 وقيادة التحولات اللاحقة، لذلك، فإن فهم مسار التحولات التي شهدها الحزب الشيوعي[1] يعد مدخلا لابد منه لفهم عملية التحديث السياسي للدولة[2].خاصة و أن الكثير من الملاحظين يعتقدون بأن انطلاق الإصلاحات الاقتصادية في الصين، والتحول نحو اقتصاد تتحكم فيه أكثر آلية السوق و الحرية الاقتصادية. قد جعل الحزب الشيوعي يلعب دورا هامشيا على مسرح السياسة و الاقتصاد في الصين. غير أن الواقع عكس ذلك، فالحزب/ الدولة لازال يتحكم في الاقتصاد كما يتحكم في المجتمع[3] ، و هو الأمر الذي كذبته الأحداث اللاحقة و أخرها أسلوب مواجهة الصين لفيروس كورونا المستجد، و كيف كان للحزب الشيوعي دور محوري في محاصرة المرض و تقليل من مخاطره على الأرواح و على الاقتصاد الصيني[4]… وسنحاول من خلال هذا مقال التركيز على دور الحزب الشيوعي في تحقيق الإنتقال و التحول و الحفاظ على الاستقرار، باعتبار أن الحزب – الدولة فاعلين أساسيين في المجتمع، فهما منبع صنع القرار السياسي والاقتصادي[5] كما أنهما يلعبان دورا محوريا في صياغة وتنفيذ التحولات الماكرو اقتصادية – اجتماعية في الصين… فالحزب الشيوعى الحاكم قد اتبع نموذجا يشجع الإصلاح الإقتصادى أولا على حساب الإصلاح السياسى، و إن اقترنت تلك الإصلاحات السياسية بتوسيع هامش الحريات السياسية، و إصلاح النظام الإنتخابى، و تشجيع المجتمع المدنى مع إعطاء الأولوية للاستقرار السياسى، و المحافظة على الوضع القائم باعتباره الضمانة الوحيدة لإعادة بناء الصين داخليا ، لكن بالمقابل لابد من التأكيد على أن النخبة السياسة الحاكمة بعد 1980 عملت على فتح الطريق أمام نمو التيار الإصلاحي داخل الحزب الشيوعي الحاكم ذاته، وبعض الاتجاهات المعارضة بداخله[6]، بما يسمح بتفعيل الحياة السياسية في الصين، وتزايد هامش الحريات المتاحة في المجتمع الصين، دون أن يعني ذلك الانتقال نحو حكم ديموقراطي..فالحزب الشيوعي مازال يمارس نفس السياسة الاستبعادية والتي تتمثل في استبعاد النخب الأخرى المضادة والمناوئة له في السلطة، ومازال يتحكم في مجرى الحياة السياسية، دون السماح بإجراء إصلاحات سياسية حقيقية، لكن بغض النظر عن ذلك، فإن الإصلاحات التي تبناها الحزب بعد 1978 قد غيرت وجه الصين، و فتحت سلسلة الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية الصين على المجتمع الدولي والاستثمار الأجنبي، و قد شكل مثلا الوصول إلى الموسيقى الأجنبية مجرد مثال بسيط عن عملية فتح الصين، فمثلا كان الإستماع إلى الموسيقى الأجنبية من المحرمات في "عهد ماوتسي تونغ" و إستمر هذا الوضع إلى مطلع التسعينات، فالسلطات الصينية كانت تمنع دخول الأقراص المدمجة والشرائط[7]…كما أن الإصلاحات حولت البلاد من أحد أفقر دول العالم إلى ثاني أكبر اقتصاد على الأرض، مهدت الطريق للخروج الصيني..[8] .. لكن بالرغم من أن الصين تنعم باقتصاد يبدو على أنه في صحة جيدة، لكنها لازالت تعاني من نظام شديد الضبط، فالنظام السياسي قديم وتقليدي، لكنه مع ذلك، فعال ومؤثر في توفير الاستقرار للمجتمع الصيني. فهذا الأخير أصبح "ممتلئ بالتحديث"، فهناك انفتاح من قبل الجميع على نمط للحياة ذو مواصفات حداثية. لكن بالمقابل، لا زالت مقومات ما قبل الحداثة تطبع المجال السياسي، الذي لا زال يوظف خطابات ومواقف تعود للحقبة الشمولية[9]. فإذا كان الانتقال إلى اقتصاد السوق في بلدان المعسكر الاشتراكي السابق، قد اقترن باندحار الأحزاب الشيوعية وميلاد التعددية الحزبية والتراجع عن ديكتاتورية البروليتاريا، والارتماء في أحضان الليبرالية السياسية والاقتصادية. فإن من مفارقات التجربة الصينية أن الانتقال إلى اقتصاد السوق تم بتخطيط وتوجيه من الحزب الشيوعي الصيني. بل إن هذا التحول قوى من موقع الحزب، وأكسبه شرعية جديدة