عرض فى مسابقة «نظرة خاصة»، من برامج مهرجان كان الرسمية، الفيلم الفرنسى المغربى البلجيكى «يا خيل الله» إخراج نبيل عيوش، وهذا هو العنوان المطبوع باللغة العربية على الفيلم ذاته، وسادس فيلم طويل للمخرج الذى ولد فى فرنسا عام 1969 من أب مغربى مسلم وأم تونسية يهودية، وجمع بمولده وأصوله العرقية والدينية تعدداً ثقافياً ثرياً، وبدت موهبته كفنان سينمائى منذ أول أفلامه، خاصة فيلمه الطويل الثانى «على زاوا» الذى شاهدته فى عرضه العالمى الأول فى مهرجان برلين 2001. التعدد الثقافى الطبيعى مع الموهبة جعلا عيوش يتنقل بسهولة من الدارالبيضاء فى المغرب فى «على زاوا» إلى بيروت فى لبنان والقاهرة فى مصر فى فيلمه الروائى الطويل الرابع «كل ما تريده لولا» عام 2007، وإلى فلسطين وإسرائيل فى فيلمه الخامس «أرضى» عام 2010، وهو التسجيلى الوحيد بين أفلامه الطويلة حتى الآن. وها هو يصل بفيلمه الجديد إلى مهرجان كان، وفى مسابقة موازية للمسابقة الرئيسية، والذى يؤكد أنه من أهم المخرجين المغاربة فى العقد الأول من القرن الميلادى الواحد والعشرين، والذى شهد نهضة حقيقية جعلت السينما المغربية تعيش عصرها الذهبى بعد 50 سنة من إنتاج أول فيلم طويل عام 1958. 11 سبتمبر المغرب فى 16 مايو عام 2003 قام 14 شاباً من حى سيدى مومن فى الدارالبيضاء بعملية انتحارية فى أكثر من ناد ومطعم وفندق أدت إلى مصرع وجرح العشرات من المسلمين والمسيحيين واليهود فيما أصبح يعرف ب«11 سبتمبر المغرب». ومن المعروف أن الدارالبيضاء أو كازابلانكا مثل طنجة من المدن المغربية التى تعبّر عن التعدد الثقافى المغربى الضارب بجذوره فى أعماق المجتمع وتاريخه العريق. وعن هذه الجريمة المروعة أصدر الروائى والفنان التشكيلى ماحى بينبين رواية بعنوان «نجوم سيدى مومن»، وعن هذه الرواية كتب جميل بلماحى سيناريو «يا خيل الله» الذى أخرجه عيوش، واستمد العنوان من مقولة مشهورة فى الدعوة إلى «الجهاد» تحث المجاهدين على القتال، وبأنهم يمتطون خيول الله التى تذهب بهم إلى الجنة إذا استشهدوا. والفرق كبير بالطبع بين الجهاد فى الإسلام والعمليات الانتحارية التى قام بها أعضاء تنظيم القاعدة فى 11 سبتمبر 2001 فى أمريكا، والتنظيمات المماثلة، أو فروع القاعدة هنا وهناك. فالمجاهد يخرج للقتال وليس للموت، والإسلام وكل الأديان تنهى عن الانتحار، ولذلك فالعنوان الثانى لفيلم عيوش، أو مقولة الفيلم تحت عنوان «لا أحد يولد شهيداً». ويعرض الفيلم بالصدفة فى نفس العام الذى حصل فيه الإسلام السياسى على الأغلبية فى الانتخابات البرلمانية فى المغرب، وبعد سنة من حركة 20 فبراير التى طالبت بمزيد من الديمقراطية فى المغرب، وكانت من انعكاسات ثورات الربيع العربى فى تونس ومصر وليبيا واليمن. جذور العنف «عيوش» مؤلف سينمائى له أسلوب خاص، هو مزيج فريد وممتع من ثلاث مدارس سينمائية هى: مدرسة هوليوود ذات الطابع الكوزموبوليتانى، الذى يتوجه إلى مختلف طبقات الجمهور، ومدرسة باريس التى تهتم بالطابع الذاتى لفنان السينما كفرد، ومدرسة السينما المصرية التى تأسست من 1933 إلى 1963 التى تأثر بها جمهور السينما فى كل العالم العربى، وبما فى ذلك المغرب بالطبع. و«يا خيل الله» نموذج لأسلوب «عيوش» فى تعبيره عن أحداث كازابلانكا بعد نحو عشر سنوات من وقوعها، وتأمل معناها وأسبابها ودوافعها والنتائج التى ترتبت عليها. الفيلم يعتبر الفقر العنصر الأساسى، ويتمثل بأوضح وأقسى صوره فى الأحياء العشوائية، ومنها حى سيدى مومن فى كازابلانكا، ففى هذه الأحياء يجد دعاة العنف والإرهاب باسم الإسلام الشباب الذين يقنعون عقولهم الفارغة أصلاً بتلك الأفكار