أشرنا في مقال " كلمة المفتاح في أي تحول ديمقراطي حقيقي: مكافحة الفساد و الفصل الصارم بين التجارة والسلطان" إلى أن " ..بناء المستقبل يمر من بوابة بناء الحكم الصالح الرشيد و هذه المهمة الكبرى التي تنتظر شعوب المنطقة، لأن وقف نزيف الأمة و الحد من معاناة الشعوب، و حماية وحدة الأوطان، لن يتحقق دون حكم رشيد و دون القطيعة مع رموز الاستبداد و الفساد و الإفساد.." و هذا بنظرنا التحدي الأكبر الذي ينتظر كل مواطن عربي ، فمن دون الكفاح من أجل التحرر من الاستبداد و الطغاة لن تتحقق الكرامة و الحرية و لن تنجح أي تنمية، و دورة التخلف و التهميش و التفقير و التدمير الممنهج للحرث و النسل، سوف تستمر باستمرار رموز الحكم المستبد و الفاسد، و هدر الثروات و احتكارها من قبل القلة مستمر و يتسع يوما بعد يوم، و يكفي في هذا الشأن التساؤل عن ثروات الوطن العربي أي ذهبت و من إستحوذ عليها؟ أين ذهبت عائدات النفط و الغاز و الفوسفاط و الذهب و غيرها من الموارد الطبيعية المستنزفة و المهربة إلى الخارج …؟ فبدلا من توظيف هذه الثروات الطائلة في التأسيس لمجتمعات تحترم الإنسان وكرامته و حريته ،مجتمعات الاقتصاد فيها في خدمة الجماعة و غايته إشباع حاجيات الجميع و ليس اقتصاد القلة المسيطرة، مجتمع يكون الحكم فيه و التداول على السلطة بالاختيار الحر و النزيه من قبل عامة المسلمين، مجتمع لكل مواطنيه حتى أولئك الدين لا يدينون بدين الإسلام ، مجتمع تحركه عقيدة ورؤية حضارية عالمية، شعارها تلك العبارة الخالدة التي قالها ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس في معركة القادسية ، إذ قال :" نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام" … أصبحت هذه الثروات مصدرا للفساد و الإفساد و التدمير بدلا من البناء، و نصرة الباطل بدلا من دعم الحق، إعانة الطالح و إعاقة الصالح،و ليس في ذلك تجني على أحد فيكفي متابعة قضايا الفساد العابر للحدود، فقد أصبح من الشائع حضور قيادات بعض بلدان الخليج في قضايا الفساد، ففي ماليزيا تم الكشف عن الدور الذي لعبته السعودية والإمارات في قضايا الفساد التي تم إثارتها في عهد رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق ، إذ كشفت التحقيقات أن الرجل و بعض أقاربه تلقي رشى خارجية منها 681 مليون دولار من الأسرة المالكة بالسعودية، كما كشفت قضايا الفساد التي تورط فيها وزراء سابقون، ومسؤولون اقتصاديون جانبا آخر، لعلاقة ولي عهد أبوظبي "محمد بن زايد" وإخوته في تدمير التجربة الماليزية، وهو ما جعلهم بالوثائق مرتكبين لجرم و معرضين للمتابعة القضائية الماليزية… إذ كشف اتصال أجراه "نجيب عبد الرزاق" بولي عهد أبوظبي، و طلب منه بشكل صريح المساعدة في تهم غسل الأموال التي يواجهها ابن زوجته صانع الأفلام في هوليوود "رضا عزيز"، وذلك في أوج فضيحة الصندوق الماليزي السيادي العالمي، التي بدأت الولاياتالمتحدة التحقيق فيها منذ عام 2016… وفي الأيام القليلة الماضية تم الكشف مجددا على أن ملك إسبانيا السابق "خوان كارلوس" تلقى أموالا من ملك السعودية الراحل "عبد الله" ، وقد تم فتح تحقيق في ذلك مع ملك إسبانيا و أفراد أخرين من العائلة الحاكمة، الأمر الذي دفع بملك إسبانيا السابق إلى مغادرة البلاد ، خوفا من الملاحقة القضائية، لكن من يستطيع محاسبة حكامنا العرب الذين يتصرفون في أموال و ثروات شعوبهم كأنها ملك خاص لهم اكتسبوه بجهدهم و عرقهم متناسين أن هذه الثروات نعمة من الله يشترك فيها جميع المسلمين..