هل كانت القناة الأولى الفرنسية على صواب أم خطأ لمّا أقدمت على نشر مقطع من شريط صوتي يعرض مفاوضات محمد مراح مع بعض أفراد فرقة الإدارة المركزية للاستخبارات الداخلية ( la DCRI ) ؟ هذا هو السؤال الذي طرحته وسائلُ الإعلام الفرنسية مباشرة بعد اندلاع الجدل الحاد بين المؤيّدين والمعارضين ، وخصوصا بين أُسَر الضحايا والقناة الأولى التي بثت صوت مرتكب جرائم مونتوبون وتولوز الذي كان يتكلم – على ما يبدو - دون انفعال أو اضطراب أو خوف أو ندم أو تراجع ، ويعلن انتمائه للقاعدة ويتحدى قوات التدخل السريع المحيطة ببناية شقته المحاصَرة. لكن سرعان ما فرض سؤالٌ آخر نفسه : كيف تمكنت إدارة القناة الأولى من الحصول على وثيقة كان يُعتَقَدُ أنّها في حوزة العدالة ، مختومة ، وتخضع لحماية رسمية خاصة نظراً لقيمتها وأهمّيّتها في تسليط الأضواء على الحقائق والأسرار التي تحيط بملف محمّد مراح ؟ أمّا السؤال الآخر الذي يبدو لنا أنّه الأهم فله بكل بساطة علاقة بأهداف القناة الأولى من الإقبال على نشر وثيقة حساسة للغاية وتثير الكثير من الفضول والشكوك. وقد ذهبت أغلبية الآراء في هذا الصدد إلى اعتبار الأمر لا يتعدّى أن يكون مسألة بالأساس تسويقية وتجارية تعتمد في عرضها بضاعةً للبيع على وتر المشاعر والعواطف وكلّ وسائل الإغراء ، حتى لو كان المنتوجُ المقترَحُ على الشاري يحمل في طياته عناصرَ من شأنها المساس بالأخلاق أو اغتصاب الجانب النفسي والمعنوي في الحياة الشخصية والعائلية لِلْمُصابين بمأساة أخذت معها فلذاتِ كبدهم وأحبّتَهم المقرّبين . بعبارة أخرى ، لم تَشَأْ أغلبيّةُ الأطراف المجادِلة أن ترى في قضية النشر إلا انحرافا عن أخلاقيات الصحافة المهنية ... ولم تقف القناةُ الأولى مكتوفة الأيدي أمام هذه الإتهامات والانتقادات وردّت عليها بقولها – على لسان إيمانويل غاين وبالخصوص هاري روزلماك Harry Roselmack ، مُقدِّم برنامج " من سبعة إلى ثمان " – في إذاعة راديوEurope 1 : " إنّنا نفعل ما بوسعنا كي لا نلحق أيّ ضرر بالضحايا وأُسَرِهم ، لكن عملنا قبل كل شيء هو إخبار الناس ، ونعتقد أنّ الوثيقة التي نشرناها كانت لها قيمة إعلامية إضافية قوية " ( جريدة لوفيكارو ، 09-7-2012 ). والحالة هذه ، فإنه من السذاجة بمكان أن يقنتعَ المرءُ بتبريرات القناة الأولى لشرح ما أقدمت عليه ، إذ لا تقوى فكرةُ القيام بالواجب المهني القائم على إيصال الخبر إلى الناس على الصمود أمام االعاصفة الأمنية والقضائية والسياسية والاجتماعية التي أثارها إقبالُه غلى بثّ وثيقة كان يُفتَرَضُ رسميّاً أنها سرّيّة. وأغلب الظنّ أنّ نوايا القناة الأولى يمكن ربطها بلجوء هاري روزلماك Harry Roselmack إلى مثال بن لادن للدفاع عن موقف القناة ، حيث ذكّر منتقديه بأنّ كلّ وسائل الإعلام قامت بعد عمليات 11 شتمبر ببثّ صوت بن لادن ولم يعترض أحد على هذا. هكذا يجد القارىءُ نفسَه أمام معادلة تضع بن لادن ومحمّد مراح في سلة واحدة ، وتجعل من عمليات 11 شتمبر وجرائم مونتوبون وتولوز أحداثا من نفس الحجم والمستوى ولهما نفس الدلالة. قد يكون هذا الخلطُ معتمَداً وقد لا يكون ، وحتى في هذه الحالة فهو ترجمة لما يسكن في لاوعي الصحافي ويحفّز أنشطتَه ومُهِمّاته ، ويضفي بالتالي طابعاً ذاتيّاً على خطواته المهنية وأسلوب عمله. وإلّا فلماذا لم يلجأ هاري روزلماك إن كان نزيها ومخلصا وصادقا – يعني موضوعيا - في ممارسة عمله إلى مثال آخر أكثر مصداقية لتوضيح فكرته ؟ هل غابت عن عقله المهني قضيةُ المجرم الإرهابي النوريجي بريفيك Breivik الذي ظلّ طيلة مُحاكمته أمام القضاة وعيون الكاميرات العالمية يستفزّ سلطات بلاده ويتحدّاها مهدّداً بارتكاب جرائم أخرى إنّ أُطلِقَ سراحُه ، ويستهزأ بذاكرة الضحايا ولا يكنّ أيّ احترام لمشاعر أقاربهم ؟ ألم تعلق بذهنه صورةُ المجرم وهو يؤدّي تحية اليمين المتطرّف المقدّسة قبل بداية كلّ جلسة لمحاكمته ؟ هل نسي بسهولة وسرعة أنّ الحقد والكراهية التي يكنّها بريفيك Breivik للأجانب ، وخصوصا للعرب والمسلمين كانت قد تغذّت وتشبّعت بأفكار الأصولية المسيحية وإيديولوجية الصهيونية المعادية للإسلام كما قال هو نفسُه ؟ ما الهدف إذن من نشر شريط محمّد مراح أي الوثيقة المفترض أن تبقى سرّيّة ؟ تجيب Catherine Nayl ، المديرة المسؤولة عن قسم الأخبار في مجموعة ط ف 1 قائلة : " إنّ قرار إفشاء هذه الأخبار الجديدة يكمن في أهميّتها الكبيرة " ، وهذه الأهمية تظهر حسب كلماتها في الكيفية التي يستدرج المفاوضُ من خلالها محمّد مراح إلى إفراغ ما بجعبته من معلومات تساعد المخابرات الفرنسية وفرق التجسّس من من سدّ الثغرات في مكافحة الإرهاب . لكن ، إذا سلّمنا بصحّة هذا ، فإنّ هدفا آخر متساويا مع الأول يبقى مطروحاً في تخمينات الدارسين وتعليقات بعض الإنترنتيّين. هذا الهدف المقصود بعبارة " القيمة الإضافية القوية للأخبار الجديدة المهمة " التي ألحّ عليها كلّ من هاري غوزلماك وكاترين نايل يمكن رصدُه عن طريق بعض أقوال محمّد مراد في التسجيل الصوتي حيث ذكر أنّه قام باتصالات مع من يسميهم " إخوته " في تنظيم القاعدة في باكستان. كما تكلم عن الرحلات التي كان يُعتَقَد أنها " سياحية " لإسرائيل وبلدان أخرى ، وتحدث عن حياته المنفتحة على الطريقة الغربية التي كانت جزءًا من الحيلة ، ثمّ ختم بقوله : " اعلموا أنكم تواجهون رجلا لا يخاف فأنا أحبّ الموت كما أنكم تحبّون الحياة ". كان لهذه الجمل وقعٌ مروع على المجتمع الفرنسي بصفة عامة ، وكثرت التعليقات والتدخلات ، واختلطت المفاهيم والأفكار ، ووقع الكثيرون فيما يسمّى الخروجُ عن الموضوع ، وطفت إلى السطح من جديد عباراتٌ من نوع " الإسلام دين يُمَجّد الموت ولا يعطي قيمة للحياة " و" المسلمون قتلة " و" الإسلام دين إرهابي " ... إلخ. ويذهل المرء هنا إذ يكتشف مرّة أخرى أنّ عددا لا يستهان به من الفرنسيّين ما زالوا يجترّون لغة القرون الوسطى مستسلمين لتصوّرات عتيقة مغلوطة عن الإسلام والمسلمين ، متكلمين لغة مملوءة بالأفكار الجاهزة والحقد والعنصرية اتجاه العرب والمغاربيّين ، ناسين أو متناسين أنّ من بين ضحايا القاتل هناك عرب و/ أو مسلمين ، وأنّ القاتل نفسه هو فرنسي المولد والجنسية واللغة والتعليم المدرسي والتربية والثقافة. لا نستبعد أن تكون عملية الإخبار المزعومة تخفي وراءها حقيقة أخرى غير معلَن عنها وهي تمرير رسالة خطيرة إلى الفرنسيّين فحواها أنْ عليهم أن يحتاطوا كثيراً من الشبان ذي الأصول العربية أو المغاربية ، ويأخذوا حذرَهم حتّى مِمّن يعيشون منهم بطريقة متحرّرة ومنفتحة ، بعيداً عن تقاليد جذورهم الثقافية ، وتعاليم الدين الإسلامي.. فكلهم إرهابيّون ، وإنْ لم يكونوا بالفعل فإنّهم بالقوة. ويحزّ علينا أن نرى أنّه في الوقت الذي يمرّ فيه الفرنسيون بأزمة اقتصادية ومالية تزيد من تصاعد موجات العنصرية والإقصاء والتهميش اتجاه أبناء العرب والمسلمين ، يحلو لقناة TF1 أن تتصرّف بأسلوب ماكر ، يعمل على متابعة نشر تلك الرائحة السياسية والأمنية الكريهة والخبيثة التي مارسها الحزب اليميني لما كان في السلطة من خلال استغلاله موضوع النقاش حول الهوية الوطنية استغلالا سياسيا فرّق فيه بين الفرنسيين وخلّق بينهم الكثير من المشاكل. وما نخشاه هو أن تقوم السلطات الفرنسية باسم التجسس على ما يُسمّى الخلايا الإرهابية " النائمة " أو الفعلية ، بتضييق الخناق على كلّ الشباب الفرنسي ذي الأصول المغاربية أو العربية ، والحدّ من حرياتهم الفردية .. نعم للأمن فهو الشرط الأول والأوّلي لتحقيق العُمران بالمفهوم الانتعاشي للكلمة ، لكنّه يبقى بحاجة ماسّة ودائمة - لكي تدركه عقولُ المواطنين وتقبله – إلى ركائز العدل والمساواة والحرية. وبدون تطبيق هذه القيم الإنسانية والديمقراطية على أرض الواقع والعمل على ترسيخها واحترامها بالوسائل القانونية اللازمة لا يمكن لأيّ سياسة اجتماعية أو اقتصادية أن تنجح على مستوى العُمران .. كاتب عربي يقطن بفرنسا