تمثلت في "شرعية النمو الاقتصادي "[10]. فهذا الحزب الذي كان من أشد الأحزاب الشيوعية تمسكا بالأيديولوجية الماركسية اللينينة، أصبح مع مطلع الثمانينات من أكثر الأحزاب انفتاحا على تجربة الليبرالية الاقتصادية[11] ، و قد تمكن من صياغة مراجعات مذهبية، وإدخال تعديلات على الفكر الماركسي اللينيني و الفكر الليبرالي[12] ، كمحاولة منه لرسم طريق ثالث يمزج بين محاسن كلا الفكرين… وهذا التوجه الغرض منه تأمين استمرارية الدولة من جهة ، و خلق اقتصاد ناضج Mature Economy من جهة ثانية[13]. وهو الأمر الذي لايختلف كثيرا، عن المنهج التوفيقي الذي تبناه "ماوتسي تونغ" حينما جعل من الريف قاعدة للثورة الشيوعية الصينية. خلافا لما نادى به "كارل ماركس"، حينما اعتبر أن طبقة العمال بالمدن، هي المعول الذي سيهدم "الإقطاعية والبرجوازية المتعفنة ". ونتيجة لذلك، فإن الثورة الشيوعية التي قادها الحزب الشيوعي الصيني، انطلقت من الأرياف لتتجه نحو محاصرة المدن والإطاحة بحكم "الكوميتانغ"، و هو عكس ما حصل في الثورة الروسية . وبنفس المنهج تمكن "Deng Xiaoping" من تكييف القاعدة السياسية والأيديولوجية للحزب والدولة والمجتمع[14]، مع مفهوم "اقتصاد السوق الاشتراكي" فالعقائد الأيديولوجية باختلافاتها وتناقضاتها، لابد وأن تمر من مصفاة "الخصائص الصينية "you zhongguo tese" [15]. بل إن التحول بدأ في عهد "ماوتسي تونغ" و خاصة بعد فشل "الثورة الثقافية "فقد أعرب العديد من الجنرالات البارزين في جيش التحرير الشعبى الصيني، و الذين كان لهم دور فعال في تأسيس جمهورية الصين الشعبية عن قلقهم ومعارضتهم للثورة الثقافية ودفعهم إلى اعتبار أن التحزب أصبح يدمر الجيش وهو ما سيعني انهيار الدولة . وفي الوقت نفسه، أصبحت أصوات من داخل "الحرس الأحمر" والمنظمات التابعة له، تحتج على تصرفات جهات متطرفة من داخل الحرس الأحمر، وهو ما أدى إلى فقد السيطرة و تفاقم الفوضى في الصين … وبعد المؤتمر الوطني التاسع للحزب مابين 1969-1971 ، برز بداخل الحزب جناحين متعارضين جناح يساري متطرف بزعامة زوجة "ماو" "جيانغ كينغ" ، وجناح معتدل يقوده رئيس مجلس الدولة "تشو ان لاى" ، وتمكن هذا الجناح من استقطاب تأييد واسع له بداخل الحزب والمؤسسة العسكرية، وهو ما ساعد على تشكيل تحالف معتدل سيتولى قيادة الصين مع نهاية عقد السبعينات[16]. والملاحظ، انه بعد عام 1969 تم التركيز على إعادة الإعمار من خلال إعادة بناء الحزب، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وزيادة الحساسية للشؤون الخارجية.كما طغت البراغماتية السياسية، فأصبح "ماو" يميل أكثر إلى دعم التوجه الذي سيمكن من ردم هوة الانقسام بداخل الأمة لمجابهة التحدي الخارجي. وبناءا على نصيحة من رئيس مجلس الدولة "تشو أن لاى"، تمت دعوة "دنغ شياو بينغ" للعودة إلى العمل في بكين بصفته النائب التنفيذي لرئيس مجلس الدولة، وهذا التعيين لقي معارضة من قبل المتطرفين اليساريين بقيادة "جيانغ كينغ" والذين عرفوا باسم "عصابة الأربعة"[17]. وكان أهم إنجاز تحقق خلال هذه الفترة هو قرار التقارب مع الولاياتالمتحدة[18]، وقيام الرئيس ريتشارد نيكسون بزيارة للصين في فبراير 1972[19]، إلى جانب تأسيس علاقات دبلوماسية مع اليابان في سبتمبر من نفس السنة[20]. وفي يوم 9 سبتمبر 1976 ، توفي "ماو تسي تونغ" فنشب نزاع حول من يخلفه على رئاسة الحزب، وقد تم تنصيب واحد من عصابة الأربع "لهوا قوه فنغ"، غير أن الأفكار المتطرفة ل"عصابة الأربع" تم رفضها من قبل الإصلاحيين في الحزب، و بدعم من الجيش وبعض الجنرالات البارزين مثل "جيان ينغ يي"، تم القبض على "عصابة الأربعة" في 10 أكتوبر1976 في انقلاب غير دموي. وكان ذلك إيذانا بنهاية حقبة الثورة الثقافية، وبداية مرحلة جديدة وهي مرحلة