و ليست حكرا على الحاكم و من يدور في فلكه..؟ فلو كان هؤلاء الحكام مقاولين أو تجار أو حتى مقامرين لا صلة لهم بالسياسة والشأن العام لما كلفنا نفسنا بالحديث عنهم ، أو السعي إلى محاسبتهم فهم أحرار فيما كسبوه و فيما ينفقونه.. الحقيقة أن غياب المساءلة و المحاسبة و غياب الحكم الرشيد سبب رئيس فيما نراه من تبذير لثروات الشعوب، و لعل هذا التبذير و الإسراف هو الذي دفع صندوق النقد الدولي إلى إصدار تقرير يحذر فيه البلدان النفطية أنها ستفقد ثرواتها النفطية بعد حوالي عقدين من هذا التاريخ،فأين تبخرت أموال الخليج ؟ و هل نجحت هذه البلدان في الخروج من دائرة الاقتصاد الريعي كما فعلت العديد من البلدان التي تتوفر على ثروات طبيعية؟..للأسف فالثروات النفطية العربية تنفق في الهدم و التدمير و الإفساد، و لم يتم توجيهها للبناء و التنمية و التعمير… فالأموال النفطية العربية أنفقت في تدمير أغلب بلدان العالم العربي و إعاقة تحرر الشعوب العربية، فبأموال الخليج دمرت سوريا و ليبيا و اليمن، و بأموال الخليج تم دعم الانقلاب العسكري في مصر و تمويل مشاريع السيسي الشخصية و الفئوية..و بأموال الخليج يبنى سد النهضة الذي يشكل أكبر تهديد لمصر و شعبها..و بنفس الأموال تم تدمير اليمن و تشريد هذا الشعب..و بأموال النفط تم تمويل الانقلاب على حكومة "أردوغان" في تركيا..و بأموال النفط تم تأجيج الفتنة الطائفية بين السنة و الشيعة في العراق و لبنان..و بأموال النفط تم الاتفاق على تمويل "صفقة العار" و تصفية القضية الفلسطينية، و التخلي عن القدس و حق اللاجئين و إقبار الحقوق الفلسطينية في أرض فلسطين لصالح الكيان الصهيوني المغتصب للأرض و العرض..بإيجاز أموال النفط تم استثمارها في تدمير الوطن العربي و خدمة المصالح الغربية التوسعية الإمبريالية… فأموال النفط أصبحت نقمة في ظل نظم سياسية حاكمة فاقدة للعقل و للحس الوطني و القومي و الديني، و تابعة و عميلة لمؤسسات الهيمنة الغربية ، و المشروع الامبريالي الغربي-الصهيوني الطامع في اغتصاب الشرق الإسلامي ونهب ثرواته و تغريب ثقافته، و قهر حضارته، ومسخ هويته.. فهذه الأنظمة امتداد لهذا المشروع و توظف الثروات الوطنية لخدمة أهدافه.. و بشكل عام، فإن العالم العربي غارق في مستنقع الفساد السياسي و الاقتصادي و الاستبداد و الطغيان السياسي،فلو طبقنا التجربة الماليزية أو الاسبانية او الأمريكية أو "الصهيونية حتى".. لكان حوالي 90 في المائة من مسئولي العالم العربي وراء القضبان، أو على أقل تقدير خارج نطاق دوائر السلطة… فالعالم العربي لا زال يعيش تحث رحمة الفساد، واحتكار السلطة و قمع الحريات المدنية والسياسية، هذا إلى جانب إتباع سياسات عمومية عرجاء لا تخضع لأي منطق عقلاني، فحالة الفقر و انسداد الأفق لدى أغلبية شباب المنطقة ليس نتاج لضعف الموارد كما يقول أصحاب الكراسي و المكاسب، فلو كانت البلاد العربية تعاني فعلا من ضعف الموارد لما اكتشفنا ملايير الدولارات تهرب سنويا إلى خارج حدود العالم العربي، و لما سمعنا بهذه الرشى و الهبات الممنوحة لمسؤوليين أجانب…في الوقت الذي تعاني فيه بلدان عربية من اتساع دوائر الفقر و التهميش…فالاختيارات التنموية و السياسية المتبعة في أغلب هذه البلاد لن تقود –حتما- لمستقبل أفضل و على الشعوب أن تدرك هذه الحقيقة حتى تتحرك صوب تغيير وجه السياسات و الاختيارات الفاشلة..و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون… إعلامي و أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..