كانت محكمة الاستئناف بالدارالبيضاء، ذلك اليوم على غير عادتها، فعند ولوجك الباب الرئيسي المقابل لساحة شاسعة، تركن فيها السيارات وسيارات الأجرة الصغيرة وقبل أن تصل إلى بهو المحكمة المشيدة حديثا، يستوقفك شرطي ويطلب منك التوجه نحو مكتب الاستقبال للإدلاء ببطاقة تعريفك، بعد أن يستفسر منك عن سبب حضورك للمحكمة، وخلفك يقف بعض الأشخاص ينتظرون دورهم أمام الشرطي، حتى لا يتعرضون للصراخ أو ردة فعل غاضبة منه. تخرج بطاقتك الوطنية وتسلمها لموظف الاستقبال، الذي يسلمك بطاقة أخرى مكتوب عليها عبارة "زائر". في بهو المحكمة، تجد نافورة كبيرة تتوسطها مياه جارية قليلة، وفي جنباتها مكاتب عديدة وغرف جنائية أولى وثانية، وكتابة الضبط ومكاتب النسخ..، وللوصول إلى قاعات جلسات المحاكمة، عليك الصعود إلى الطابق الأول، حيث يبهرك التصميم الهندسي المتناسق، والزخرفة التقليدية المغربية التي تملأ سقف المحكمة والقاعات والبهو المحيط بها، الذي تنتشر فيه بعض الكراسي الطويلة لتضفي رونقا جميلا على محيط المحكمة، لكن حين تتقدم نحو قاعات الجلسات خاصة رقم 1و 2، يزعجك منظر المتقاضين وذوي المعتقلين، وهم يجلسون خارج القاعة أو يقفون خارج الباب الرئيسي للقاعة، بسبب ضيق مساحتها، فداخلها مكان مخصص للمتهمين، وآخر يجلس في مقدمته المحامون، ولا يبقى لأهل المتهمين سوى كراسي قليلة، يجلسون عليها في تزاحم شديد. أدخل رجال الشرطة المتهمين إلى قاعة الجلسات تباعا، وكانوا شبابا في مقتبل العمر، تتشابه أعمارهم كما تتشابه التهم الموجهة إليهم، والموزعة بين القتل العمد وتكوين عصابة إجرامية خطيرة والسرقات الموصوفة، وكان آخر من جلس على الكراسي المخصصة للمتهمين، فتاة في مقتبل العمر، لم تتجاوز ربيعها العشرين، كانت ترتدي جلبابا أسود اللون، وتحزم شعرها الأسود الناعم خلف ظهرها، لم تلتفت أبدا نحو الحضور، رغم أن سيدة جاوزت الأربعين من عمرها بسنوات قليلة، حاولت مرات كثيرة أن تشير إليها بيديها، إلا أنها كانت غارقة في صمتها، تضع يديها بين الفينة والأخرى على خدها أو شفاهها، وتتوجه بنظراتها إلى منصة الحكم وكأنها تخجل من جلوسها بين المتهمين، أو ربما جريمتها أبشع مما ارتكبه غيرها من الشباب. كانت الفتاة متهمة بجناية القتل، لكن المثير في قضيتها أنها متهمة بقتل رضيعها، جريمة شدت انتباه الحاضرين، الذين التزموا الصمت أمام هول ما نطق به رئيس الجلسة، وهو يتلو عليها تهمتها حين مثلت أمامه، فكيف لامرأة شابة رقيقة وجميلة، أن تتحول إلى مجرمة في لحظة خوف، ويكون الضحية رضيعها الذي حملته تسعة أشهر في أحشائها وتكبدت عناء المخاض إلى أن أخرجته إلى هذه الدنيا، ثم رحلته عنها في دقائق، وهو لا يقوى على تحمل أصابع يدها لتكتم أنفاسه الصغيرة. تزوجت المرأة الشابة، المتحدرة من منطقة مديونة بضواحي مدينة الدارالبيضاء، بأحد شباب الحي الذي تقطن به، بعد أن أحبها وأعجبت به، وما هي إلا شهور قليلة حتى رزقت بطفلها الأول، الذي كرست له كل حياتها، فأصبح شغلها الشاغل، خاصة بعد الخلافات التي نشبت بينها وبين زوجها، الذي أصبح لا يعيرها أدنى اهتمام. بعد شهرين من ولادتها، كثرت المشاكل والخلافات بينهما، لم تجد المتهمة سوى العودة إلى العيش في كنف عائلتها، بعدما سدت جميع الأبواب في وجهها. اشتغلت المتهمة في إحدى الضيعات الفلاحية لتعيل نفسها وطفلها، إلى أن بلغ خمس سنوات، وكانت سعادتها العارمة حين ترى ضحكته تملأ شفاهه، لكن تجري الأيام بما لم تشته المتهمة، حين قررت في لحظة ضعف أمام جميع المشاكل التي أصبحت تعانيها، من كثرة مصاريف ابنها الصغير وضعف مدخولها اليومي، أن تبني علاقة حب مع شخص التقته بالصدفة وهي في طريقها إلى عملها، وتحولت العلاقة إلى علاقة جنسية يعاشران بعضهما معاشرة الأزواج، حين وجدت فيه الحب والحنان اللذين كانت تفتقدهما، وكان يساعدها كثيرا في حل مشاكلها وتحمل أعباءها واحتياجات طفلها الصغير، وتناست معه أنها ما زالت على ذمة زوجها، إلى أن اكتشفت في أحد الأيام أنها حامل منه، لكنها حين بحثت عن حبيبها وجدت أنه اختفى عن الأنظار. بعد مرور شهرين على حملها، عاد الزوج يطالبها بالعودة إلى منزل الزوجية، وحين بلغت شهرها السابع من الحمل، اكتشف زوجها الأمر وعلم حينها بخيانتها، فبدأ يهددها بفضح أمرها أمام والديها وجميع سكان القرية, كما أجبرها على أن تعيد كل أموال النفقة التي قضت بها المحكمة لصالحها, ووافقت على أن يترك الأمر بعد وضعها. ويوم الوضع، كانت برفقة والدتها، وأكد لها الطبيب المختص أن وليدها يتمتع بصحة جيدة، لكن في صباح اليوم التالي، وبعد الفحص تبين أن الرضيع فارق الحياة, ما اضطر الطبيب إلى إخبار رجال الشرطة، وبعد مواجهة المتهمة ومحاصرتها بشهادة الطبيب، اعترفت أنها كتمت أنفاس وليدها خوفا من تهديدات زوجها. حين سألها القاضي عن الكيفية التي قتلت بها ابنها قالت وهي تبكي بحرقة "فالصباح بكري، حطيت فوطة صغيرة على وجهو وضغطت عليه حتى ولا لونو زرق.."، ثم أضافت ودموعها لا تفارق عيونها " راني نادمة ومعرفتش أش جرى ليا..الراجل تخلى عليا ..واللي بغيتو هرب عليا، وقتلت ولدي بايديا.. بغيت غير الله يسمح ليا".