يرى الباحث والناقد المغربي سعيد يقطين أن “لا مصلحة للدولة المغربية في استغلال ما تحقق خلال الجائحة لفرض نقيض ما صارت تنتهجه وطنيا وعربيا وإفريقيا ودوليا. نأمل أن تعمل الدولة على إزالة هذه التخوفات بهدف إعادة الثقة، وضمان صيرورة جديدة من التحول الذي يستجيب لطموحات المواطن والوطن”. ويؤكد يقطين، الحائز على جائزة المغرب مرتين (89/97) وعضو اللجنة العلمية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، أن “استثمار الرأسمال الذي فجرته الجائحة، لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بترجمته على المستوى الواقعي، عبر سن قوانين جديدة، وإصدار مراسيم تنظيمية على أسس واقعية يلمس من خلالها الشعب، وكل مكونات المجتمع والدولة على أنها هناك مسارا جديدا تختطه الدولة على أساس المسؤولية والمحاسبة، وأن الوطن فوق الجميع، وأن مصلحته تعلو على أي مصلحة خاصة”.
ويأمل أن “تعمل الدولة على إزالة هذه التخوفات بهدف إعادة الثقة، وضمان صيرورة جديدة من التحول الذي يستجيب لطموحات المواطن والوطن”، وأن “بالإمكان الاستفادة مما جرى مع الجائحة لإعطاء الاستثناء المغربي بعدا آخر يقضي مع ذهنيات وتركات الماضي”. وفيما يلي نص الحوار: ماذا يعني لك الحجر الصحي؟ الحجر الصحي بالنسبة إلي لحظة تاريخية استثنائية يعيشها الإنسان في كل مكان من هذه الكرة الأرضية، وفي زمان واحد؟. هذا اتفاق عجيب يبين أن العالم فعلا قرية صغيرة. إذا كنا نتحدث منذ الألفية الجديدة عن القرية الصغيرة بمعان ودلالات مختلفة تذهب من النقيض إلى النقيض، صرنا الآن نعيش “القرية الصغيرة” التي مسها الوباء، غير مميز بين شمالها وجنوبها، برؤية موحدة، ونتحدث عنها جميعا بلغة واحدة أهم سماتها: الخوف والهلع، والأمل في إيجاد حل لها على المستوى العالمي، لأن أي بؤرة منها في أي بقعة في العالم، لا يمكن إلا أن ينفذ منها الوباء مرة أخرى. الحجر الصحي انزياح بليغ عن روتين حياة لم يتكرس فيها سوى التوتر والصراع والقلق الدائم واللهاث وراء الربح، والصراع على الهيمنة. ما الذي تمارسه في الحجر الصحي، وفيم تفكر؟ وهل من مشاريع تشتغل عليها؟ لم تتغير كثيرا طريقة تفكيري، ولا قراءاتي ولا مشاريعي التي أشتغل بها. كان هناك نوع من الاضطراب في البداية حيث كان اهتمامي منصبا على معرفة ما يجري عبر متابعة كل ما يصلنا، وما أبحث عنه بخصوص هذه الجائحة. قل اهتمامي الآن بالمتابعة، وإن كنت حريصا على التفكير فيما يمكن أن ينجم عما فرضه هذا الواقع الجديد من خلال المواكبة المستجدات المغربية والعربية والعالمية. إن اللحظات الكبرى، والمنعطفات الهامة تدفع في اتجاه البحث عما يمكن أن يكون ملائما للاستفادة منه بهدف التحول نحو الأحسن. أتابع قراءاتي، وإنجاز التزاماتي الكتابية التي كنت قد برمجتها قبل الجائحة. وبعد الانتهاء منها، سأعود للأبحاث والكتب التي خططت لها منذ مدة طويلة، وحالت الالتزامات الطارئة دون تحقيقها، لما تتطلبه من تركيز وصفاء ذهن، ووقت خاص مفرغ لها نهائيا. ما قراءتك لما يجري اليوم؟ أتعامل مع حدث فيروس كورونا من خلال ثلاث قراءات من مجالات معرفية مختلفة، ولكنها ترتد جميعا إلى قراءة مشتركة. هذه القراءات سردية ودينية وعلمية. تدفعني القراءة السردية إلى تأمل الحدث، وما يمكن أن تتولد عنه من أحداث، وما يتدخل فيها من فواعل وعوامل خاصة، مع التفكير في آفاق الانتظار التي يمكن الانتهاء إليها. إننا أمام قصة واقعية، بقدر ما كانت ممهدات أحداثها محفزة للخيال السردي، جعلت واقعيتها تسمو على كل ما كان يقدم من أي خيال إبداعي. ولقد جعلني هذا أبلور مفاهيم “العولمة السردية”، و”الرضة السردية” و”القوامة السردية” في علاقة بالخوف بصفته مقوما من بين أهم مقومات الإبداع الإنساني. أما القراءة الدينية فبينت لي أن العجز الإنساني أمام حدث يتصل بفيروس قلّب حياة البشرية رأسا على عقب تجسيد للغرور الإنساني، وأنه مهما ادعى قدرته على السيطرة على الطبيعة، وتسخيرها لفائدته، يبدو ضئيلا أمام السر الإلهي الذي ابتلى الإنسان بأدق الكائنات التي اصطنعها الإنسان نفسه، وهو يدعي أنه يحسن صنعا.تتصل القراءة العلمية بالدينية لأنها تكشف أن الإنسان الذي يطور إمكانياته لغزو الفضاء، والجري وراء اكتشاف عوالم أخرى عاجز عن معرفة ما يجتاح الإنسان من كوارث هو سببها. إن العجز العلمي أمام تحدي الفيروس دليل على الضعف الإنساني، وتأكيد أن المعرفة العلمية نسبية جدا، ومحدودة، مهما وصل بها الغرور الإنساني إلى أقصى الدرجات. تتضافر القراءات الثلاث في كونها تقدم لنا صورة جلية على أن الإنسان (الشخصية، الفاعل، العامل، القائم بالفعل)، سواء كان في موقع المسؤولية السياسية أو المالية أو العلمية أو مواطنا عاديا، لا يمكنه إلا يستشعر الخوف والهلع، أمام حدث أكبر هو الفيروس، وأن صراعه معه لا يمكن أن يتحقق إلا بتغيير الإنسان سلوكه الذي اعتاد عليه، والذي ظل يعتبره السلوك القويم تحقيقا لحلم أو أسطورة الإنسان “السوبرمان” الذي يتوهم أنه يمكن أن يعيش بدون إله، إن لم يصبح هو الإله نفسه. وما ممارسة الحجر الصحي عالميا، وتحت الإكراه رغم كل المحاولات التي استهانت بالحدث، سوى دليل على ذلك. لقد أبان الحدث على المستوى العلمي أن ممارسة البحث العلمي خدمة للهيمنة السياسية والمالية لا يمكنه أن يتجاوب مع المصلحة الإنسانية التي يدعو إليها الدين، وهو يكرم ابن آدم، ويدفعه إلى فعل الخير، لا الاقتصار على إنتاج ما يدمر الإنسان، ويقضي على محيطه البيئي. ما الأشياء التي كشفت عنها هاته الأزمة؟ كشفت لي هذه الأزمة أن الإنسان واحد، وموحد حين يواجه كارثة تهدد حياته أو مصلحته الخاصة، وأنه لا يختلف عن الإنسان الذي كان يعيش في الأزمنة الغابرة والحديثة. ولا فرق في ذلك بين مجتمعات الأغنياء والفقراء في العالم. وأن كل الأساطير التي بناها الإنسان المعاصر عن قدراته الفائقة، وما حققه من تطور تكنولوجي وعلمي، وما يحلم بإنجازه في علاقته بالفضاء الذي يعيش فيه، أو يسعى إلى معرفته، ليس سوى دليل على أن قدراته محدودة، وآفاق تفكيره موجهة لخدمة القيم غير الإنسانية. كما بينت لي أن المسارات التي يتحرك الإنسان في نطاقها تسير عكس