من الشعور بالملل عند الإنسان المنعزل الذي وصفه الفيلسوف بليز باسكال إلى فرحة العزلة عند شوبنهاور، مرورا بتجربة الحَجْر التي عاشها جان جاك روسو أو “الحلم السياسي للطاعون” و”العزلة الكبيرة” في كتابات ميشيل فوكو، تلتقي الفلسفة مع تجارب العزلة. يمكن للفلاسفة أن يعالجوا تجربة العزلة بطرق عديدة. من الشعور الذي لا يطاق بالملل من طرف الإنسان المنعزل في غرفته إلى الابتهاج بالعودة إلى العزلة، ثم توظيف العزلة من طرف الأجهزة السياسية وتحليل آثارها على النفس والجسم، يمكن للفلسفة أن تساعدنا على التفكير في العزلة ، هنا جولة غير شاملة في هذه الآفاق الفكرية حول العزلة.
من شقاء الإنسان عدم قدرته على تحمل الانعزال، مع بليز باسكال يكتب بليز باسكال: ” إن شقاء الإنسان يأتي من شيء واحد، وهو عدم قدرته على المكوث بدون عمل داخل غرفة “، من الصعب جداً أحياناً أن نبقى منعزلين دون أن نفعل أي شيء، ومن ثم أن تراودنا أفكار لم تكن لتلامس أذهاننا أبدا لو كنا منشغلين خارج البيت… ولتجنب هذه الوضعية نحاول أن نرفه عن أنفسنا فتصبح كل وسائل الترفيه مرحبا بها سواء كانت تافهة أو جادة. عندما يتحدث باسكال عن الترفيه ، فإنه لا يعني فقط أن نملأ وقت الفراغ ، ولكن محاولة التهرّب، وفقا للأصل اللاتيني لكلمة divertere ،التي تعني “التحول بعيدا”. فالترفيه هنا يشير إلى الأنشطة التي تسمح لنا بإغفال ما أصابنا وأن ننظر بعيدا عن مشاكل الوجود. يشرح باسكال الفكرة هكذا: “إن الإنسان عندما أخفق في مقاومة الموت والبؤس والجهل، انتبه إلى أن طريق السعادة هو أن لا يفكر في ذلك” لكن المكوث بين أربعة جدران ليس هو الحل لأنه لا يمكنك البقاء في البيت وأنت مسرور” ، كما يؤكد باسكال أن الفراغ لا يأتي بالسعادة بل يكشف عن النواقص: “لا شيء يؤذي الإنسان أكثر من الفراغ ومن الراحة الكاملة، بدون مشاعر و بدون عمل، لأن طبيعة الإنسان هكذا… ضعيف و بئيس وينتظره الموت يوما ما، وكل ما ينتجه الترفيه وملئُ الفراغ هو محاولة الهروب من هذا الواقع”. هل هذا الموقف يستحق الاستنكار ؟ ليس بالضرورة، لأنه يحمينا قليلا من اليأس: “إن الإنسان مهما كان حزيناً، إذا استطاع أن يستفيد من بعض وسائل الترفيه، فسيشعر بالسعادة خلال ذلك الوقت”. من ناحية أخرى، يجب أن نكون حذرين حتى لا نعتقد أن السعادة سوف تأتي من الترفيه وحده، لأنه من يكتفي بالترفيه بلا كلل سوف ينسى أن يعيش في الزمن الحاضر. كل هذا مثير للسخرية: الترفيه هو أصل عدم قدرة الإنسان على علاج الموت ، ولكن العلاج لتجنب التفكير في الأمر هو أيضًا أفضل طريقة للوصول إلى ذلك الأمر دون وعي ! هذه هي مفارقة الترفيه الباسكالي: “الشيء الوحيد الذي يواسينا عن مآسي الحياة هو الترفيه، ومع ذلك فهو أكبر مأساة نعيشها لأنه هو الذي يمنعنا أساسا من التفكير في أنفسنا، والذي يجعلنا نخرج منهزمين من المعركة ” يكتب الفيلسوف. [الترفيه. عندما بدأت أفكر في ما يشغل الناس من مخاطر وأحزان ، في القصور وفي الحروب ، وفي كثرة النزاعات والقرارات الجريئة والسيئة في كثير من الأحيان ، وجدت