إصلاحات مابعد 1978. وبانعقاد الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية للمؤتمر الوطني الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني بنهاية عام 1978. وبعد أن قام الحزب بتقييم تاريخي للمرحلة التي أعقبت 1949، خلص إلى أن سياساته جانبت الصواب في كثير من الحالات، وان الشعب الصيني عانى كثيرا من السياسات الخاطئة، وحاول الحزب نسبتها إلى الجناح المتطرف الذي قاده "ماوتسي تونغ"[21]. نفس هذا التحول في سياسات الحزب حدث بعد "أحداث تيانتمين" ، أيضا بعد 2012 و مع صعود الرئيس "هو جينتاو "، فقد قام الرئيس السابق "جيانج زيمين" بتنظيم عملية "تجديد قيادة الحزب الشيوعى " ببراعة خلال مؤتمره السادس عشر في تشرين الثانى- نوفمبر 2002 ..و هو ما سنحاول تناوله في مقال منفصل إن شاء الله تعالى… و الله غالب على أمره و لكن أكثر لناس لا يعلمون.. أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..
[1]-"Ye Jianying (Communist Party Deputy Chairman) on Cultural Revolution," Xinhua (New China News Agency), No. 092905, 29 September 1979; "Resolution on Certain Questions in the History of our Party Since the Foundation of the People's Republic of China," adopted by the 11th Central Committee of the Communist Party of China, Xinhua, 30 June 1981; Jonathan Mirsky, "Long Look at Mao's Role," Observer News Service, No. 41727, London, 27 July 1981; Fox Butterfield, China: Alive in the Bitter Sea (london: Hodder & Stoughton, 1982), 471-473; Merle Goldman, "Human Rights in the People's Republic of China," Daedalus 112 (Fall 1983): 116. [2] – Ralph H. Folsom, John H. Minan, Lee Ann Otto, Law and Politics in the People's Republic of China, West Publishing (St. Paul 1992), pp. 76–77. [3] – Rocca, Jean-Louis « La condition chinoise : capitalisme, mise au travail et résistances dans la Chine des réformes » .op.cit. [4]– Fighting Covid-19 China in Action The State Council Information Office of the People's Republic of China June 2020 [5]– Kham, Vorapheth, " Patrons, reussissez votre Chine", Paris, L' Harmattan.2007. pp. 20-21. [6] -Theda Skocpol (ed.), "Vision and Method in Historical Sociology", Cambridge University Press, Cambridge, 1984, pp.3-22. [7] –JUDE BLANCHETTE " 5 Bad Things in China's Future (and 3 Good Ones) Xi Jinping's rule could get very dark. op.cit. [8]-Abumohammad Asgarkhani and Others, Geoe-conomic Analysis of China's Foreign Policy, Geopolitics Quarterly, Volume: 14, No 4, Winter 2019. PP 209-233. [9]– see, Aussenegg, Wolfgang, and Ranko Jelic. "Operating Performance of Privatized Companies in Transition Economies: The Case of Poland, Hungary, and the Czech Republic." Paper presented at FEMA 2003 Helsinki Meeting, Helsinki,Finland, November. 2002. and, Bornstein, Morris. "Framework Issues in the Privatisation Strategies of the Czech Republic, Hungary, and Poland." Post-Communist Economies 11 (1) ,1999.pp.47–78. Djankov, Simeon, and Bernard Hoekman. "Market Discipline and Corporate Efficiency: Evidence from Bulgaria." Canadian Journal of Economics 33 (1), 2000.pp.190–212. Djankov, Simeon, and Gerhard Pohl. "The Restructuring of Large Firms in the Slovak Republic." Economics of Transition 6 (1),1998.pp.67–85. Ellerman, David. "Lessons from Eastern Europe's Voucher