توقعاته. لقد خلق فجوات وهوات واسعة بين الأمم والشعوب، وبين الدول وشعوبها. كما أنه وسع دائرة تدمير المجال البيئي الذي يعيش فيه الإنسان. منذ العصر الحديث الذي انبنى على العقل والعلم والتقنية، والإنسان ينأى بنفسه عن استعمال هذه الملكات، والأدوات، لخير البشرية. وما تساوي الهلع والخوف بدون تمييز بين الأمم الذي خطت خطوات جبارة في التقدم، والتي تلتمس السير على خطى غيرها لتكون لها المكانة نفسها، سوى تعبير على ما انتهى إليه الإنسان من طغيان وجبروت وصراعات دائمة. لكن هذا الجانب المأساوي لا ينبغي أن ينسينا أن استعمال العقل والعلم والتقنية ظل دائما، ويمكن أن يستمر في خدمة الإنسان ما لم ينحرف عن مساره الحقيقي، أو وهو ينحاز لصالح المتنفذين والراغبين في ممارسة الهيمنة العالمية، باسم الخوف من دمار الاقتصاد. من وجهة نظر الأديب، كيف تنظر إلى المستقبل لبناء مغرب جديد؟ عطفا على ما قدمته في الجواب السابق، كشفت لي هذه الجائحة أن بإمكان المغرب، مستقبلا، أن يكون أحسن مما هو عليه منذ الاستقلال إلى الآن. لا أحد يختلف حول السياقات والشروط التي تطور فيها المغرب، منذ ذلك التاريخ، والتي كانت تبرز فيها عوامل موضوعية وذاتية تعوق نموه، وتطوره الطبيعي. كما لا يمكننا نكران ما تحقق من منجزات هامة، بالمقارنة مع غيرنا من الدول التي نشترك معها في مقومات كثيرة، رغم كل تلك الإكراهات والعوائق. إن الأديب، ما دمت قد استعملت هذا المصطلح، والمفكر، والعالم والمواطن العادي لا يمكنهم سوى الحلم بمستقبل أفضل وأحسن. ويبدو لي مما جرى منذ بداية الجائحة أن المغرب تصرف بكيفية ملائمة، وأبانت الدولة على أن بإمكانها أن تكون في المستوى المطلوب، والمرغوب فيه، من لدن الشعب المغربي حتى بدون هذه الأزمة. لقد أحيت الجائحة “الرأسمال” المغربي الحقيقي الذي يتصل بحب الوطن، والعمل من أجل مصلحة الجميع عبر التضامن وتحمل المسؤولية. وظهر ذلك للعيان، وأشاد به الجميع سواء داخل المغرب أو خارجه. المستقبل الحقيقي للمغرب يكمن في استثمار هذا الرأسمال الذي فجرته الجائحة، ومواصلته عبر ممارسة النقد الذاتي، وبناء الثقة بين الدولة والشعب، وبين الحكومة والمعارضة، وبين المؤسسات المختلفة، الرسمية والشعبية، والمواطنين. ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بترجمته على المستوى الواقعي، عبر سن قوانين جديدة، وإصدار مراسيم تنظيمية على أسس واقعية يلمس من خلالها الشعب، وكل مكونات المجتمع والدولة على أنها هناك مسارا جديدا تختطه الدولة على أساس المسؤولية والمحاسبة، وأن الوطن فوق الجميع، وأن مصلحته تعلو على أي مصلحة خاصة. أنت من دعاة الاعتماد على الذات والتحرر من التبعية، لاستعادة الثقة وبناء الوطن. كيف يمكن أن يتم ذلك بعد زوال الأزمة؟ فعلا. كتبت معبرا على أن ما قدمه المغرب مع الجائحة كشف على أن المغرب يمكنه أن يعتمد على ذاته، وأنه قادر على خلق الثقة من جديد بين مختلف مكوناته من أجل التطور، وبناء جديد للوطن والمواطن، بمنأى عن التبعية لأي جهة كانت. إن ما أسميته “الرأسمال” المغربي له جذور تاريخية حقيقية تمتد لعدة قرون لا نجدها لدى الكثير من الدول التي تشكلت في الأزمنة الحديثة أو المعاصرة. كثيرا ما نتناسى هذا الرأسمال التاريخي والثقافي، في زخم الحياة، وما تفرضه السياسات وكثرة التصورات، فنتعامل، وكأننا ولدنا في حضن الاستعمار، وعلينا البقاء تحت “الحجر الاستعماري”، وإلا كنا ضحايا ما يفرضه علينا العالم المعاصر. لم نجن من التبعية سوى رهن تطورنا بما يفرضه علينا الآخر. وأي تطور مرهون بالآخر مقيد بشروط يفرضها عليك. ولا يمكن لهذا التقييد بشروط إلا أن يكون عائقا، بل عاملا ضد أي تحول أو تقدم حقيقي يكون لفائدة المغرب. إن المغرب بلد الإمكانات والطاقات التي في حال توظيفها على النحو المطلوب نستغني عن أي مساعدة أو دعم من الخارج. إن استعادة الثقة، والاعتماد على الذات، والمصالحة الوطنية، مقومات أساسية لفرض وجودنا على المستوى العالمي، والتعامل مع الآخر، أيا كان، بما يخدم مصلحتنا الوطنية، ويمكّننا من احتلال موقع هام عالميا، ما دام يبنى على ركيزة التفاعل الإيجابي مع ما يجري دوليا. يتحدث اليوم عن الاستثناء المغربي، لكن هناك أصواتا تتخوف من أن يستغل التضامن والتآزر لتمرر مواقف أو قرارات ضد الحقوق والحريات. ما تعليقك؟ لا غرابة أن يكون الحديث عن الاستثناء المغربي الآن. لقد بدا هذا الاستثناء بجلاء مع بداية الربيع العربي حيث تجنب المغرب ما وقع في بعض الدول العربية من كوارث ما يزال بعضها مستمرا إلى الآن.لا شك أن المسيرة لم تتواصل على النحو الذي كان يحلم به المغاربة، وأتصور أن بالإمكان الاستفادة مما جرى مع الجائحة لإعطاء الاستثناء المغربي بعدا آخر يقضي مع ذهنيات وتركات الماضي. إن المغرب اعتزم خوض تجربة جديدة في مجال التنمية، وذلك عبر اتخاذ قرارات تؤكد حرصه على مصلحة الوطن، هذا من جهة. كما أنه، من جهة أخرى، عمل منذ استعادة موقعه في إفريقيا، على أن تكون له فيها مكانة إيجابية وفعالة. هذا إلى جانب سعيه لتأكيد حضوره على المستوى الدولي بثقة وإصرار. كل ذلك، حسبي تصوري، يدفعه إلى ألا يتصرف بالكيفية التي تجعله يتراجع عن خطوات هامة أقدم عليها، وبدأت تؤتي ثمارها على مستويات عدة.لا مصلحة للدولة المغربية في استغلال ما تحقق خلال الجائحة لفرض نقيض ما صارت تنتهجه وطنيا وعربيا وإفريقيا ودوليا. نأمل أن تعمل الدولة على إزالة هذه التخوفات بهدف إعادة الثقة، وضمان صيرورة جديدة من التحول الذي يستجيب لطموحات المواطن والوطن. هل ستؤثر التجربة الحالية على مستقبل عيشنا المشترك؟ أتمنى أن يكون درس الجائحة مفيدا، وأن تتغير الذهنيات والعادات، لدى الأفراد، والجماعات، والمجتمع الدولي. إن مبلغ الضرر الذي لحق بالنظام البيئي، وباستعمال المبيدات، لم يضر فقط بالأرض، ولكن أيضا بصحة الإنسان. وعلى المستوى المغربي أرى أن الاعتماد على الذات واستعادة الثقة، والعمل من أجل المصلحة العامة لا يمكنه إلا أن يقدم تجربة ونموذجا جديدين ومتميزين يمكن أن يكون لهما أثر إيجابي على مستقبل الوطن العربي وإفريقيا، ويعطي المغرب موقعا هاما على المستوى العالمي.