بعد قرابة شهر على العزل الصحي، بدأت ألمانيا أمس الاثنين في تخفيف القيود المفروضة لمكافحة فيروس كورونا بشكل تدريجي، مؤشرة بذلك على نجاحها في احتواء الفيروس، في تجربة استثنائية على الصعيد الأوروبي أثارت المزيد من الاهتمام والتساؤلات، بالنظر إلى حصيلتها القليلة من الوفيات مقارنة بدول أوروبية مجاورة. وتكشف البيانات الصادرة عن معهد “روبرت كوخ” الألماني، تراجع معدل العدوى بين شخص وآخر، أو ما يعرف بمعدل استنساخ العدوى إلى 0.7، بعدما كان يصل إلى 3 في مارس الماضي.
كما سجلت ألمانيا معدل وفيات يصل إلى 3.2 في المائة، وهو أقل من المعدل العالمي الذي أعلنت عنه منظمة الصحة العالمية، والبالغ 3.4 في المائة. ويمثل معدل 3.2 في المائة فرقا ملحوظا عند مقارنته بالمعدلات المسجلة في بلدان أخرى، مثل بريطانيا (13.4 في المائة)، وإيطاليا (13.2 في المائة)، وفرنسا (12.7 في المائة)، وإسبانيا (10.6 في المائة)، وفقا لمعطيات مؤسسة (ستاتيستيكا). وقد صرح رئيس ديوان المستشارية، هيلغه براون، لإذاعة “برلين-براندنبورغ” أن فعالية الإجراءات المتخذة في مواجهة أزمة جائحة كورونا منحت ألمانيا تقديرا دوليا كبيرا، مضيفا أن هذا “نجاح ضخم يحسدنا عليه العالم بأكمله.. كثيرون من نظرائي على مستوى العالم يتصلون بي ويسألون: كيف حققتم ذلك؟”. ورغم هذا النجاح، ناشد براون المواطنين التحلي بالصبر والانضباط، مؤكدا أهمية عدم صعود منحنى الإصابات مجددا الآن حتى يمكن تعقب المصابين والمخالطين بهم. ويكمن سر نجاح ألمانيا في مواجهة فيروس كورونا في تحركها السريع للحد من العدوى ووضعها لأكبر برنامج للفحوصات على الصعيد الأوروبي، من خلال إجراء 350 ألف اختبار كل أسبوع، حيث تمكنت من الكشف المبكر عن الفيروس لعزل وعلاج المرضى بشكل فعال. وفي هذا الصدد، أوضح وزير الصحة الألماني، ينس شبان، أن بلاده أجرت فحوصا واختبارات تشخيصية خاصة بفيروس كورونا الجديد لحوالي 1.7 مليون شخص حتى الآن. كما تتوفر ألمانيا على أسرة العناية المركزة – أكثر مما تمتلكه بلدان أوروبية مجاورة، حيث كانت تتوفر على 28 ألف سرير قبل بداية أزمة كورونا-، ومنذ ذلك الحين ارتفع هذا العدد إلى 30 ألف سرير. وضاعفت ألمانيا، أيضا، من عدد أجهزة التنفس من 27 ألفا إلى 40 ألفا، والآن أصبحت حوالي 50 ألفا، وذلك لاستقبال أي طارئ وأي حالة قد تستجد، مع العلم أن نصف هذه الإمكانيات المتاحة غير مستغلة لحد الآن. وبعد أن بات فيروس كورونا المستجد “تحت السيطرة”، كما أعلن عن ذلك وزير الصحة الألماني، وذلك بفضل القيود التي تم فرضها بعد وقت قصير على ارتفاع عدد الإصابات، تستعد السلطات الألمانية لتخفيف الإجراءات وتسريع إنتاج الأقنعة الواقية مع إبقاء الحجر الصحي إلى غاية 3 ماي المقبل. وكخطوة أولى في هذا الإطار، تم أمس الاثنين إعادة فتح المتاجر الصغيرة التي تقل مساحتها عن 800 متر مربع، على الرغم من أن ولايات البلاد ال 16 اختارت فتحها بدرجات متفاوتة وفي أوقات مختلفة. كما تم السماح بإعادة فتح وكلاء تجارة السيارات، وتجار الدراجات، ومحلات بيع الكتب بجميع أحجامها، وكذلك حدائق الحيوانات في بعض الولايات. وستفتح المدارس أبوابها للتلاميذ الأكبر سنا من أجل الاستعداد للامتحانات في ساكسونيا وبرلين وبراندنبورغ. ومن المقرر أن تفتح ولايات أخرى المدارس في وقت لاحق هذا الأسبوع، مع انتظار البعض حتى أوائل ماي. ولمواكبة هذا التخفيف