الضالة عن الاستشهاد، وأن هناك حرباً يقودها اليهود والمسيحيون ضد الإسلام، ولذلك فاللقطة الوحيدة التى تتكرر طوال الفيلم «لايت موتين» والوحيدة المصورة من طائرة، هى لقطة بانورامية تصور الحى العشوائى وتعبر عن حجمه الكبير وتعاسته المطلقة، وبداية الفيلم مباراة كرة قدم بين صبية الحى تتحول إلى معركة ومطاردة وحشية بين الفريقين بسبب الخلاف حول هدف من أهداف المباراة، ومن بينهم حميد «13 سنة» وشقيقه ياشين «10 سنوات» وصديقاهما نبيل وفؤاد المماثلان فى العمر.. إنهم وبسبب الخلاف حول أمر تافه على استعداد تام لمحاربة العنف من دون حدود ولا قيود ومن دون كوابح عقلية أو أخلاقية. من 1994 إلى 2003 يتحرك الفيلم بين تواريخ تُكتب على الشاشة من أول مشهد بعد العناوين، وهو مشهد مباراة الكرة، حيث يكتب تاريخ «يوليو 1994»، وبعد المباراة ندخل الحى، ثم بيت حميد وياشين لنرى الأب المكتئب الصامت طوال الفيلم، والأخ سعيد شبه الأبله الذى لا يفعل شيئاً سوى الاستماع إلى الراديو والتليفزيون، والأم التى تحاول جاهدة استمرار الحياة، وهناك حديث عن أخ رابع متطوع فى الجيش ولا نراه أبداً، وفى هذا المقطع حفل زفاف تغنى فيه والدة نبيل وترقص. والتاريخ الثانى «يوليو 1999» ووفاة الملك الحسن الثانى، حيث يتم استخدام الوثائق التسجيلية للتعبير عن ذلك الحدث، وفى هذا المقطع إشارات إلى فساد الشرطة، وإلى مضايقة أصحاب اللحى للنساء، وعقب إحدى جرائمه الصغيرة ورفضه التعاون مع الشرطة يُقبض على «حميد» ويُحكم عليه بالسجن لمدة عامين. وللمرة الثانية يستخدم «عيوش» الوثائق التسجيلية للتعبير عن أحداث 11 سبتمبر 2001 فى أمريكا عبر إذاعتها فى التليفزيون، ونرى رد الفعل عن الإسلاميين الذين يوزعون منشورات بأن «القاعدة» قام بالواجب «الشرعى»، وتترك والدة نبيل الحى حيث لم يعد لها مكان للرقص أو الغناء. يخرج «حميد» من السجن عام 2001 وقد أصبح شاباً «عبدالإله رشيد»، لكنه مختلف تماماً، فقد أصبح من أعضاء جماعة إسلامية ويدين بالولاء لأميرها، ويلتقى مع أخيه ياشين «عبدالحكيم رشيد»، والصديقين نبيل «حمزة صوديك» وفؤاد «أحمد الإدريس عمرانى»، ويحاول «حميد» دعوة الثلاثة للانضمام إلى الجماعة، وينجح، خاصة عندما يحاول «أبوموسى» صاحب الورشة، التى يعمل بها ياشين ونبيل اغتصاب نبيل، فيضربه ياشين ضربة قاتلة، وعندما يراه لايزال يتنفس يجهز عليه بقسوة وضراوة، وعندما تأتى والدة نبيل إلى الحى وتحاول أن تراه يرفض حتى مجرد رؤيتها بنفس القدر من القسوة والضراوة. مشاهدة المدينة لأول مرة داخل «وكر» الجماعة نرى بالتفصيل عملية حشو عقول الشباب وإعدادهم للقتل والموت، وربما على نحو غير مبرر بما فيه الكفاية يخرج الأربعة مع قائدهم الذى يعدهم لمدينة كازابلانكا وضواحيها، ولكن ربما يكون السبب أننا ندرك الحقيقة الصادمة، وهى أنهم يشاهدون المدينة لأول مرة فى حياتهم، فهم إذن غرباء عنها، وعندما يسعون لترويعها وقتل من يُقتلون من مواطنيها يكونون بالفعل مثل جيش من الغرباء الأجانب. وأخيراً تاريخ «16 مايو 2003»، يوم «العملية»، الذى يبدأ بلقطات للمدينة فى أبهى صورها كمدينة عصرية حديثة، وفى الليل تتم التفجيرات، ويعبر عنها المخرج البارع بلقطات بيضاء «الأبيض ليس لوناً»، ومن دون دماء ولا أشلاء، ويقف الفيلم على الحد الدقيق الفاصل بين اعتبار الإرهابيين ضحايا بدورهم وإدانة ما يفعلون، ورغم أنه لا يتعمق فى العلاقة بين ياشين وشقيقة فؤاد، ولا يحلل من وراء الجماعة، وكيف يتحول السجن إلى مصنع للإرهاب، إلا أننا أمام أحد أهم الأفلام العربية هذا العام. --- تعليق الصورة: لقطة من فيلم "يا خيل الله" عن المصري اليوم