عندما نتحدث عن البناء الدستوري، فهو أبلغ وأعمق من الصياغة والوضع والنقاش والهندسة...لذلك ارتأيت اعتماد هذا المفهوم في مقالتي هذه لكي أعطي للدستور معنى أعمق وأشمل مما قد يفهم من معان ضيقة وقاصرة. ولتحديد العلاقة بين عناصر العنوان المطروح، يتحدث الكثيرون عن المبادئ الفوق دستورية، وهي في رأيي المتواضع بعد اطلاعي على المواد الدستورية لمشروع الدستور الذي تقدم به المخزن المغربي، وكذا الاطلاع على قراءات نقدية لمجموعة من الفاعلين والباحثين في القانون الدستوري والعلوم السياسية، وعلى رأي المواطنين سواء في الإعلام في برامج إخبارية أو حوارية نقاشية، وفي البيانات أو المسودات والمقترحات حول هذه المواضيع، تبين لي بالواضح والملموس أن هناك غياب مبدأ مهم وضروري يعتبر صلب أي منطلق أو مرجعية، وفي أي مجال أو ميدان، ويتجلى في مبدأ الوضوح la clarté. وما بالك بما يتعلق بوثيقة سامية و عقد وميثاق وعهد و ورقة جامعة لازمة ، تحدد العلاقات بين الأفراد و الجماعات، بين الحاكم والمحكوم، بين الرئيس والمرؤوس، بين المسؤول والمواطن. وهي أيضا الوثيقة الضامنة للحرية والعدالة والكرامة في المجتمع بين جميع الناس والمواطنين والأمم رجالا وأطفالا و شيوخا و نساء، في ممارستهم اليومية، وفي أحوالهم المعيشية، وفي طموحاتهم المستقبلية، وفي روابطهم الاجتماعية والثقافية، وفي عمقهم وأمنهم الروحي. وما بالك أيضا بحضارة ومجتمع وأمة مبنية في أصلها على مبادئ العدل والأخوة والتعاون والكرامة والعدالة والحرية والمساواة ، بل هي منبع هذه القيم التي أصبحت قيم كونية في عصرنا . لذا في نظري المتواضع فإن مبدأ الوضوح يجب أن يكون ملازما قبل وأثناء وبعد بناء ووضع و صياغة و تعديل الدستور شكلا ومضمونا ومنهجية، إذ يعتبر أهم مبدأ عام من المبادئ العامة فوق الدستور التي يجب الانضباط والاحتكام إليها، بعيدا عن الغموض والالتباس وحجب الحقائق، وبعيدا عن الإقصاء والتمويه والاستغلال والتجهيل والتفقير والتهميش والاختزالية، واستغلال انصراف الناس إلى معيشهم اليومي، وعدم إهتمامهم بالشأن العام، في البحث عن لقمة سائغة تقيهم الجوع والظمأ، كما حر وقر الحياة. وهذا المبدأ يمكن حصره في نظري في مجموعة من المرتكزات المحورية وشروط لا يمكن الإحاطة بكل تجلياتها، وإنما الإشارة إلى أهمها بما جادت به قريحتنا: الوضوح اللغوي؛ من حيث الصياغة و التدقيق اللغوي و المعجمي والنحوي، وضرورة الدقة التامة والمتناهية في وضع وصياغة واختيار وانتقاء العبارات والجمل والفقرات والأساليب والكلمات والمفردات بعيدا عن الأسلوب الإنشائي التعبيري، بالاعتماد على أسلوب تقريري مباشر وبسيط، واضح ومحدد، وهذا يستوجب استدعاء خبراء وعلماء ومتخصصين وأساتذة أكفاء في اللغة، يلمون بمداخلها ومخارجها ومكامنها وأسرارها، وكل تفاصيلها، إلى جانب الخبراء والفقهاء الدستوريين. الوضوح في الهندسة الدستورية؛ من حيث الديباجة والأبواب والمداخل والفصول والفقرات والعناوين وعلامات الترقيم والفهرس ووضوح الخطوط والكتابة وتجنب الإحالات والأخطاء المطبعية، واعتماد تقنيات حديثة في التأليف لتسهيل الإطلاع وجذب القارئ. الوضوح في توزيع وتنظيم الصلاحيات وفي فصل السلط أفقيا وعموديا محليا وجهويا ووطنيا، في مستويات المسؤولية والسلطة