في إجراءات الحجر الصحي، توصي الحكومة بشدة بارتداء الأقنعة الواقية في المتاجر ووسائل النقل العمومي. وأكدت دراسة أعدتها مجموعة التفكير البريطانية “ديب نوولدج غروب” أن ألمانيا تعد البلد الأكثر أمانا في أوروبا في خضم أزمة جائحة كورونا، حيث احتلت المرتبة الثانية على المستوى العالمي، فيما لم يأت أي بلد أوروبي آخر ضمن عداد المراتب العشر الأولى. وقال ديمتري كامينسكي، مؤسس مجموعة التفكير لمجلة “شبيغل” الألمانية التي نشرت الدراسة، “على ضوء أعداد الإصابات المرتفعة في البداية، كانت ألمانيا في غاية الفعالية ونجحت في تقييد استمرار الانتشار السريع للجائحة، بحيث لا تصل إلى مستويات بلدان أخرى”. وأضاف أن ألمانيا ستتمتع بعد زوال الجائحة بمزايا اقتصادية هائلة، مشيرا إلى أن الشركات تبحث في مثل هذه الأوقات عن الأماكن الأكثر أمانا. وقد اعتمدت الدراسة على معطيات عدة، منها تاريخ البدء بإجراءات تقييد التجول، وعدد الخروقات له، وحجم إجراءات تقييد السفر، وعدد الفحوصات، ومستوى استعداد المشافي والعيادات. وفيما يخص ألمانيا، أشارت الدراسة على سبيل المثال إلى عمل خلايا إدارة أزمة كورونا والسرعة في تعبئة وحشد المساعدات اللازمة. وبالرغم من التقدم المحرز في الحد من الوباء، دعت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل مواطنيها إلى مواصلة الالتزام بأكبر قدر من الحذر في مواجهة أزمة كورونا رغم تراجع سلسلة العدوى. وقالت ميركل في أعقاب جلسة للمجلس الوزاري المعني بمكافحة الأزمة، أمس الاثنين، إنه لا ينبغي الاعتقاد “ولو لثانية واحدة” بأن الخطر قد زال. وأضافت أنه سيكون “أمرا مؤسفا للغاية أن نرى أنفسنا ونحن ننتكس”. معتبرة أن التدابير المشددة حققت الكثير، وأنها أوصلت عدد تكاثر سلاسل العدوى إلى أقل من 1. وتابعت ميركل أن عدد المتعافين زاد على عدد الإصابات الجديدة في بعض الأيام، لكنها قالت: “نحن في البداية ولا نزال بعيدين عن تجاوز الأسوأ”. وأظهرت بيانات معهد “روبرت كوخ” للأمراض المعدية، اليوم الثلاثاء، أن 95 ألفا و200 من مصابي كورونا تماثلوا للشفاء بزيادة 3700 عن أمس، فيما ارتفع عدد حالات الإصابة المؤكدة بواقع 1785، ليصل العدد الإجمالي إلى 143 ألفا و457 حالة. وارتفع عدد الوفيات بواقع 194 عن يوم أمس ليصل العدد الإجمالي للوفيات إلى 4598 حالة. ولئن كانت التوقعات الاقتصادية تبدو قاتمة في بلدان أوربية بسبب تداعيات جائحة كورونا، فإن المسؤولين الألمان يبدون متفائلين، إذ صرح وزير المالية الألماني أولاف شولتس، في مقابلة صحفية مؤخرا، أن ألمانيا ربما تتمكن من احتواء التأثير المالي لأزمة فيروس كورونا دون تجاوز مستويات الدين التي تمت الموافقة عليها، إذا تعافى الاقتصاد في النصف الثاني من العام. وكان البرلمان الألماني قد أقر ميزانية تكميلية يبلغ حجمها 156 مليار يورو، و100 مليار يورو لصندوق للاستقرار الاقتصادي، و100 مليار يورو في شكل ائتمانات لبنك تنمية القطاع العام، من أجل مكافحة تداعيات كورونا على الاقتصاد. وأضاف الوزير الألماني أن الحكومة ستنظر، أيضا، في توفير تحفيزات اقتصادية بعد نهاية الحجر الصحي الذي أدى إلى إغلاق الشركات وأبقى الناس في منازلهم. وقال شولتس “عندما يحين الوقت المناسب، سنتخذ إجراءات لتحفيز الأعمال مرة أخرى”، والتي “يجب أن تكون كما يتصورها الاقتصاديون – مستهدفة ومناسبة للغرض ومحدودة في الزمن.