بدا كل شيء وكأنه كان مرتبا مسبقا، مرتبا بعناية فائقة. لم يُترك أي مجال للترقب أو حتى للانتظار الذي عادة ما يفرضه البروتوكول الملكي، وتمليه التقاليد المرعية. مباشرة بعد إعلان فوز حميد شباط أمينا عاما للحزب أبرق الملك ل "الزعيم"ّ الجديد مهنئا. كلمات البرقية الملكية كانت مصكوكة بعناية بالغة، وما بين السطور حملت أكثر من معنى قابل للتأويل. من يعيد قراءة البرقية الملكية سيكتشف أنها لم تكن موجهة إلى شخص اسمه حميد شباط، وإنما لكل من يهمهم الأمر بلغة أهل المخزن عندما يكون الهدف هو "التعويم" من أجل التعميم. جاءت البرقية الملكية في وقت متأخر من الليل، ومباشرة بعد الإعلان عن فوز شباط، حتى ليبدو للمتابع أن ساعة مصير البلد كله كانت متوقفة على انتخاب أمين عام لحزب "الاستقلال". في حين أن انتخاب الأمين العام لهذا الحزب ظل معطلا منذ عدة أشهر، بل إن نفس الحزب بقي على رأسه وطيلة ثلاث ولايات متتاليات أمين عام ضعيف وبدون شخصية اسمه عباس الفاسي، لا يهش ولا ينش! ستذكره الأجيال المقبلة بفضيحة "النجاة" المأساوية. هل كان الديوان الملكي سيكون بنفس الفاعلية، ويتصرف بأقصى سرعة لو أن الأمر تعلق فعلا بأمر جلل؟ لقد انتظر نفس الديوان عدة ساعات وأحيانا عدة أيام قبل أن يبرق مهنئا انتخاب "زعامات" حزبية لا تقل شأنا بالنسبة للمخزن عن حزب يعتبر ابن "دار المخزن" هو "الاستقلال"، بل إن نفس الديوان تأخر عدة أيام قبل أن يبعث ببرقية تهنئته لأول امرأة مغربية تنتخب بطريقة ديمقراطية وشفافة على رأس حزب ذي مصداقية اسمه "الاشتراكي الموحد"، وظلت تلك البرقية سرية إلى يومنا هذا لم يسهر صحافيو الوكالة الرسمية حتى وقت متأخر من الليل ليبثوها كما فعلوا مع برقية تهنئة شباط، وطبعا لا أحد ينتظر، بما في ذلك حتى مناضلو حزب مثل "النهج الديمقراطي"، أن يتوصلوا ببرقية مماثلة حتى لو تأخر وصولها، وحتى لو كانت من باب المجاملة ورفع العتب! وبعيدا عن الحزازات السياسية وما تفرضه من اعتبارات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالشأن الحزبي الذي يفرض على المؤسسة الملكية أن تترفع عنه وأن تعامل الجميع على نفس القدر من المسافات. فقد سبق أن مر المغرب بلحظة أزمات عصيبة كان ينتظر أن يكون رد فعل الديوان الملكي بنفس السرعة التي صدرت بها برقية تهنئة شباط. لقد حدث ذلك إبان احتلال الأسطول الحربي الإسباني لجزيرة ليلي، وكلنا نتذكر الندوة الصحفية التي عقدها وزير الخارجية آنذاك محمد بنعيسي، وكشف خلالها أن وزيرة الخارجية الإسبانية آنذاك، أنا بلاسيو، اتصلت به قبل أن تصل بوارجها الحربية إلى الجزيرة لتنبهه إلى خطورة الموقف، وتلح على ضرورة سرعة اتخاذ قرار من الجانب المغربي، فرد عليها الوزير المغربي المسكين بقوله "نحن في الهزيع الأخير من الليل سيدتي ولا يمكنني أن أوقظ صاحب الجلالة من النوم!". أدى المغرب ثمن ذلك التأخر، إبان تلك الأزمة، غاليا، دبلوماسيا وسياسيا، وكاد يدخله في حرب لا تبقي ولا تدر. في حين رأينا كيف أن الديوان الملكي سهر الليل يناجي القمر ويتأمل النجوم على شاطئ بحر الصخيرات من أجل أن يبرق مهنئا شباط قبل بزوغ الفجر، فهل انتخاب شباط أهم من غزو جزيرة "ليلى"؟ من يعيد قراءة برقية تهنئة شباط، سيفهم الرسالة من تلك البرقية. فانتخاب شباط جاء مثل هدية من السماء في ليلة مباركة فتحت فيها أبواب السياسة لاستقبال "الوافد الجديد" الذي سيحمل معه "منافع كبيرة" للقصر و"إثما كبيرا" للسياسة. وإثمه أكبر من نفعه. فالقصر في حاجة إلى رجل مثل شباط، لمواجهة عبد الإله بنكيران. رجل بنفس شعبوية بنكيران، وقدرته التواصلية، وخلفه حزب له آلة انتخابية قادرة على منافسة ومحصارة المد المتعاظم لإسلاميي "العدالة والتنمية" الذي كان شباط نفسه يسميه "النذالة والتعمية". هذا المد الذي حاول القصر فيما سبق مواجهته بذراعه الحزبي "الأصالة والمعاصرة"، لكن مع هبوب رياح الربيع الديمقراطي، سقطت فزاعة القصر، مما اضطره إلى تقديم "تنازلات صغيرة"، لعل أكبرها هو وصول حزب إسلامي لأول مرة إلى رآسة الحكومة. وبعد أكثر من تسعة شهور على توليه رآسة الحكومة، وبالرغم من كل غزل بنكيران واعتذاره البئيس وتوسلاته الساعية إلى بناء الثقة مع القصر، إلا أنه لم ولن يفلح في كسب مودته. إن مشكل القصر ليس مع بنكيران كشخص أو حتى مع وزرائه أو مع بعض نوابه البرلمانيين الذين يمارسون بعض الفنتازيات اللغوية، وإنما مشكلته مع التيار الإسلامي الذي يمثله الحزب وتختزله مرجعيته، فمجرد وصول حزب ذي مرجعية إسلامية إلى رآسة الحكومة، ولو أنها رآسة بلا صلاحيات حقيقية، أيقظ الآمال العريضة لدى أصحاب نفس المرجعية من معتدلين ومتطرفين لتحقيق حلمهم كل كما يراه ويتصوره ويتخليه. وغذى الانتظارات الملحة لدى شرائح واسعة داخل المجتمع تحلم بالعدالة الاجتماعية التي يعد بها الخطاب السياسي الديني. الآن، ومع هدوء العاصفة في الشارع المغربي، يسعى القصر من جديد إلى استعادة آلة التحكم في المشهد السياسي، وضبط تصرفات وتحركات الفاعلين فيه. لذلك فوصول شخص مثل شباط إلى رآسة حزب وصفته البرقية الملكية ب "العتيد"، لم يكن أمرا غير منتظر وأبعد من ذلك لم يكن مفاجئا بالنسبة للسلطة. فلو لم يكن وصوله إلى رآسة الحزب في صالح أجندتها الخفية لكان من السهل عليها الحيلولة دون ذلك. ألم تتدخل نفس السلطة وبصفة مباشرة في منع شخص مثل مصطفى الرميد، لم تكن تثق فيه، من رآسة فريق حزبه البرلماني؟ ألم تضغط من أجل إزاحة شخص مستقل الفكر مثل أحمد الريسوني من رآسة حركة "التوحيد والإصلاح" ؟ ألم تنتقم أيضا من حسن الشامي الرئيس السابق للاتحاد العام لمقاولات المغرب عندما كشف المضايقات التي تلاحق صديقه إدريس جطو؟ ألم تخطط لانقلاب أبيض أزاح أمينا عاما مترهلا مثل مصطفى المنصوري ونصب مكانه مرشحها صلاح الدين مزوار لقيادة حزب يسمى جورا وبهتانا التجمع الوطني للأحرار، وما هو بالوطني وأصحابه أبعد من أن يكونوا أحرارا؟ ألم تساهم، نفس السلطة، في إضعاف قائد حزبي مثل محمد اليازغي لدفع رفاقه إلى الانقلاب عليه؟ ألم تقذف ب "قيادات" أحزاب صنعتها هي مثلما ترمى أوراق "الكلينيكس" بعدما تستنفذ مهمتها...تكرر ذلك مع عبد الله القادري، ونجيب الوزاني، والتهامي الخياري، ومحمود عرشان، وأسماء نكرة كثيرة لم يعد يتذكرها أي أحد... ألم تتنكر لخادمها الأوفى إدريس البصري الذي لفظته حتى صار مثل "كلب شريد"؟ (هذا الوصف هو من استعمله في مكالمة مع صاحب المقال عندما كان منفيا في باريس قبيل وفاته)...القائمة طويلة وبرميل قمامة السلطة بلا قاع... يصعب تصديق أن السلطة التزمت الحياد السلبي في انتخاب الأمين العام الجديد لحزب كان دائما حليفها. وهناك اليوم اتهام مباشر من مرشح الأمانة العامة للحزب عبد الواحد الفاسي، الذي اتهم "أياد خارجية" بالتدخل في آخر لحظة للضغط على أربعة قيادات داخل الحزب لحملها على التصويت لصالح خصمه. مع الأسف، عبد الواحد هذا، كغيره من أهل السياسة والأحزاب في المغرب، لا يمتلك الشجاعة ليسمي بوضوح تلك الأيادي تماما كما لا يمتلك بنكيران ولا إخوانه الشجاعة ليسموا "العفاريت" و"التماسيح" التي تصارعهم في الخفاء. فالسلطة التي تقدر قوة الالة الانتخابية لحزب مثل "الاستقلال"، وسط البوادي وبين الأعيان، وتقدر حاجتها إلى هذه الآلة لمواجهة الخطر الإسلامي القادم، هي في أمس الحاجة اليوم إلى حليف "وفي" و"مطيع"، تمسك بذراعه (ملفات أبنائه وربما أشياء أخرى لانعلمها)، وقادرة على ليّها متى شاءت لحمله على لعب دور "الواقي" و"الصمام" و"المهماز" و"القفاز"... وكل الأدوار التي ستملى عليه من فوق، حسب المواقف والظروف وما تفرضه الحاجة... سيناريو المستقبل بات واضحا. محاصرة حزب "العدالة والتنمية" من داخل وخارج الحكومة. ففي مناسبة تسلمه مهام رآسة الحزب من سلفه عباس الفاسي، حمل شباط على الحكومة وانتقد قرارها بالزيادة في الأسعار. كما أن أول لقاءاته الحزبية لم تكن مع حليفه في الإئتلاف الحكومي "العدالة والتنمية"، وإنما مع حزب "الاتحاد الاشتراكي" المحسوب على المعارضة والذي بات يقترب يوما بعد يوم من حزب "الأصالة والمعاصرة". هذه مجرد بداية. لذلك فلن ننتظر طويلا حتى نرى شباط يكرر نفس الدور "القذر" الذي كان يقوم به سلفه عباس الفاسي عندما كان ينتقد حكومة عبد الرحمن اليوسفي رغم أن حزبه كان مشاركا فيها. وإذا كان من يحرك آنذاك عباس الفاسي هي القيادات التاريخية الحزبه الغاضبة بعد "سرق" منهم حليفهم حزب "الاتحاد الاشتراكي" منصب الوزارة الأولى، فإن من له اليوم مصلحة في فشل حكومة بنكيران هو من سيدفع شباط إلى مهاجمته من داخل الحكومة ومن خارجها... اليوم حميد شباط على رآسة حزب "الاستقلال"، وغدا ربما يحل رجل مثل إدريس لشكر على رآسة "الاتحاد الاشتراكي". عندها ستتضح الصورة أكثر، ونبدأ نشهد عودة اللعبة من جديد إلى المربع الأول، مربع "الأصالة والمعاصرة" ذراع القصر الحزبية الذي يسعى إلى خنق السياسة قبل الإعلان عن موتها رسميا إن لم تكن فعلا قد ماتت سريريا... الحل هو الثورة...وهي قادمة لاريب فيها.