بعد أن طالبت الإسلاميين بوثيقة سياسية يتعهدون فيها بدخول حكومة وحدة وطنية وبعدم الانفراد بالسلطة خلال فترة انتقالية مديدة نسبيا اقترحت أن تكون بين ثلاثة وخمسة أعوام -، أساسها وحاملها مشتركات وطنية جامعة لا خلاف عليها بين أطياف العمل الوطني السوري، ويمكن انطلاقا منها وبالاستناد إليها بلورة رؤى ومواقف موحدة أو متقاربة تؤسس لاستقرار الوضع السوري البديل خلال فترة الانتقال، وتحول دون بروز التطرف المذهبي والاقتتال الطائفي، ودون تدمير مؤسسات الدولة وتقويض أو إضعاف وحدة المجتمع، صدرت في الأيام القليلة الماضية وثيقتان مهمتان عن جهتين إحداهما إسلامية هي «جماعة الاخوان المسلمين»، والثانية ذات طابع إسلامي واضح هي «المجلس الوطني السوري»، حملت أولاهما عنوان «العهدة الوطنية»، وثانيتهما اسم «العهد الوطني». وبينما فتحت أولى الوثيقتين باب النقاش الجدي حول مستقبل سوريا، ونمط نظامها السياسي القادم، وعلاقات مكوناتها المجتمعية بعضها مع بعض، وسياسات حكومتها، ونوع دستورها، والأسس الحاملة لدولتها ومجتمعها، وصلات الدين بالسياسة والسياسة بالدين... الخ، أوردت ثانيتهما مبادئ الحكم التي ستعتمد في سوريا الحرة، من مختلف جوانبها، ورسمت صورة تفصيلية عنها. وبينما تترك الوثيقة الأولى انطباعا مؤثرا في النفس، بأسلوبها الجميل والمحكم، ودقة عباراتها، وصراحة وعودها وحلولها، والقراءات الجديدة لمفاهيم ومصطلحات إسلامية رئيسة، والتطمينات التي تقدمها في جميع الاتجاهات، تبدو الثانية وكأنها كتبت على عجل ستعدل على الأرجح في لقاء اسطنبول . مهما يكن من أمر، فإن من الضروري التوقف هنا أمام ملاحظتين هما: - هل صدرت وثيقة الإخوان دون تنسيق مع المجلس الوطني وفي موازاة وثيقته، علما بأن دور الإسلاميين في المجلس مقرر ؟. وهل حدث ذلك، إن كان قد حدث بالفعل، بسبب انعدام أو ضعف التنسيق بين الطرفين ؟ وما معنى أن يصدر الإخوان وثيقة يدعون الآخرين إلى توقيعها باعتبارها شيئاغير ظرفي، أي عهدة وطنية، إذا كانوا سيتخلون عنها بعد أيام قليلة، عندما سيوقعون وثيقة «المجلس»، التي تختلف عنها في نقاط كثيرة تتركز أساسا حول خلفياتها العقدية ؟. ألم يكن «الاخوان»، وهم ممثلون في المجلس، على علم بالعهد الوطني، وإذا كانوا قد علموا به، كما أعتقد، ما الذي لم يعجبهم فيه وجعلهم يبادرون إلى إصدار وثيقة خاصة بهم، أهو التذكير بأنهم ينفردون بخلفيتهم العقدية التي لم يذكرها العهد، فأحبوا التأكيد عليها، أم هو الرغبة في القول مستقبلا إنهم وقعوا العهد، لكنهم قدموا ما يتخطاه، أم هو أخيرا الرغبة في أن يكون صوتهم هو الوحيد المسموع في الساحة، الآن ومستقبلا، وإن صدر عن جهتين تحملان اسمين مختلفين ؟. - كان مطلوبا إصدار وثيقة سياسية تتعهد فيها المعارضة عامة والإسلاميون منها خاصة بتقديم صورة للبديل الذي يراد طمأنة العالم وكسبه من خلاله أيضا، فصدرت وثائق مبدئية تقطع المعارضة على نفسها فيها وعودا مهمة وواضحة، لكن ما هو مطلوب الآن لا يتعلق بالوعود قدر ما يتصل بإخبار الشعب والعالم بما ستفعله المعارضة عند وصولها إلى الحكم، وأية سلطة ستقيم، وعلى أية