رد صادم و مجنون ذلك الذي صدر عن دولاند ترامب, رئيس أقوى دولة في العالم. "لا نريد لدول أخرى أن تحصل على ما نحتاجه من أقنعة و لكم أن تسموا ما سيحصل بالإنتقام إن لم نأخذ ما نريد". هكذا رد الرئيس ترامب على آتهامات برلين للولايات المتحدةالأمريكية بكونها آستولت على مئتي ألف كمامة طبية بالعاصمة التايلندية، كانت قد اشترتها ألمانيا لمواجهة وباء كورونا. فرنسا أيضا تكشف عن طريق فاليريا بيكريس رئيس إقليم "إيل دو فرنوس"، بكون الأمريكيين حصلوا في الأنفاس الأخيرة على شحنة من الكمامات كانت قد طلبتها سلطات الإقليم، و ذلك بعدما ضاعف الأمريكيون المال للجهة المصنعة. و لم تقتصر "قرصنة الكمامات" على أمريكا وحدها، بل معظم الدول الكبرى تتنافس اليوم بشكل مجنون على الإستحواذ على أكبر عدد ممكن من الكمامات و الأجهزة الطبية، غير عابئة لا بالإتفاقات الدولية و لا القانون الدولي. و كأننا أمام فيلم هوليودي للحظات قبل نهاية العالم، و كل دولة تحاول إنقاذ نفسها و فقط، و ليذهب العالم إلى الجحيم. تصريح آخر مثير للرئيس ترامب في مؤتمر صحفي عقده مساء يوم السبت " أوبك لا تهمني على الإطلاق، إلا أنهم يدمرون أنفسهم"، لكنه أضاف أنه سيفعل ما يتعين عليه القيام به لحماية الاقتصاد الأمريكي. هكذا علق ترامب ببساطة غريبة على أزمة خانقة تهم أخطر مادة آستراتيجية في العالم "النفط" و أحد أهم المنظمات الدولية في العالم "أوبك". ألم تعد أمريكا تأبه بقيادة العالم؟ هل الأزمات التي تعصف بالعالم في مختلف المجالات منذ سنوات، آبتداءا بالأزمة المالية و آنتهاءا بجائحة فيروس كورونا، و هذه الفوضى العالمية في معالجتها سببه هو "آستقالة الولاياتالمتحدةالأمريكية عن إدارة النظام العالمي" و انغلاقها على نفسها، فأضحينا فجأة أمام عالم فوضوي، مبعثر القوى؟ أم أن الأمر عكس ذلك تماما؟؟ إن شعار الرئيس الأمريكي ترامب "أمريكا أولا" و الذي حمله إلى البيت الأبيض، يظهر نزعة الأمريكيين القديمة الجديدة لابتعاد بلادهم عن مشاكل العالم و عن الحروب، و يبدو كما أنها أضحت حقيقة. لذلك فقد آستغل فريق الحملة الانتخابية لدولاند ترامب هذه النفسية الأمريكية المتجذرة للظفر بقيادة واشنطن. لكن، هل يريد حقا صناع القرار الأمريكيون الإستغناء عن قوتهم و هيمنتهم العالمية، الطاغية على الساحة الدولية بكل مجالاتها (العسكرية، الاقتصادية، السياسية، الثقافية…)؟ أم أن الأمر مجرد تكتيك تمليه بعض الوقائع الدولية على رأسها "صعود الصين المخيف". الأكيد و الراسخ بشكل قطعي، أنه منذ سقوط جدار برلين، كل قرارات و سياسات الولاياتالمتحدةالأمريكية تهدف إلى غاية آستراتيجية وحيدة هي "حكم العالم و السيطرة عليه". أما شعار ترامب "أمريكا أولا" فما هو إلا تعبير مجازي عن مرحلة من مراحل الصراع الأمريكي- الصيني حول قيادة العالم. حيث تتظاهر بالتراجع و إعادة دفة العربة نحو مربطها من الداخل، لكن المتمعن في قرارات البيت الأبيض و تحركات مسؤوليها يكشف تناقض الخطاب و الفعل. نحن نعيش بالفعل مرحلة فارقة و خطيرة، تهدد العالم بأسره، حيث وصل صراع العملاقين الأمريكي و الصيني إلى أوجه، و يبدو أن أمريكا مستعدة لفعل أي شيء مقابل الحفاظ على مكانتها العالمية. في سبيل تعزيز مكانتها الدولية و ضمان هيمنتها، تبنت واشنطن عدة نظريات سياسية، أهمها "نظرية الدومينو" و التي تعني تدحرج النظم الاستبدادية، حيث حرصت عبر عشرات السنوات على السيطرة الكاملة أو النسبية على عدة مواقع في العالم لتفادي تدحرج المناطق المجاورة لها في يد من تراهم أعدائها. و هذا ما يفسر ما أعلن عنه الرئيس بوش الإبن " الاستقرار لم يعد يخدم المصالح الأمريكية". و هكذا توسعت أمركا في عهده في تبني نظرية الفوضى (كتفعيل لنظرية الدومينو) عبر مشروع الشرق الأوسط الجديد و الحرب على الإرهاب، لخلق حالة من الفوضى الخلاقة عالميا للتحقيق أهداف آستراتيجية. ثعلب خارجية الولاياتالمتحدةالأمريكية "هنري كيسنجر" يؤكد عبر صحيفة وول ستريت جورنال أن جائحة كورونا ستغير النظام العالمي للأبد. لا شك أن صناع القرار الأمريكيين يدركون ذلك منذ زمن، لكن العد العكسي بدأ.. لذلك أرى أن بلد العام سام، مر إلى مرحلة جديدة من الصراع، ربما بعد إستنفاذ آستراتيجيات سابقة. معظم ما نشهده اليوم من أحداث هو فقط تجسيد لنظرية أسميتها "نظرية قلب الطاولة", إنه المنطق الجديد في إدارة الصراع، حيث الهدف هو مفاجأة الخصم، و تخريب مكامن قوته، و شل حركته، و دفعه أخيرا للتفاوض. صحيح أن هناك جدل عالمي متزايد حول حقيقة فيروس كورونا، بين مناصري نظرية الصدفة و متبني نظرية المؤامرة. غير أن تضارب المعلومات و عدم وجود أدلة كافية، تجعل من الحكمة إتخاذ مركز الحياد المنطقي و الموضوعي. لكن، الإدارة العالمية لأزمة الجائحة بالمطلق غير بريئة و ليست بتلك العشوائية التي يراد أن تبدو لنا، بل إنها تختزل الكثير من التخطيط و تنبئ بعد عكسي لآنفجار شديد، ليشكل صدمة الولادة,، لنظام مجهول المعالم و الغايات… إنها لحظة فارقة، تحتم علينا كمجتمعات إنسانية، و كدول (بالأخص دول العالم الثالت)… ليس فقط الإنكباب على قراءة الواقع و التحليل المعمق رغم أهميته. بل يلزم علينا أن نمر إلى "الفعل و بسرعة". باحث في القانون الدولي و العلاقات الدولية