أن سوء حظ الإنسان يأتي من شيء واحد ، وهو عدم قدرته على تحمل الفراغ وهو منعزل داخل غرفة. إن الإنسان الذي لديه ما يكفي للعيش، إذا كان يعرف كيف يبقى في المنزل بسرور، لن يخرج للذهاب إلى البحر أو إلى السوق (…) ونحن لا نسعى إلى المحادثات والترفيه إلا لأننا لا نستطيع البقاء في المنزل بسرور. ولكن (…) بعد العثور على سبب كل مصائبنا، أردت أن أكتشف الأسباب، وجدت أن هناك سببا وجيها، يتمثل في سوء حظ طبيعتنا الضعيفة والفانية والبئيسة لدرجة أن لا شيء يمكن أن يريحنا عندما نفكر في هذه الطبيعة الإنسانية ولأن الملل يدفعنا إلى البحث عن شيء ما للتحرر من هذه الطبيعة ولكن الترفيه يشغلنا ويسلينا قليلا حتى نصل إلى نقطة الموت]. (بليز باسكاك “أفكار” ص 139) من السآمة إلى الخمول.. مع الفيلسوف سينيكا قبل باسكال، كان الفلاسفة الراقيون قد طوروا فكرة الترفيه هذه بمعنى مماثل. وفقا للفيلسوف الروماني سينيكا، الترفيه يشير إلى الصخب الذي لا فائدة فيه وكذلك إلى عمليات تحويل الانتباه العلاجية التي تسمح لنا قليلا بالتخلص من شرور الحياة ولو لبعض الوقت. في الرسالة المعنونة “هدوء الروح” يصف الفيلسوف الروماني آثار الحرمان من الترفيه الذي يشكل ما يمكن تسميته اليوم “الحياة النشطة”. [وهكذا، ما أن يحرم المرء من الترفيه الذي يستمتع به الناس المشغولون في صميم مهنتهم، لا يتحمل أن يمكث في بيته، وحيداً بين جدران الغرفة، و يجد صعوبة في العيش وحيدا مع نفسه ومن هنا ينشأ هذا الملل، هذا البغض الذاتي، هذه الزوبعة التي تعيشها النفس التي لا تستقر في أي مكان، هذا العجز المظلم عن تحمل الترفيه الذاتي خاصة عندما يخجل المرء نفسه من الاعتراف بأسباب هذا الاستياء (…) ومن هنا تأتي هذه الحالة الذهنية التي تدفع الإنسان إلى كراهية الترفيه والشكوى من عدم وجود ما يفعل](سينيكا، هدوء الروح بين صفحات 47 و62). قد يكون العزل الصحي مرتبطًا أيضًا في هذا النوع من الفكر بالتجربة التكفيرية والزهدية ، على شاكلة حياة الرهبانية. إن احتجاز الجسد بين الجدران يمكن أن يساعد النفس على استعادة حريتها من خلال السماح لها بأن تكون عاطلة عن العمل، في نوع من المنفى الداخلي الذي يفضي إلى النشاط التأملي: [قد ننظر إلى الإنسان الخامل وكأنه أصبح متحررا من كل القيود وتخلص من الخوف وأصبح يعيش لذاته وهي كلها امتيازات لا يعرفها إلا الحكماء. من الجميل أن يكون الإنسان ثابتا وحازما في قراراته وهو ما تجبره علينا المثابرة في الفراغ و عدم القيام بأي شيء ]. “رسائل سينيكا”،(63-64). تجربة العزل الصحي كما عاشها جان جاك روسو قبل أن يحلم في جولاته الانفرادية ، عاش جان جاك روسو فترة من الحجر الصحي. في شهر غشت1743، استقل الفيلسوف سفينة لتأخذه إلى مدينة البندقية، حيث تم استدعاؤه ليصبح سكرتيرًا للكونت مونتيغو، الذي عُين مؤخرًا سفيرًا لمدينة البندقية ولكن عندما وصل إلى ميناء جنوة، كان على السفينة أن تظل في الميناء بعد أن صدر مرسوم بقضي بتطبيق الحجر الصحي لاحتواء وباء الطاعون. فُعُرض عليه البقاء على متن السفينة أو الإقامة