من أعلى الهرم إلى أسفله، وفي جميع المجالات والقطاعات المهنية والخدماتية والإدارية، دون الإغراق في التعابير التي قد تأخذ فهما وتفسيرا وتأويلا مختلفا ومتعددا. الوضوح يقتضي عدم ترك الفرصة للمراوغة والمناورة والتملص والتنصل، وعدم ترك الفراغات الدستورية لكي لا يكون الباب مشرعا لكل من هب ودب. الوضوح يقتضي البساطة في الوضع لتسهيل التناول والشرح لكي يطلع عليه الجميع. الوضوح يستوجب وضع ملحق للدستور باللهجات أو اللغات الوطنية والمحلية، وإما في أقراص مدمجة، أو على شكل شريط سماعي، أو اعتماد برامج تلفزية أو إذاعية لشرحه المبسط لجميع فئات وطبقات المواطنين عبر تقديم أمثلة ونماذج تبسيطية و مجسمات إذا اقتضى الحال. الوضوح في تحديد القوانين المنظمة للآليات والمواد الدستورية وبكل تفاصيلها مع مراعاة نفس شروط الوضوح التي تحدثت عنها آنفا. الوضوح في إمكانيات وحالات التعديل والمراجعة، على اعتبار الخطأ والنقص الذي يعتري العقل البشري لعدم قدرته على الإلمام بكل الأمور. الوضوح في الهوية والمرجعية والخلفيات والمنطلقات. الوضوح يقتضي الحوار والصراحة والمصارحة ثم المصالحة، ووضع جميع النقاط والإشكاليات والآليات الممكنة المتاحة لإنجاح البناء الدستوري الذي يعني بناء الدولة أرضا وحكومة وشعبا، بعيدا عن الكذب والغش، وتجنب المكيافيلة في التعامل والممارسة والفعل والقول. الوضوح يقتضي إشراك الجميع دون تمييز ولا استثناء ولا إقصاء سواء من حيث الوضع والنقاش والانتقاد، والإضافة والمتابعة والتنبيه، وحق الوصول إلى المعلومة. الوضوح يستوجب أخذ الوقت الكافي دون العجلة والتسرع حتى تتوفر وتستكمل جميع الشروط الذاتية والموضوعية التي تخول للأليات والمواد الدستورية الإنزال إلى حيز والتنفيذ والتطبيق. الوضوح في تحديد العراقيل والصعوبات التي قد تواجه الآليات والمواد أثناء التنفيذ الدستوري في جميع المستويات والمجالات وتحديد كيفية وصلاحيات ومسؤولية التدخل والمعالجة. الوضوح يقتضي العلنية أمام الملأ والمواطنين أجمعين بعيدا عن الكواليس والاختباء وراء أقنعة متلونة أو ستور بالية، وبدون خطوط حمراء أثناء البناء الدستوري. الوضوح يستوجب الابتعاد عن المزايدات السياسوية والصراعات والنقاشات الهامشية، الفارغة. الوضوح في أليات الرقابة والمحاسبة من حيث الصلاحيات والسلط والمسؤوليات والمهمات. وهذه المرتكزات تبقى حبرا على ورق إن لم تجد لها سبيلا إلى التطبيق الفعلي. وبناء عليه فأرى أنه من الضروري الإلحاح على تحري السبل الممكنة والمشروعة التي تحترم المتعارف عليه لمشاركة جميع المواطنين محليا وجهويا ووطنيا. كما أنه لابد من الوضوح في كليات وجزئيات وخصوصيات وعموميات وتفاصيل البناء والوضع والنقاش الدستوري. وإذا حصل العكس ضد ما طرح فأبشر بطول سلامة عمرو وبطول الفساد والاستبداد والاحتكار والإقصاء والظلم وغياب الحرية و الكرامة والعدالة الاجتماعية، ثم أبشر بكارثة ويأس وبؤس وهلاك إنساني أبدي... ولهذا فإنه يستلزم منا جميعا رفع شعار ومبدأ الوضوح أولا قبل وضع وصياغة وبناء الدستور لأي دولة كيفما كانت مع تحديد استراتيجيها الداخلية والخارجية حتى يكون الناس على بينة من أمرهم وحتى يتلافون مقولة : قرأت دستورا-مغربيا على سبيل المثال - فلم أجد فيه إلا شخصا واحدا.