أرضية ستنشط، وما مدى ما سيسود بين أطرافها من تعاون، وكيف سيتم تحقيقه، وماذا ستكون مواقفها العملية في حقبة تصفية الاستبداد وبناء البديل الديموقراطي، وكم ستستمر هذه الحقبة... الخ. وهذه على الجملة مسائل تتصل بترجمة تعهدات العهد والعهدة إلى وقائع تلتزم جميع أطياف المعارضة ومن ينضم إليها من أهل النظام بتحقيقها، كي يعرف الشعب والعالم مع من يتعامل، وطبيعة السلطة التي ستقوم في سوريا. والحق، إنه لا مفر من تقديم هذه الترجمة في أقرب وقت، وإلا اعتبر مضمون العهد والعهدة وعودا براقة كتلك التي قدمها البعث ذات يوم وحقق عكسها، فلا شيء يضمن عدم تكرار هذه المأساة غير تقديم قراءة ميدانية / إجرائية واضحة للسياسات والمواقف العملية التي ستترتب عليها. والغريب أن وثيقة العهد وصلت إلى بعض المعارضين من جهات رسمية قطرية وتركية ولم تصل من المجلس نفسه، وأن الدعوة إليها اتسمت بالعشوائية والانتقائية المعهودتين، فمن تمت دعوتهم سمعوا حديثا أقرب إلى الاستدعاء منه إلى الدعوة، ولم يتلقوا نص الوثيقة ولم يطلب رأيهم فيه، وفهموا من النص القطري / التركي أن الأمر سيوضع في خدمة المجلس الوطني، وأن التوقيع يعتبر ضربا من الانتساب إليه هو في الحقيقة مكافأة تقدم للجهات الإسلامية الفاعلة فيه، التي كان يجب أن تحاسب على ركوبها حصان التدخل العسكري الأجنبي، الذي جعلت الموافقة عليه معيار الوطنية والشرف، وعلى ترويجها الخيار الليبي كحل لأزمة سوريا، مع ما أسهم فيه من انزياحات بالغة السلبية والخطورة على الحراك، انتقد الدكتور برهان غليون بعض أعراضها ووقائعها في حديث مع تلفاز الجزيرة، بينما كان يؤكد لبرنامج «في العمق»، تراجع نفوذ وشعبية المجلس داخل سوريا بسبب وهم التدخل العسكري الكارثي، والنتائج التي تمخض عنها في الواقع، ولعبت دورا مرعبا في تعزيز وخدمة نزعات التطرف والعسكرة والطائفية، التي أراد النظام فرضها على الحراك بقوة حله الأمني، فوجد بين صفوف المعارضين من ساعده، دون وعي بالتأكيد، على تحقيقها. والأغرب أن اسطنبول هي المكان الذي تم اختياره لتوحيد المعارضة، وأنها صارت بديلا سياسيا للقاهرة، حاضنة الجامعة العربية، صاحبة المبادرة الشهيرة التي قبلها المجلس بتردد، والتي تنص على إجراء مفاوضات بين المعارضين لتوحيد صفوفهم، وكان لديها مشروع بهذا المعنى ولهذه الغاية قدم إلى أمينها العام قبل نيف وشهر، يحدد مشتركات لا مجال للخلاف حولها، يتم التوفق عليها وتترجم إلى برنامج عمل تفصيلي يكون ملزما للجميع، يقدم للشعب وللعالم، لأنه يتضمن صورة البديل المطلوب لسوريا ونمط السياسات التي سيتبعها، والأوضاع التي سيقيمها، والخطوط الحمر التي سيضعها ضد الفلتان الأمني والتطرف المذهبي... الخ. السؤال هو بعد التخلي الظاهر عن القاهرة والجامعة: هل صارت اسطنبول كعبتنا الجديدة، وهل ستكون سوريا القادمة تركية أم عربية التوجه ؟. والأكثر أهمية من ذلك: هل قطعت تركيا وقطر الطريق على مسعى توحيد المعارضة بجهود الجامعة، لأنهما أرادتا إفشال مهمة كوفي عنان في موسكو وبكين، وإغلاق طريق المدخل الدولي الموحد إلى حل الأزمة السورية، بعد أن لاحت بوادره الأولى في الإعلان الرئاسي الصادر عن مجلس الأمن، لكونهما لا تريدان حلا كهذا، بعد أن أفهمنا السيد باراك أوباما يوم انعقاد المؤتمر الاسطنبولي وبحضور الطيب جدا رجب أردوغان أنه لا يريد التدخل في سوريا، وأن حل أزمتها لم يحن بعد؟ لم أقف البارحة ولا أقف الآن ضد الوثيقة، مع أنني أفضل العهدة الوطنية عليها، رغم ملاحظاتي على بعض إيحاءاتها العقيدية، التي يمكن أن تنسف كل ما تقوله نصوصها عن المدنية والدستور والحريات والمساوة بين الجنسين وحقوق الإنسان والمواطن، وما أوردته على لسان كانط. اتحفظ على طريقة انعقاد مؤتمر اسطنبول، واتحفظ على المكان، وعلى الجهتين الداعيتين: قطر وتركيا، وعلى الإيحاءات التي تجعل قبول مبادئ سياسية جامعة موافقة على الانضمام إلى مجلس وطني لا تؤمن أطراف نافذة فيه بأي مبدأ جامع، وتبدو وكأنها تصارع على السلطة القادمة بأكثر مما تصارع ضد السلطة القائمة، مع أنها أثبتت خلال الأشهر الخمسة الأخيرة افتقارها إلى حد أدنى من الخبرة والخيال السياسي، وبرهنت على أهليتها لاتخاذ مختلف أنواع القرارات والمواقف الخاطئة: بدءا بالترويج للخيار الليبي، وانتهاء بخياري الأسلمة والعسكرة. بكلام آخر: إذا كان لتوقيعي على الوثيقة من أهمية، فأنا على استعداد لتوقيعها، بعد موافقتي على نصها، في القاهرة: في رحاب جامعة الدول العربية، التي لا يجوز أن نزيدها ضعفا على ضعف، وأن لا نهمشها أو نحيدها، وإنما علينا أن نعزز دورها وخياراتها، بعد أن صارت مبادرتها، التي هي بالأصل مبادرتنا كمعارضة سورية، خيارا دوليا تبنته الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ويعمل كوفي عنان مع فريق متميز من الخبراء والمستشارين لإنجاحه ببنوده الستة، التي ينص أحدها على مرحلة انتقال إلى الديموقراطية متفاوض عليها مع طرف لديه صلاحيات كاملة من النظام، بعد وقف إطلاق النار وسحب الجيش من المدن إلى ثكناته، وإطلاق سراح المعتقلين وتحديد أماكن اعتقالهم وتفتيشها، والسماح بالتظاهر السلمي وبقدوم وسائل الإعلام غير المقيد إلى سوريا، ووقف إطلاق النار ساعتين يوميا لإغاثة الشعب. من المعلوم أن النظام رفض هذه المبادرة عندما أبلغ كوفي عنان أنه لا يستطيع قبول وقف العنف وسحب الجيش إلى ثكناته وإيجاد حل سياسي قبل القضاء على العصابات المسلحة، لكنه قبلها بعد الموقف الدولي الموحد في مجلس الأمن، في إشارة واضحة إلى أنه فهم معنى ما حدث، دون أن يعني ذلك بالطبع أنه لن يحاول الالتفاف عليه، لتوهمه أنه بحاجة إلى وقت إضافي قصير من أجل استكمال ما يسميه انتصاره، وأنه عليه توفير هذا الوقت بأية وسيلة كانت. لا غبار على وثيقة تريد توحيد المعارضة. لكنها لن تحقق هدفها إذا لم تخرج من الأجواء والرهانات والتدابير التي أحاطت بها، ويمكن لاستمرارها ان يجعل منها خطوة إضافية فاشلة تنجزها معارضة سورية فاشلة. هل تتحد جهودنا لتحقيق هذا الهدف، الذي يعني نجاحنا في بلوغه بداية بناء معارضة مستقلة، صوتها من رأسها، وقراراتها رهن إرادتها، تحصنها وطنيتها ضد الأخطاء الكبيرة جدا، التي اقترفتها جماعات وازنة في المجلس وخارجه ؟ كاتب وناشط سوري