في فندق مخصص لاحتجاز الأشخاص الذين قد يكونوا مصابين بالمرض. “كان المكان مهترئا جدا وقد قيل لنا أننا لن نجد سوى الجدران الأربعة لأنهم لم يكن لديهم الوقت لتأثيثه”، كما دون في مذكراته ولكن، على عكس غالبية الطاقم الذي فضل البقاء في المرسى فإن روسو اختار الاستقرار هناك على أي حال حتى يعيش تجربة الحجر الصحي بكاملها! “في هذا الفندق بدون نوافذ أو أثاث كانت الأبواب الكبيرة ذات أقفال ضخمة مغلقة عليّ، فوقفت هناك، ليس من اختيار سوى المشي بسهولة من غرفة إلى غرفة ومن طابق إلى طابق، ولا أجد في كل مكان إلا نفس العزلة”. وقد كرّس بضعة أسطر لهذه المحنة في مذكراته (الكتاب الثاني، الفصل 7) وينبغي أن يقال إنها مغامرة وليست محنة، كما يبدو أن الفيلسوف قد عاش هذه اللحظة وهو يتسلى بين اصطياد القمّل وصناعة فراش مؤقت بقمصانه القديمة والذهاب للتجول في المقبرة القريبة ، وقد شعر روسو بنوع من الراحة “في هذا الفندق الفارغ تمامًا لم أكن أخشى من الوحدة ولم يسبق لي أن شعرت بالسآمة بل إن خيالي ملأ كل الفراغات وكان وحده كافيا ليشغلني”. (المذكرات ، الكتاب الثاني). إذا كان روسو قد تقمص شخصية روبنسون لبضعة أيام، فلا شك أن السبب هو أن التجربة كانت تشبه اللعبة (على عكس روبنسون بطل رواية دانيال ديفو، كانت تصله كل يوم وجبات الطعام!) وبعد أربعة عشر يوماً، خرج روسو من هذه التجربة بفضل تدخل السيد دي جوانفيل السفير الفرنسي في جنوة، الذي دعاه إلى البقاء معه في بيته: “لقد كان بيته أفضل من ذلك الفندق البئيس” كما كتب في المذكرات . [لقد كان ذلك في فترة الطاعون وجاء الأسطول الحربي الإنجليزي إلى الميناء وفتش سفينتنا . ثم أخضعنا لحوالي واحد وعشرين يوما من العزل عندما وصلنا إلى جنوة، بعد رحلة طويلة وشاقة . لقد نقلوني إلى فندق كبير من طابقين وعاري تمامًا ، حيث لم أجد لا نافذة ، ولا طاولة ، ولا سرير ، ولا كرسي ، ولا حتى درجا للصعود إلى غرفتي ، ولا حتى فراشا من التبن أنام فوقه ، فبدأت أتدبر أموري لتلك الأيام الواحدة والعشرين القادمة كما كنت سأفعل طوال حياتي. كان تلك أول مرة أجد فيها متعة صيد القمل التي اكتسحتني على متن السفينة ثم شرعت في تأثيث غرفتي فصنعت فراشاً جيداً من قمصاني ورتبت عشرات الكتب التي كانت معي لأصنع منها مكتبة وباختصار فقد أفلحت في ترتيب أموري بشكل جيد فكان مقامي سعيدا ومريحا باستثناء الستائر والنوافذ التي لم تكن من المستوى الجيد في ذلك الفندق …] (الاعترافات ، الكتاب الثاني ، الفصل السابع ، 1782). تساكن القنافد عند شوبنهاور في حكاية عن الحيوانات رواها في كتابه Parerga et Paralipomena) 1851) يروي آرثر شوبنهاور معضلة القنافذ في فصل الشتاء. عندما تكون معزولة، بعيدة عن بعضها البعض، تشعر هذه القوارض بالبرد ولكن عندما تتقارب للحصول على الدفء فإن كل واحد يؤذي جاره بأشواكه ومن ثم فإن حياة هذه الحيوانات تتأرجح بين العزلة الباردة و الدفئ غير السليم بسبب الاختلاط. بالنسبة لشوبنهاور، فإن مصير القنافذ يشبه “تناقض حاجياتنا الاجتماعية ” : من يقترب من