مزيج لغوي يخلط بين الحار والماء. وهو في الواقع مزيج ثلاثي الأبعاد. الماء والحامض والفلفل الحار، وربما الملح كذلك. شراب لا تدري بأي وصف تصفه. كل رشفة تغريك بأخرى وكل ملعقة تدعوك إلى ما بعدها وتنسيك ما قبلها. لكن في قرارة نفسك، وبعيدا عن غواية الفم واللسان، رغبة مؤجلة في الاكتفاء بما سلف والكف عن دغدغة الحواس بهذا الشراب الغريب. شراب هو مزيج بين اللذة والألم. والجو أيضا مزيج. صيف ينفض الغبار عن عباءته ويولي الأدبار، وخريف عند الباب. يطل خجولا من خلف سحابة عابرة تستكشف المكان لأمطار قادمة وشيكة. برودة عابرة تصارع ما تبقى من صهد الأمس، وليل يوحي ببعض اليقين. يقين الخريف. سماء تبدل ألوانها وتنأى عن مرمى البصر، وشمس تستغني عن عاداتها القديمة وتز̄ور جهة الشمال. وذباب لعين ينصب نفسه سيدا للمرحلة. ذباب بلا عد كأنه الجراد الزاحف من بطن الصحراء. يعتلي كل كائن ميت أو حي. يجلل عيونا بالكاد تنفرج من خجل أو من ضيق. طنين لا يكل ولا يمل. موسم التمر هذا هو موسم الذباب حقا. تصحح أمي: بل موسم الجمر. أبتسم لها وأهمس: اعطني تمرة. ترد مازحة: الله يعطيك جمرة. أتسلل بعيدا عن كهولتي الداهمة وأمتطي، مثل ساحرة، عودا جافا أسابق به الريح فأسبقها. والذباب يتعقبني. يختلط بمخاطي الأبيض، الأصفر... حسب الأحوال والمزاج. ينام ليلا تحت وسادتي أو فوقها . صبحا يصحو قبلي، أجده متربعا على مائدة الإفطار أو متسللا إلى كأس الشاي. ثم أحمله على ظهري، بين خصلات شعري، إلى المدرسة لأوزعه على الطاولات والأصدقاء.
حايرور مايرور شراب الخريف، من لم يذق طعمه لن يعرف للخريف طعما. ولن يعرف للعبارة الخالدة: "خريفك هذا، فاعتن به..." معنى. نلقي محافظنا أينما اتفق ونركض حفاة شبه عراة، لا يسبقنا سوى الجن. نمرق كالعفاريت بين جذوع النخل نلتقط العلف...نوى التمر، ندسه في جيوب مثقوبة، في علب من فرح وأكياس صنعت من شغب. نعود للحي محمولين على سحب الغبار، متلهفين للشراب العجيب وقد جئنا بثمنه علفا. يردد الرجل وهو يحصي غنائمنا ويوزع الأقداح: حايرور ما يرور، ما يذقو غير اللي جاب عليفاتو في يدياتو.
حايرور مايرور... الغابة خلية نحل لا تهدأ. صياح الفلاحين يعلو على نهيق الحمير. والغبار يصل السماء بالأرض. والخريف يتقدم على مهل. الخريف مزيج... الموت والحياة. اللذة والألم. الحر والبرد.الحرث والجني. الخريف مزيج آخر... التمر والجمر. الخريف مزيج ثالث... الغنى والفقر. فلاحون بسطاء، عبيد الأرض وسادتها، يسقون النخل من ينابيع عرقهم ويجنون العدم والعوز، وتجار يحصدون الغنى في رمشة جني واحدة.