وزارة العدل تعزز اللاّمركزية بتأسيس مديريات إقليمية لتحديث الإدارة القضائية        إسبانيا تعلن المناطق الأكثر تضررا بالفيضانات بمناطق "منكوبة"    وسط منافسة كبار الأندية الأوروبية… باريس سان جيرمان يتحرك لتأمين بقاء حكيمي    مقتل مغربيين في فيضانات إسبانيا    "أبحث عن أبي" عمل فني جديد لفرقة نادي الحسيمة للمسرح    ماء العينين: تجربة الإسلام السياسي بالمغرب ناجحة وحزب "العدالة والتنمية" أثبت أنه حالة وطنية    فيضانات إسبانيا.. الحكومة تستعد لإعلان المناطق المتضررة بشدة "مناطق منكوبة"    مصرع شاب جراء انقلاب سيارته بضواحي الحسيمة    خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    زنيبر يقدم التقرير الحقوقي الأممي    رئيس منتدى تشويسول إفريقيا للأعمال: المغرب فاعل رئيسي في تطوير الاستثمارات بإفريقيا    رويترز: قوات إسرائيلية تنزل في بلدة ساحلية لبنانية وتعتقل شخصا    المغرب يحبط 49 ألف محاولة للهجرة غير النظامية في ظرف 9 شهور    مسؤول سابق في منصة "تويتر" يهزم ماسك أمام القضاء    حزب الله يقصف الاستخبارات الإسرائيلية    أسعار السردين ترتفع من جديد بالأسواق المغربية    تكريم بسيدي قاسم يُسعد نجاة الوافي        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    هيئة: 110 مظاهرة ب 56 مدينة مغربية في جمعة "طوفان الأقصى" ال 56    نقابة إصلاح الإدارة تنضم لرافضي "مشروع قانون الإضراب"    مطار الناظور العروي: أزيد من 815 ألف مسافر عند متم شتنبر    بسبب غرامات الضمان الاجتماعي.. أرباب المقاهي والمطاعم يخرجون للاحتجاج    نيمار يغيب عن مباراتي البرازيل أمام فنزويلا وأوروغواي    الأمم المتحدة: الوضع بشمال غزة "كارثي" والجميع معرض لخطر الموت الوشيك    بهذه الطريقة سيتم القضاء على شغب الجماهير … حتى اللفظي منه    صدور أحكام بسجن المضاربين في الدقيق المدعم بالناظور    طنجة تستعد لاحتضان المنتدى الجهوي المدرسة-المقاولة    الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة طنجة تطوان الحسيمة تحصد 6 ميداليات في الجمنزياد العالمي المدرسي    فليك يضع شرطا لبيع أراوخو … فما رأي مسؤولي البارصا … !    نظرة على قوة هجوم برشلونة هذا الموسم    أنيس بلافريج يكتب: فلسطين.. الخط الفاصل بين النظامين العالميين القديم والجديد    هذه مستجدات إصلاح الضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية الوطنية    الجمعية المغربية للنقل الطرقي عبر القارات تعلق إضرابها.. وتعبر عن شكرها للتضامن الكبير للنقابات والجمعيات المهنية وتدخلات عامل إقليم الفحص أنجرة    الأسبوع الوطني التاسع للماء..تسليط الضوء على تجربة المغرب الرائدة في التدبير المندمج للمياه بأبيدجان    "الشجرة التي تخفي الغابة..إلياس سلفاتي يعود لطنجة بمعرض يحاكي الطبيعة والحلم    بدون دبلوم .. الحكومة تعترف بمهارات غير المتعلمين وتقرر إدماجهم بسوق الشغل    الفيضانات تتسبب في إلغاء جائزة فالنسيا الكبرى للموتو جي بي    قمة متكافئة بين سطاد المغربي ويوسفية برشيد المنبعث    "تسريب وثائق حماس".. الكشف عن مشتبه به و"تورط" محتمل لنتيناهو    الحكومة تقترح 14 مليار درهم لتنزيل خارطة التشغيل ضمن مشروع قانون المالية    مناخ الأعمال في الصناعة يعتبر "عاديا" بالنسبة ل72% من المقاولات (بنك المغرب)    نُشطاء يربطون حل إشكالية "الحريك" بإنهاء الوضع الاستعماري لسبتة ومليلية    "البذلة السوداء" تغيب