خلافا لحراك الجزائر الذي لم يعرف انطلاقته إلا يوم 22 فبراير 2019، ضد إعادة ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة البالغ من العمر 82 سنة لعهدة خامسة، علما أن حالته الصحية باتت متدهورة إثر إصابته بجلطة دماغية سنة 2013، أقعدته على كرسي متحرك وأفقدته إمكانية التواصل مع الشعب. والذي استطاع بواسطته المتظاهرون فرض إرادتهم عبر مسيراتهم الاحتجاجية السلمية الحاشدة، ليس فقط بإجبار الرئيس على سحب ترشحه، بل كذلك على استقالته يوم 2 أبريل 2019، وإصرارهم على مواصلة التظاهر وعدم إخلاء الشوارع إلا حين رحيل كافة رموز النظام الفاسد. فإن الشرارة الأولى لحراك السودان اشتعلت في 19 دجنبر 2018، ومازالت الاحتجاجات مستمرة، إذ خرج في بداية الأمر آلاف السودانيين في العاصمة الخرطوم وغيرها من المدن، ينددون بالغلاء الفاحش وسوء الظروف المعيشية وضعف القدرة الشرائية، ورغم حفاظه على طابع الاستمرارية والسلمية، وعدم تسجيل أي حالة تخريب في العاصمة على مدى أزيد من ثلاثة شهور، واتساع رقعته الجغرافية وتعدد أشكال الاحتجاج، إلا أنه بقي منحصرا في فئة الشباب والطلبة، ثم سرعان ما تحول الأمر إلى المطالبة بإسقاط الرئيس عمر البشير، الذي يحكم البلاد بقبضة من حديد طوال ثلاثة عقود. والمثير للاستغراب أنه في خضم تسارع الأحداث الملتهبة بزخم كبير في المدن والأرياف وسائر المحافظاتوالولايات بصورة غير مسبوقة، وما يتعرض إليه المتظاهرون من قمع وحشي من قبل مؤيدي الرئيس، واعتقالات عدد من النشطاء وبعض القيادات السياسية، واستشهاد عشرات المواطنين وإصابة مئات آخرين بفعل إطلاق النار من طرف القوات الأمنية، لم يحظ الحراك بما يلزم من متابعة إعلامية كما هو الشأن بالنسبة لحراك الجزائر وفرنسا وليبيا … وفي باقي الأقطار العربية والأجنبية. مما أثار الكثير من علامات الاستفهام حول هذا التجاهل والتعتيم الإعلامي غير المبررين، والتذمر والاستياء في أوساط السودانيين وبعض الشعوب المتعاطفة مع حراكهم السلمي. فهل هناك تقاطعات بين الدول المؤثرة مع الحكومة السودانية، يجعلها تجنح نحو الحياد في انتظار من سيكسب رهان "النصر" في هذه المعركة الدائرة رحاها بين المحتجين ورئيس الجمهورية؟ فالرئيس عمر البشير لم يأت إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع إثر انتخابات رئاسية حرة ونزيهة، وإنما استولى على السلطة في انقلاب عسكري على الحكومة الديمقراطية المنتخبة برئاسة الصادق المهدي، وتولى منصب رئيس مجلس قيادة الإنقاذ الوطني في 30 يونيو 1989، أي قبل عقد من الزمن على وصول عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم بالجزائر. وأنه منذ اغتصابه السلطة ب"أصوات" البنادق والدبابات، لم ينتخب سوى مرة واحدة في أول انتخابات تعددية جرت في أبريل 2010 بطرق ملتوية. فكيف يا ترى لمن لا يؤمن عدا بقوة الحديد والنار، أن يعرف معنى الديمقراطية في تدبير الشأن العام للبلاد، والإصغاء لنبض الشارع والتفاعل مع المطالب الملحة للعباد؟ ! فمنذ إحكام قبضته على البلاد، وهو يتعرض للانتقادات والاتهامات من قبل معارضيه ومنظمات حقوق الإنسان الدولية حول استبداده وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، ولاسيما ما يرتبط بتورط مجندين تابعين لحكومته أو من الموالين له في جرائم حرب سواء في دارفور أو في جنوب البلاد… وتعود دواعي تصاعد موجة الاحتجاجات الشعبية إلى غلاء المعيشة واستمرار ندرة الخبز والوقود والأدوية والسيولة النقدية التي تشهدها البلاد منذ بداية سنة 2018 ونفاذ بعض المواد الأساسية، ولما أدى تفاقم الأزمة الاقتصادية إلى انعدام الخبز في بعض الولايات وتضاعف سعره إلى أكثر من ثلاث مرات في بعض المدن، خرج طلبة الجامعات في مظاهرات صاخبة، تزامنت مع احتجاجات أخرى في الأسواق الشعبية، وامتدت إلى سائر المدن وخاصة في تلك التي يعاني سكانها من أزمة الخبز. ولم تجد السلطات من سبيل لمواجهة المد الشعبي الجارف عدا اللجوء إلى محاولة كسر شوكة المتظاهرين عبر تعليق الدراسة في الجامعات والمؤسسات التعليمية، قطع خدمات الانترنت عن موقعي "فيسبوك" و"تويتر"، استخدام القوات الأمنية العنف المفرط والغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والرصاص الحي والاعتقالات العشوائية واتهام المتظاهرين بتنفيذ أجندات خارجية معادية. وجدير بالذكر أن الحراك جاء عفويا وبدون دعوة من أي حزب سياسي، جراء الشعور بالإحباط والظلم والغلاء والقهر والاستبداد واستشراء الفساد وارتفاع معدلات الفقر والأمية والبطالة والحجر عن العقول وتكميم الأفواه والدفع بالكفاءات إلى الهجرة القسرية واختراق الأحزاب السياسية وتفتيتها عبر الضغط والإغراء وخنق الحريات… مما جعل السودانيين يضيقون ذرعا بنظام لم يعمل سوى على مراكمة الخيبات والانكسارات وتدمير التعليم وتسخير مؤسسات الدولة، والسعي نحو تغيير الدستور قصد الترشح مجددا لتمديد عمر الرئيس في السلطة، هروبا من شبح المثول أمام محكمة الجنايات الدولية، كمجرم حرب ضد الإنسانية في دارفور. إن ما يدعيه مجلس الدفاع السوداني من حرص الحكومة على الحوار مع المحتجين ورص الصف الوطني، بما يحقق التراضي ويجنب البلاد مغبة الانزلاقات، لن يثني من عزيمة المتظاهرين على المضي قدما لإيقاف العبث القائم، إفشال جميع المناورات ومحاولات الالتفاف على حراكهم الهادف إلى الإطاحة بالرئيس، الذي أبان عن فشله الذريع في الحفاظ على وحدة البلاد وسوء تدبير مواردها الطبيعية وعجزه عن تأمين الخدمات الاجتماعية الضرورية، توفير الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والمساواة وتحقيق التنمية وجلب الاستثمار لإنعاش الاقتصاد، وإقامة الدولة الديمقراطية القوية التي طالما حلم الشعب السوداني ببنائها.