Privatization." Challenge 44 (4), 2001.pp.14–37. Green, Stephen. "Privatization in the Former Soviet Bloc: Has China Learned the Lessons?" In Stephen Green and Guy S. Liu, eds. Exit the Dragon? Privatization and State Control in China. Malden, MA: Blackwell Publishing.2005..Hashi, Iraj, and Lindita Xhillari. "Privatization and Transition in Albania." Post-Communist Economies 11 (1),1999.pp.99–125. Havrylyshyn, Oleh. "Avoid Hubris but Acknowledge Successes: Lessons from the Postcommunist Transition." Finance and Development 41 (3), 2004.pp. 38–41. Djankov, Simeon, and Bernard Hoekman. "Market Discipline and Corporate Efficiency: Evidence from Bulgaria." Canadian Journal of Economics 33 (1), 2000.pp.190–212. [10] – Duckett, Jane.. "Bureaucrats in Business, Chinese-Style: The Lessons of Market Reform and State Entrepreneurialism in the People's Republic of China." World Development 29 (1), 2001.pp.23–37. And, Dickson, Bruce J. Red Capitalists in China: The Party, Private Entrepreneurs, and Prospects for Political Change. New York: Cambridge University Press. 2003.. [11] -Decision of the Central Committee of the Communist Party of China on Reform of the Economic Structure . Adopted by the 12th Central Committee of the Communist Party of China at Its Third Plenary Session on October 20, 1984." 1984. China Review, October 29. Langlois, John D. "Party and Government and China's Financial System." In Yasheng Huang, Anthony Saich, and Edward Steinfeld, eds. Financial Sector Reform in China. Cambridge, MA: Harvard East Asian Press. 2004.pp,8 -14. Lee, Keum. "The Chinese Model of the Socialist Enterprise: An Assessment of Its Organization and Performance." Journal of Comparative Economics 14 (3), 1990.pp.384–400 [12] -See, Lubman, Stanley. Bird in a Cage: Legal Reform in China after Mao. Palo Alto, CA: Stanford University Press. 1999. [13] – Iain Hampsher- Monk, " The Political Philosophy of Edmund Burkke", London, Longman, 1987.pp.168-169. [14] – Hu, Xiaobo. "The State, Enterprises, and Society in Post-Deng China." Asian Survey 40 (4),2000.pp. 57-65. 641 . Jiandong, Jin. "China's Stock and Bond Market." Beijing Review 32 (44). 1989.pp.24–7. Jiang, Zemin. "Speech at the Meeting in Celebration of the 40th Anniversary of the Founding of the People's Republic of China." Beijing Review 32 (41): 1989.pp.11–24. [15]– Sophie Faure, "Manager a l'école de Counfuius, Le management comme vous ne l'avez jamais imaginé", éditions d'organisations..pp.47-48. [16]– Zhixiong, Wang « Chine, la démocratie ou le chaos ? », Editions Bleu de Chine. Paris. 1997. .pp.27-29. [17] -والأعضاء الأربعة هم "Jiang Qing "وهي زوجة ماو تسي تونغ الأخيرة وكانت عضوا قياديا في الحزب، والمقربين لها هم :" Zhang Chunqiao " عضو اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب الشيوعي ،" Yao Wenyuan " عضو اللجنة المركزية للحزب ". وسيطرت عصابة الأربعة بشكل فعال على أجهزة السلطة في الحزب. [18] –Zhixiong, Wang « Chine, la démocratie ou le chaos ? »,op,cit.pp.38-39. [19] -Ibid.pp.50-52. [20] -Ibid.pp.47-49. [21] – Li, "The New Bipartisanship within the Chinese Communist Party." Orbis (Summer 2005).pp. 387-400.