عن المحاكم.. التصعيد يشل الجلسات وصناديق الأداء    الأميرة للا حسناء تدشن بقطر الجناح المغربي "دار المغرب"    منْ كَازا لمَرْسَايْ ! (من رواية لم تبدأ ولم تكتمل)    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    الأشعري يناقش الأدب والتغيير في الدرس الافتتاحي لصالون النبوغ المغربي بطنجة    "ماكدونالدز" تواجه أزمة صحية .. شرائح البصل وراء حالات التسمم    دراسة: الفئران الأفريقية تستخدم في مكافحة تهريب الحيوانات    ثمانية ملايين مصاب بالسل في أعلى عدد منذ بدء الرصد العالمي    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات في المشهد "الكوروني"
نشر في لكم يوم 11 - 06 - 2020

تستدعي منا الأزمة الصحية التي يمر منها العالم حاليا والناجمة عن جائحة كورونا، مجموعة من الملاحظات نعتبرها مساهمة في النقاش الدائر حول واقعنا الآني وتجليات بعض ملامح ما بعد كورونا. ولا يخامرني أدنى شك، كمواطن وباحث متجرد من أية دوافع سياسية أو مصلحية، بأن الجدال العلمي والفكري النابع بخصوص هذه الأزمة، سواء كانت طبيعية أو مصطنعة، سترهن مستقبل أجيال برمتها خصوصا على المستوي الاقتصادي والسياسي، وذلك ما يلزم التنبيه اليه قبل فوات الأوان.
لهذا سنحاول تجزئ هذا العرض إلى ثلاث مستويات: المستوي العلمي-الطبي والمستوى السياسي-الاجتماعي تم المستوى الثقافي-الحضاري.
المستوى العلمي-الطبي
لقد ابان فيروس كوفيد 19 المتجدد والمنحدر من سلالة فيروسات كورونا، عن خصوصية سرعة انتشاره وعدم ظهور اعراضه بالضرورة، ومضاعفاته الوخيمة بين كبار السن وذوي الأمراض المزمنة. لذا يؤكد الأطباء والمختصون أمام غياب أي علاج يقيني، على ضرورة الالتزام بالحجر الصحي الذي تباينت مظاهر الانضباط له من بلد لآخر بل ومن منطقة لأخرى في نفس البلد. لكن ما يثير الاهتمام في هذا الشأن هو البحث عن تفسير للتضارب الكبير بين المتخصصين في تحديد طبيعة الوباء وكيفية انتشاره ومدى حدة نتائجه الوخيمة على صحة الانسان.
هناك مقولة ل"باشلار" مفادها أن "ليست هناك حقائق أولى بل هناك فقط أخطاء أولى"، بمعنى ألا وجود لأية حقيقة مطلقة عدا الموت، إذ لا يختلف حوله إثنان مهما تعددت أجناسهم ولغاتهم ومعتقداتهم. فمن الثابت أن القواعد العلمية نفسها، طبقا لنظرية النسبية، لا تنعت بالمطلقة لأن أسس إسدال صفة العلمية عليها هي مسألة منهجية تعتمد التجارب المخبرية ولا تومن بالاعتقادات الغيبية، كما هو شأن الديانات التي تقوم على الإيمان ولا شيء غير الإيمان. نفس القياس تتحدد به القواعد الفلسفية التي ترتكز على سلطة العقل أولا وأخيرا. كل هذا لا يلغي طبعا الإختلاف. وعليه فالإختلاف بين الأطباء والباحثين بخصوص أي اكتشاف يتعلق بالمرض أو الأوبئة أو العلاج، ليس مرده أليا لقصور في المعرفة، بقدر ما يعود إلى اختلاف في التخصص والمناهج. وتاريخ البحوث العلمية يشهد على محنة المبتكرين في شتى المجالات تعود إلى عوامل سوسيوثقافية أكثر منها علمية محضة. لنتذكر أن اللقاح المبتكر من طرف باستور ضد داء الكلب لقي مقاومة شرسة في فرنسا وخارجها على اعتبار أنه مكون من خلايا حيوانية تزرع في جسم الإنسان السليم، فيما طعن فيه رجالات الدين كتدخل في إٍرادة الله. إلا أن ما يحدث اليوم هو انتقال الخلاف الطبي من دائرة الباحثين في البيولوجيا وعلم الأحياء إلى حلبة الصراع الإعلامي، مما سمح لفئة من "الخبراء من غير ذوي الاختصاص" لتنتحل صفة منتجي الرأي والأفكار في المجال.