الآخر تصيبه الأشواك ويشعر بالألم ونحن أيضا عندما نريد أن نغادر بيوتنا للاختلاط بالآخرين، فذلك بسبب “فراغ ورتابة حياتنا الداخلية”. وإذا أردنا أن نعود إلى عزلتنا، فلأن الحياة في المجتمع لا تخلو من مساوئ وأضرار ولذلك فإن الفيلسوف الألماني يوصي من يريد أن يبعد عناصر الشقاء عن حياته أن يحتفظ بالمسافة ويظل مهذبا ويحترم الأعراف في علاقاته لأن “محاولة الحصول على الدفء الاجتماعي لا تأتي إلا بنصف النتيجة وفي نفس الوقت لا يشعر المرء بلسعة الأشواك وجرحها !” إن غريزتنا الاجتماعية المرتبطة باعتمادنا الأصلي على الغير (الطفل لا يلبي وحده رغبات عيشه)، تدفعنا إلى الاجتماع بغيرنا ، ولكن صعوبات العيش المشترك التي تعرض هدوءنا للخطر هي التي تفصلنا. وهكذا فإن شوبنهاور يستخلص أن “الإنسان لا هو ذو طبيعة اجتماعية محضة ولا هو ميال إلى العزلة بشكل نهائي ومن وجد نفسه معزولا (وله ما يكفيه لتلبية احتياجاته الحيوية) فسوف يتذبذب مثل الرقاص أو البندول بين الملل والمعاناة”، لماذا ؟ لأن الإنسان لا يستطيع العيش بمفرده وفي نفس الوقت فهو في بعض الأحيان لا يستحمل رفقة رفقائه “الجميع يعلم أننا نخفف من الآلام والشرور عندما نعيشها بشكل جماعي، ومن بين الشرور هناك الملل ولذلك فالناس يفضلون الشعور بالملل ومقاومة الملل أيضا بشكل جماعي” . و يمكننا أيضًا قراءة هذه الخلاصة كنوع من النداء إلى العزلة، وشرطها هو قدرة الإنسان على الاستفادة منها كنوع من الاستئناس بنفسه بدل الاستئناس بغيره ولذلك فالفيلسوف يدعونا إلى الاهتمام بهذا “الرصيد الداخلي” من خلال قراءة ما أفرزته عقول العظماء والتأمل الجمالي (مثل الاستمتاع بالموسيقى ) ، وهو ما يمكنه أن يملأ “الفراغ الداخلي” و يساعدنا على تحمل العزلة و هذا الثناء على العزلة عند شوبنهاور يمشي جنبا إلى جنب مع مدح الحرية بوصفها السبيل الوحيد للحياة المستقلة. “أن تكون مكتفيا بذاتك، أن تكون كل شيء في كل شيء لنفسك، هذا هو بالتأكيد الشرط الأكثر ملاءمة لسعادتنا “، مقتطف من كتابه المأثور عن الحكمة في الحياة (1880 ). [في يوم بارد من فصل الشتاء تجمع حشد من القنافذ في مكان ضيق ليحصلو على الدفء من بعضهم ويقاوموا جميعا ذلك الصقيع بحرارة أجسامهم. ولكنهم على الفور شعروا بلسعات أشواكهم مما جعلهم يتباعدون عن بعضهم ولكن سرعان ما شعروا بالبرد من جديد فعاودوا الاقتراب مرة أخرى، وتكرر نفس المشهد عدة مرات وهم يتقاربون ويتباعدون حتى وجدوا أخيرا مسافة متوسطة تناسبهم وهكذا، فإن حاجة البشر إلى المجتمع الإنساني ، النابعة من فراغ ورتابة الحياة الداخلية، تدفع بني الإنسان نحو بعضهم البعض؛ ولكن عيوبهم التي لا تطاق تفرقهم مرة أخرى. ومتوسط المسافة التي يكتشفونها في نهاية المطاف والتي تصبح الحياة معها ممكنة هو السلوك المهذب والأخلاق الحميدة .