بينما كان المغاربة كغيرهم من شعوب العالم الأخرى منشغلين هذه الأيام العصيبة وغير المسبوقة، بتفشي فيروس كورونا المستجد أو جائحة "كوفيد -19″، التي أربكت سائر بلدان الأرض وفرضت تحديات جديدة على الحكومة والمواطنات والمواطنين، وقلبت الحياة رأسا على عقب إلى الحد الذي بات معه الجميع يترقبون بشوق كبير حلول ساعة الفرج، من خلال ظهور لقاح ناجع يعطل عداد الإصابات والوفيات التي ما فتئت تتزايد بشكل مقلق ومرعب، ويعيد السكينة والطمأنينة إلى النفوس الكئيبة. وفي الوقت الذي يستدعي الحس الوطني وروح المسؤولية منا جميعا المزيد من التعاون والتضامن، وتضافر الجهود من أجل مواجهة الظرفية الاقتصادية الصعبة التي وضعتنا الجائحة في أتونها، وأن تحرص الحكومة على تشديد مراقبة المؤسسات والمقاولات العمومية في ما يرتبط بترشيد النفقات، وتوجيه الموارد المتاحة نحو الأولويات التي يتطلبها تدبير الأزمة الصحية الخانقة، بما يساعد في الحد من آثارها السلبية ويضمن نموا اقتصاديا مستداما وأكثر مرونة، لاسيما بعد أن تم تسجيل انخفاض كبير في موارد الدولة، على إثر الصعوبات التي يواجهها الفاعلون الاقتصاديون بالقطاعين العام والخاص على حد سواء، جراء تراجع أنشطتهم المهنية وهشاشة مواردهم المالية… فإذا بخبر ينزل على رؤوس العباد كالصاعقة، ليكشف فجأة عن إقدام عثمان الفردوس وزير الثقافة والشباب والرياضة على تقديم وزارته دعما ماليا استثنائيا برسم عام 2020 المشؤوم، يقدر بمليار وأربعمائة مليون سنتيم لفائدة عدد من "المغنين"، بدعوى تشجيع المشاريع الثقافية والفنية. وهو الخبر المذهل الذي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي بالاحتجاج والتنديد، وأثار جدلا واسعا داخل المجتمع. إذ نسي المغاربة كافة أوجاعهم وأشجانهم وانشغلوا فقط بالحديث عن هذا الدعم الخارج عن السياق الصحي الاستثنائي، والعصي على الإدراك والفهم في مثل هذه المرحلة الحرجة التي تمر منها بلادنا، حيث أنه بمجرد الإعلان عن أسماء "المحظوظات والمحظوظين" وطبيعة مشاريعهم وقيمة الدعم الممنوح لهم، والمتراوح ما بين 4 ملايين و16 مليون سنتيم للواحد"ة"، حتى اندلعت نيران الغضب والشجب، وانطلقت سهام الانتقادات اللاذعة والساخرة صوب المستفيدين والحكومة، وفرضت على البعض التنازل عن حصته لصالح صندوق كورونا. ذلك أن المغاربة بصفة عامة لم ولن يكونوا أبدا ضد الفن والفنانين، وسيستمرون في حبهم ودعمهم المعنوي للشعر والغناء والموسيقى والرقص والمسرح والرسم والنحت وكل عمل إبداعي جميل يسمو بالذوق ويصقل المواهب، العمل الذي ينير الفكر ويهذب النفس وينشر القيم النبيلة والراقية. ولا غرو أن نجدهم شديدي الحرص على الانتصار للحق والعدل والمساواة، مهما كلفهم الأمر من تضحيات جسام، ونراهم يعملون دوما وبما يملكون من قوة على التصدي لكل ما يساهم في إفساد الذوق السليم، من محاولات التضبيع في قنوات التلفزيون وكلام ساقط في الأغاني وغيرها، والتشجيع على الإساءة إلى مجال الفن بمختلف ألوانه، فضلا عن هدر أموال دافعي الضرائب وتوزيعها على غير مستحقيها. فقد تشكل شبه إجماع وطني على أن ما جادت به خزينة الدولة من دعم مالي لفائدة مجموعة من المغنين، ما كان ينبغي له أن يحدث في مثل هذه الظروف العصيبة ولا سواها، مهما كانت نوايا الواقفين خلفه حسنة، لأن الطريق إلى "الجحيم" مفروش بمثل هذه النوايا "الحسنة". وحتى إذا ما افترضنا أن القائمين على الشأن العام تبين لهم أنه من الضرورة صرف مثل هذه المبالغ المالية من أجل دعم الفن، التي نرى أن بلادنا أحوج ما تكون إليها في مواجهة تداعيات الوباء الفتاك، لاسيما أن هناك فئات أخرى أولى بالدعم سواء في الميدان الفني ذاته، من الذين يعانون في صمت أو في غيره من القطاعات، كدعم أطر قطاع الصحة العمومية المتواجدين بعيدا عن أسرهم في الخطوط الأمامية للمعركة ضد جائحة "كوفيد -19″، أو الطبقات الاجتماعية الأكثر تضررا من الأسر المعوزة أو تلك التي فقدت موارد رزقها بفعل الحجر الصحي وحالة الطوارئ الصحية المتواصلة… من هنا يتضح جيدا أن ما فجر بركان الغضب داخل المجتمع وعلى صفحات التواصل الاجتماعي وبمختلف وسائل الإعلام الوطنية ليست هي قيمة الدعم في حد ذاتها، مادامت هناك ميزانيات أكبر وأضخم ترصد لدعم جهات أخرى من أحزاب سياسية ونقابات وغيرها كثير، وإنما هو سوء التدبير وغياب الحكامة الجيدة والنزاهة. إذ كيف للمغاربة أن تطاوعهم أنفسهم في غض الطرف عن تواصل مسلسل الحيف والتهميش والإقصاء والتمييز واستنزاف المال العام بغير وجه حق؟ أهذا ما كانوا ينشدونه من تغيير ويتوقون إلى تحقيقه من توزيع عادل للثروة وبناء مجتمع ديموقراطي حداثي؟ إنه من المخجل أن يتحول مفهوم الشفافية إلى استفزاز شعبي مفضوح، إذ ليست الشفافية في نشر لوائح بأسماء المستفيدين من الدعم والمبالغ المحصل عليها في تنفيذ مشاريعهم الفنية، بل في مدى مصداقية اللجن الموكول إليها مهام التقييم والانتقاء وتحديد مبالغ الدعم، ثم كيف يمكن لمواطن فقد مورد رزقه وحرم من دعم "صندوق كورونا"، الذي لا يتجاوز في أحسن الأحوال 1200 درهم، أن يستسيغ حصول بعض المندسين أو المنتسبين إلى المجال الفني من المستشارين الجماعيين والموظفين بالوزراة الوصية والمقاولين وغيرهم من المقربين لدوائر القرار والانتهازيين، على ملايين السنتيمات وفي الكثير من السنوات بغير وجه حق؟ فهل بهكذا مساطر عوجاء نستطيع إقامة العدل ومحاربة الفساد؟