والغريب في الأمر هو النفخ والتهويل في خطورة هذا الوباء الذي انتهجته بطريقة غير مسبوقة وسائل الاعلام، في حين أن العالم قد عاش أوبئة لا تقل ضراوة وخطورة. إن جردا سريعا لمخلفات بعض الأوبئة قد تفيدنا في إدراك محدودية كوفيد 19 من حيث عدد الوفيات. فقد تسبب خلال القرن الرابع عشر ما سمي بالطاعون الأسود في هلاك خمسين مليون من ساكنة أوربا، ساعد في اتساع رقعته الغزو الاستعماري والحروب الصليبية، علاوة علي توسع شبكة التبادل التجاري والعمران، فيما خلف الجدري ومرض الحصبة في القرن السادس عشر وفاة أكثر من 90 مليون من الساكنة الأصليين في أمريكا الجنوبية. أما الكوليرا التي ميزت القرن التاسع عشر فقد انتشرت في الهند وأروبا وحوض البحر المتوسط، وحصدت ما يناهز أربعين مليون من الأرواح. نفس الشيء حصل في بداية القرن العشرين مع فيروس أنفلونزا الطيور الذي يمتلك قدرة فائقة في تغيير بنية البروتينات التي تنتج باستمرار أجساما مضادة قابلة للتأقلم وإفقاد جهاز المناعة فاعليته. أما السيدا أو فيروس فقدان المناعة المكتسب الذي اكتشف في ثمانينيات القرن الماضي، فقد خلف من الوفيات الإجمالية حوالي 36 مليون نسمة. غير أن خاصية فيروس كورونا يِؤكد عموم الأطباء هو سرعة العدوى وصعوبة معرفتها مما حتم في نظرهم ضرورة تطبيق الحجر الصحي.
وبعيدا عن أي إيحاء لنظرية المؤامرة، فإن هناك عدة احتمالات تطفو من خلال الجدال القائم بين الباحثين والمختصين تؤشر على وجود فريقين: فريق يرى أن فيروس كورونا المتجدد ظاهرة طبيعية نجمت عن تطور فيروس سارس، والثانية تؤكد أنه معدل أو على الأقل لا تلغي تدخل العنصر البشري في بروزه. لكن هذا الصراع العلمي، وفي انتظار ما ستسفر عنه الدراسات الحالية من أجل التحقق الإنساني، يرسم علامات استفهام مشروعة حول مدى ترابط العلمي بالسياسي في ظل النموذج الرأسمالي المشتق من اقتصاد السوق الليبرالي-الراديكالي المهيمن الذي يطمح إلى الكونية عبر فرض نظام أوحد لا يعترف باستقلالية الدول والشعوب. وهذا النموذج للديمقراطية الكونية ينتهي إلي نفي الديمقراطية حسب "ديفيد هيلد" ليحل محلها استبداد الأقلية بالأكثرية والعالم المتقدم بالعالم المتخلف. ولقد كرست إلى حد بعيد في اعتقادي جائحة كورونا هذا المنطق من خلال الحملة المناهضة للبروفيسور الفرنسي المارسيلي "ديديي راوولت" من طرف النخبة "الباريسية"، علما أنه دعا الى اعتماد الكلوروكين الذي أبان عن نجاعته في الحد من انتشار الفيروس الى حين اكتشاف لقاح نهائي عوض إرغام الجميع على الخضوع مرغمين للحجر الصحي، كما أنه لا أحد أتى بالدليل القاطع على أخطار مضاعفاته. وقد كان المغرب من بين الدول الني فطنت مبكرا لخطورة المكوث في غرفة الانتظار، فسارع الى اتباع خطى "البروفيسور راوولت"، بل أكثر من هذا جند آلياته الصناعية لإنتاج الأقنعة الطبية الواقية فجنب البلاد كارثة تفشي الوباء.