وعبر هذه الوسيلة ، يمكن تلبية الرغبة في الدفء بنسبة النصف ولكن في نفس الوقت تختفي لسعات الأشواك]. (شوبنهاور ” النتاج والفضلات” 1851) “الحبس الكبير” عند ميشيل فوكو إن عزل الأشخاص وشل حركتهم في أماكن محددة، سواء كان العزل يشكل لهم مصدر معاناة أو رضخوا له عن طواعية فله دائما جانب سياسي. هذا ما أدركه ميشيل فوكو جيدا عندما أوضح أنه “يجب كتابة تاريخ كامل لفضاءات العزل لأنه سيكون في الوقت نفسه تاريخ السلطة”، وقد تناول هذا الفيلسوف العزل بالمعنى الحرفي للكلمة والمتمثل في وضع عدة أفراد في مكان محصور من أجل إبقائهم في حالة “أمان” أو تحت المراقبة. في عام 1975 ، وخلال استجوابه من طرف الصحفي جاك شانسل في برنامج Radioscopie مقتطف أعيد نشره في Les Chemins de la philosophie) ، أوضح ميشيل فوكو كيف أن هذا الفضاء العازل هو الذي وجّه تفكيره حول العلاقة بين الفضاء والسلطة: “انطلاقا من العزل ظهرت لي إحدى المسائل التي لم تتوقف عن مطاردتي وهي مسألة السلطة”، و في أطروحته “الجنون واللامعقول: تاريخ الجنون في العصر الوسيط” ، يوضح فوكو كيف بدأنا في القرن السابع عشر في الغرب نعتبر الجنون مرضًا يجب معالجته عن طريق الاعتقال. في العصور الوسطى وحتى عصر النهضة ، كان المجنون يتجول في الفضاءات الشعبية و يحضر في الأعمال الأدبية عند إراسموس، وكان إنشاء المستشفى العام في باريس عام 1656 هو بداية عصر “الحبس الكبير”: كان المجنون والمتشرد والجانح يجد نفسه معزولا وعليه أن يشتغل. في نهاية القرن الثامن عشر، حرر الطبيب النفسي فيليب بينيل الأفراد المقيدين بالسلاسل في مستشفى بيستر لكي يتم حبسهم بعيدا في مكان آخر ، ويبين فوكو أن وراء أسطورة الطبيب المحرر، بدأ اللجوء إلى العزل كوسيلة للتنميط الأخلاقي والاجتماعي حيث يراد إعادة تعليم المجانين، الذين يُعتبرون غير اجتماعيين، بوسائل قسرية: “إن المعزل الذي بدأ العمل به في العصر الوضعي و الذي اشتهر بينيل بتأسيسه، ليس مكاناً للمراقبة، إنه مكان أحكام قضائية يتم فيه اتهام المرء ومحاكمته وإدانته”. هذا الحبس “للمنحرفين” في أماكن مخصصة وبعيدة عن وسط المدينة يشهد على نقلة نوعية: “عند دراسة مختلف المشاريع المعمارية التي أعقبت الحريق الثاني لمستشفى Hôtel-Dieu”، يكتب ميشيل فوكو، “أدركت كيف أن مشكلة إمكانية الملاحظة الكاملة للأفراد والأشياء انطلاقا من نقطة مركزية، كانت واحدة من المبادئ التوجيهية الأكثر حضورا..” إن المجتمعات التي تمارس هذا النوع من الحبس بدأت تمارس نظاماً للاستبعاد والإدماج – الاعتقال أو السجن – ضد أي فرد لا يستوفي معاييرها النمطية، ومنذ ذلك الحين، استُبعد أفراد من دائرة المجتمع وأودِعوا في السجون. ولا يقتصر الغرض من الاعتقال على المعاقبة، بل أيضا فرض نمط معين من السلوك والقبول به بالإكراه وهو ما يعني الانصياع لقيم المجتمع وقبولها. كما تلعب حالة الأزمة الصحية دوراً في هذا الوصف لمجتمع المراقبة والترصد حيث يشرح فوكو العلاقة بين الإدارة السياسية لوباء ما مثل الطاعون وإنشاء نظام سياسي قسري يتضمن إعادة تشكيل الفضاء الحضري. وللقيام بذلك، فإنه يعتمد على التدابير الصحية والأمنية المتخذة في القرن السابع عشر عند تفشي الطاعون في المدن. وفي نفس الوقت الذي يُحظر فيه على السكان مغادرة منازلهم، هناك حبس عام يجمد