المستوي الاجتماعي والسياسي
لقد علمنا التاريخ أن الصدمات البيئية والكوارث الطبيعية لا تمر دون تأثير على البنيات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية. وإذا كان من السابق لأوانه المسك بكل تداعيات ما بعد جائحة كورونا، فمن الجلي أنها خلقت شرخا في منظومة الاقتصاد الرأسمالي سواء في الدول الديمقراطية أو في غيرها. ولا أدل على ذلك من كون جميع الحكومات، قد توحدت، ولو بدرجات متفاوتة، في اتخاد نفس التدابير الوقائية في مواجهة الوباء، كالحجر الصحي وفرض الأقنعة والتزام التباعد الصحي وإغلاق الحدود… بالمقابل لوحظ انجراف في التدابير الظرفية التي تسمح بها المنظومة الدولية لحقوق الانسان فيما يتعلق بتقييد بعض الحريات إلى ممارسات استبيحت فيها كل أشكال العنف وأحيت الغرائز العنصرية لدى السلطات الأمنية بلغت ذروتها في مدينة "مينابوليس" ولاية مينيسوتا بالولايات الأمريكية باغتيال المواطن دي الأصول الإفريقية "جورج فلويد" خنقا من طرف عناصر الشرطة. ولقد سبق أن عبر "كينيت روت"، المدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايت ووتش في ندوة منشورة بمجلة "فورين بوليسي" تحت عنوان "رؤى غربية لمستقبل أنظمة الحكم بعد وباء كورونا"، عن تخوفاته من استغلال الظرفية الحالية من طرف بعض الحكومات لإضفاء طابع الديمومة عليها بغية تجميد كل الانتقادات والانتفاضات المحتملة من طرف الشعب أو المعارضة السياسية. من الملاحظ أيضا أن الحجر الصحي قد اتخذ في معظم الدول طابعا زجريا أكثر منه رضائيا باستثناء جل الدول الأوربية. أما في المغرب ففقد فرضت الحكومة الحجر منذ التاسع عشر من شهر مارس وحددت نهايته في العاشر من يونيو دون إنهاء حالة الطوارئ والرقابة على حرية الأفراد في السفر والتنقل. وبذلك يكون المغاربة حسب بعض المحللين قد قضوا ما يقارب ثلاثة أشهر تحت الحجر، متجاوزين بذلك حتى الدول التي كانت فيها مضاعفات الوباء أكثر انتشارا وأشد خطورة كإيطاليا وفرنسا واسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية. أكثر من هذا فحسب تحقيق أنجزته المندوبية السامية للتخطيط في الفترة الممتدة من 14 إلى 23 أبريل 2020 لدى عينة تمثيلية مكونة من 2350 أسرة تنتمي لمختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية للسكان المغاربة حسب الإقامة (حضري وقروي)، فإن %34 من العائلات المغربية تقيدت بالحجر الذاتي حتى قبل تطبيق حالة الطوارئ الصحية، فيما التحقت بها % 54 بعد دخوله حيز التنفيذ و%11 منذ صدور مرسوم القانون المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية.
ويبذو أن هذه الاستراتيجية الاستباقية التي نوهت بها العديد من الدول، كانت ضرورية وطبيعية أمام هشاشة الهياكل الاستشفائية وانعدام البنية الصحية فيما يخص الطاقم الطبي (هناك فقط 92000 طبيب في القطاع العام أي ما يعادل 2,3% مقابل 10000 ساكنة) والأسرة الكافية لاحتواء عدد المصابين والمرضى (هناك فقط 1800 سرير للإنعاش في مجموع التراب الوطني).
كل هذا يؤشر على أنه رغم أهمية بعض التدابير الإيجابية المتخذة على مستوى هرم السلطة، فإن ما ساهم بشكل كبير في تنزيلها هو روح التضامن والتكافل اللذان يشكلان رافدين متلازمين في تقاليد الشعب المغربي، إد أن ظروف الحجر الصعبة أمام تدني المستوي المعيشي وضعف الوعي الجماعي لدى أغلبية المحجورين، لا تستبعد ردود الفعل الغاضبة والمتمردة في أسوا الأحوال.
المستوي الثقافي والحضاري
سيسدل الستار على هذا الوباء لأن الطبيعة لا تعرف الجمود وسوف يلح علينا السؤال الذي ما فتئ يتردد على لسان العديد من المفكرين ورجال السياسة: وماذا بعد كورونا؟ لكن لو نظرنا إلى الأمور بمنظار الطامحين للتغيير، سيجد حتما مشروعيته اعتبارا لكونه، وعلى خلاف باقي الأوبئة، قد كسر العديد من المسلمات واليقينيات حول صلابة النظام الاقتصادي المهيمن وذلك لعدة عوامل:
– العامل الأول كونه ترافق مع العولمة التي سمحت بتنقله عبر بقاع العالم مستمدة قوته من سلاسة تنقل الأموال والبضائع بفضل سهولة الولوج إلى الوسائط التواصلية الرقمية. فخلال بضعة أسابيع تجسد الفيروس في هيئة محارب بيولوجي لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا بالتمايز الطبقي أو العرقي أو اللغوي. ولا جدال في أن هذه الوسائط وأمام فقر المعرفة العلمية بالوباء قد لعبت دورا كبيرا في تملك ونشر المعلومة وتحوير مضامينها وفق رغبة مستعمليها اليقينية. لكن من فرط حماسها لم تعد تميز بين الخبر والتعليق، لا فرق في ذلك أحيانا بين القنوات العمومية أو القنوات الخاصة لأهداف سياسية أو تجارية، فتغلغل سوء الفهم وانتصر الجشع والتمويه على حساب المعرفة، فاحتلت الأخبار الزائفة الساعية إلى الرفع من وثيرة المشاهدة الحيز الأكبر في شبكة برامجها. فكان ذلك من أسباب التهويل والتخويف الذي عم الساكنة في أرجاء العالم…وتتجلى إحدى أبرز مخلفات هذا التوجه صعود الشعبوية والعنصرية في الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي أذكى زنادها سوء تدبير الجائحة من لدن رئيسها.
-العامل الثاني يتجلى في سقوط منطق الأحادية القطبية وتهاوي النظريات الفلسفية حول نهاية التاريخ، ذلك أن فرضية صراع الحضارات التي نالت حظا وافرا من الاهتمام منذ صدور كتاب "صامويل هنتنغتون"، ودون الغوص في ثناياها النظرية، لم تصمد كثيرا بدورها لأن نواتها تأسست على التعارض المطلق بين الثقافة والدين، وبالأخص الإسلام، جاعلة منه العقبة الكأداء أمام تطور العلوم وتحقيق أصول العولمة الهادفة الى خلق "الانسان الكوني" ، المتجرد من أي انتماء عرقي أو ديني أو قومي أو لغوي… وهي فكرة طالما روجها وأفصح عنها عدد من المفكرين على غرار "[رنست رينان" الذي قال في معرض سجاله مع جمال الدين الأفغاني بأن "ما يميز المسلم في جوهره هو الحقد على العلم، وايمانه بان البحث عديم الجدوى وباطل ويكاد يكون كفرا لأنه منافسة للإله"
واليوم بعد مضي عشرين سنة على أطروحة "هنتنغتون"، فقد أكدت جائحة كورونا محدودية هذا الطرح الذي لم يميز كثيرا بين التفافة والحضارة وانشغل بحاضر الأخر في تجاهل تام للبيئة والتاريخ. لقد كشفت عن المستور في شعار العولمة وأنها لم تعد سوى محاولة للتوسيع دائرة القيم الثقافية الأمريكية، مستفيدة من جميع وأحدث وتساءل الاتصال والاعلام كالأنترنيت، لتوطيد دعائم ريادتها في العالم. ولا أدل على هذا من توجيه رحى صراعها التقليدي ضد العدو الإسلامي نحو عدو جديد يحلق في الأفق: الصين المنافس الأول حاليا على زعامة العالم. فمع الإعلان عن بداية كوفيد 19 في يوهان، تدفق سيل من الاتهامات المتبادلة بين البلدين عن مسؤولية انتشار الفيروس، في حين تمت الإشادة بتضحية الأطباء المسلمين الأربعة الذين كانوا أول ضحايا الفيروس في بريطانيا، فاستبدل خطاب "محور الشر" الذي كان ساريا على لسان "جورج بوش" بمقولة "الفيروس الصيني" عند "ترامب"، في وصف مباشر لها بحجب حقيقة الوباء، ومتهما في ذات الوقت المنظمات والمؤسسات المرتبطة بهيأة الأمم المتحدة، وعلى رأسها المنظمة العالمية للصحة بالتواطؤ، مما دفع الرئيس الأمريكي ترامب إلى حجب نصيب الولايات المتحدة من دعمها المادي للمنظمة.