الفضاء العام ويسمح بالمراقبة الواسعة النطاق: ولا تتحرك إلا التقارير التي تشير إلى “الاسم والسن والجنس، دون استثناء بسبب الظروف الخاصة “. وفقا لفوكو، كان هناك “حلم سياسي للطاعون” يسمح “بتغلغل السلطة الى أدق تفاصيل الحياة ومن خلال التسلسل الهرمي الكامل الذي يضمن وظيفة الاشتغال الدقيق لآليات السلطة والتسلط”. إن المدينة المنكوبة بالطاعون تخضع لاختراق من طرف هذا التسلسل الهرمي ولتشديد المراقبة والرصد وتدوين التقارير الكتابية، والمدينة المشلولة في ظل سلطة قاهرة تستغل الفرصة للتحكم في جميع الأفراد هي نموذج المدينة الخاضعة جيدا للسلطة السياسية والطاعون هو الاختبار الذي يمكن من خلاله تحديد ممارسة السلطة القسرية بشكل مثالي. وإذا كان أهل القانون والحقوق يعملون وفقا لنظرية الحالة الطبيعة وهي حالة وهمية فإن الحكام يحلمون بحالة الطاعون. في كتاب المراقبة والعقاب (1975) ، درس أنواعا معينة من العمارة التي كان هدفها حبس المحبوسين وفي نفس الوقت السماح برؤيتهم ومراقبة حركاتهم انطلاقا من نقطة معينة وهو ما يسمى معمار السجون أو الهندسة المعمارية الخاصة بالسجون وهنا اعتمد الفيلسوف فوكو على مفهوم البانوبتيسم الذي وضعه الفيلسوف البريطاني جيريمي بنثام (1785) حيث يظل المساجين وهم في مساحة مغلقة ، خاضعين لمراقبة الحارس المستمرة وهم قابع في مكان لا يستطيعون رؤيته. بدأت المجتمعات التي تمارس السجن تستعمل نظاماً للاستبعاد والإدماج – الاعتقال أو السجن – ضد كل فرد لا يستوفي هذه المعايير. ومنذ ذلك الحين، استُبعد بعض الأفراد من المجتمع ووضعوا في السجون ولا يقتصر الغرض من الاعتقال على العقوبة ، بل أيضا ً فرض نمط معين من السلوك وفرض قبولها بالإكراه وهي قيم المجتمع وأنماطه (عن ميشيل فوكو في مقابلة مع ج. أرملدر(1994). إن حالة الأزمة الصحية تلعب دوراً في هذا الوصف لمجتمع تغلب عليه المراقبة والترصد. يشرح فوكو العلاقة بين التدبير السياسي لوباء مثل الطاعون وإنشاء نظام تأديبي يتضمن إعادة تشكيل الفضاء الحضري. وللقيام بذلك، فإنه يعتمد على التدابير الصحية والأمنية المتخذة في القرن السابع عشر في حالة تفشي الطاعون في المدن. وفي نفس الوقت الذي تُحظر فيه مغادرة السكان لبيوتهم، يوجد هناك سجن عام يقلص الفضاء الممكن ويسمح بالمراقبة الواسعة النطاق لجميع السكان ولا تتنقل سوى التقارير التي تشير إلى “الاسم والسن و الجنس، دون استثناء حسب ظروف كل واحد”. وحسب فوكو، كان هناك “حلم سياسي للطاعون” يسمح ب[تغلغل السلطة وتنظيماتها ومراسيمها إلى أدق تفاصيل الحياة الإنسانية من خلال تسلسل هرمي متكامل يضمن القهر والاشتغال الدقيق لآليات السلط والمدينة المنكوبة التي يصيبها وباء الطاعون هي النموذج الأمثل الذي تحلم به السلطة لتوسيع هيمنتها وإذا كان أهل الحقوق والقانون يحلمون بالحالة الطبيعية والمنطقية لاحترام القانون فإن أهل السلطة يحلمون بقدوم وباء الطاعون لفرض السيطرة التامة على الناس]. (المراقبة والعقاب). * المصدر: فرانس كلتير * نقل النص إلى العربية: أحمد ابن الصديق