-العامل الثالث يكمن في إعادة الاعتبار لسلطة العلم والمعرفة بدل هيمنة الإيديولوجية المتطرفة. بالطبع ليس غرضنا هنا استرجاع كل ما كتب حول التطور التاريخي للصراع الجدلي الذي عرفته حركة التنوير تحت تأثير موجة العقلانية في أوربا خلال القرنين الثامن والتاسع عشر والذي أفضي إلى سيطرة العلم في تفسير الظواهر الطبيعية ودراسة مسببات تغيرها بهدف تحقيق تقدم الحرية الفردية أو "العقل الذاتي" كما يسميه روادها خصوصا ديكارت وفخته وهيغل…. غير أن هذا التيار المنبثق عن إرادة حقيقية في إشاعة النزعة التنويرية في العلاقات المجتمعية، ما لبث أن اصطدم بواقع سيأسى حول التنوير إلى أداة للسيطرة والاستبداد على الطبيعة والانسان عن طريق البيروقراطية الإدارية والمؤسسات السياسية التي دأبت على تنميط الثقافة السائدة على صعيد الإعلام والتكوين. فانتفت فكرة استقلالية الفرد لفائدة النزعة الشمولية والرأسمالية المتوحشة التي شكلت النازية ذروة تجلياتها.
اما في العالم العربي والإسلامي المطبوع بسيطرة الديني على السياسي فإن الطابع العدائي للاستعمار الغربي زاد من حدة التصاقه بالموروث الديني خاصة وقد وظفته النخبة المثقفة سلاحا في معركة الاستقلال. الأمر الذي أسهم من الجانب الأخر في كبح كل جنوح نحو التغيير بدعوى التغريب والمس بالشريعة الإسلامية. وهكذا شهدت مصر أولى خطوات الانتكاسات الفكرية والعلمية عند نهاية القرن التاسع عشر بعد إبادة الحركات الإصلاحية ونشأة حركة الإخوان المسلمين، بعد إقامة جمهورية أتاتورك العلمانية في تركيا. والأدهى أن الزعامات الحاكمة وجدت في معركتها ضد هذه الجماعة ذريعة لبسط الاستبداد والديكتاتورية حتى بعد نهاية الاحتلال. أما الانتكاسة الأعظم فقد تجلت في بروز الإسلام السياسي عند متم العقد السابع من القرن العشرين حيث دخل العالم الإسلامي منذئذ في طور الإرهاب وفوضي الفتاوى والتي كان من نتائجها انتشار الفكر الوهابي التكفيري واحتكار فهم النصوص الدينية من طرف جماعات نصبت نفسها وصية على الفرد والمجتمع. لّذا صار كل طارئ طبيعي على مجرى الحياة عنوانا لغضب إلهي وعلامة من علامات الساعة. لنتذكر محاولة جماعة إسلامية الركوب على قرار السلطة المغربية بغلق المساجد والتزام التباعد الصحي بتجمعات ومسيرات جماهيرية منددة بالقرار ومستنكرة وجود الوباء تجوب شوارع مدينة طنجة. ولا شك أننا نقف هنا عند عتبة الجهل والدوغمائية الهوجاء الراكضة وراء كل حدث مهما قل شأنه لتحقيق الوجود. وكيفما كان الحال فمن حسنات هذا الوباء كونه جعل الإنسان محور العالم عوض الاقتصاد، وأعاذ إلى الأذهان أنه بالعلم والتعليم تسمو الشعوب وترقى الدول. ألم يكن هذا مخططا في برنامج التربية والتكوين الذي أفشلته الانتهازية السياسية والفكرية؟
إن الحداثة في جميع الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية تشترط تحييد الحياة الفردية والجماعية من كل القيود التي تلجم حرية الناس في التفكير والإبداع.
لا يعني هذا القول تجريد الإنسان من إيمانه ومعتقداته، لكن وجب علينا جميعا استخلاص الدرس من هذا الوباء، لا أن نتيه وراء الهوس بالنزعة الإيديولوجية الضيقة التي يجد أصحابها فيها دوما ملجأ لتبرير انتكاستهم الفكرية وقصور رؤياهم المستقبلية…
دكتور العلوم السياسية،وأستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني عين الشق الدار البيضاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.