لن أنسى ذاك الصباح الذي أخذت فيه مكاني المعتاد بمقهى شعبية ، ناديت على قهوتي ، شغلت هاتفي ، وقبل تصفحي للبحر الأزرق نظرت قبالتي في زاوية لألفي شيخا يتمعن في بطريقة تدعو إلى الاستغراب ، الشيخ يشبهني تماما ، يعبث بمجسم أسود كما أعبث بهاتفي ، في الوقت الذي ابتسمت له ابتسم لي أيضا بنفس الطريقة ، رفعت يدا متعمدا في الهواء رفعها بنفس الحركة والدقة ، مررت بيسراي على فروة رأسي فعل ذالك في اللحظة نفسها ، خلتني أمام مرآة مكسرة عكست شخصي في وضع كئيب ، فركت عيني جيدا وضربت على خذي لأقطع شك حلمي باليقين فرك عينيه وضرب خذه كما فعلت ، أخذني الهوس من كل جانب ، تصبب العرق من جبيني عندما لم أجد فوق مائدته كأس القهوة كما هي فوق مائدتي. كان الشيخ الذي بشبهني كأنه أنا بالذات مقوس الظهر بادي التجاعيد على جبينه العريض، أخذت الصفرة محياه السقيم، رأسه المشتعل شيبا مازال يحتفظ بأناقته التلقائية ، حرت من أمري، ناديت على النادل ، هذه المرة يستجيب للشيخ الذي ناداه أيضا ، – ” لما لم يستجب لي أنا بالذات واستجاب لهذا الماثل أمامي كالقدر؟ ” همست في نفسي وقد بدأت فرائصي ترتعد ، – ” أهو ملك الموت حل ليقبض روحي الآن وصارت هذه التمثلات تتهيء لي وأنا في سكرة الاحتضار ؟ لا ، مازلت أعي جيدا ، فاليوم يوم أحد الثالث من شهر القهوة، عفوا من شهر ذي الحجة أقصد شهر مارس ، أنا الآن أرتشف قهوتي قبل أن أجلب لزوجتي الرمان والصابون والسكر والثوم وبطارية الهاتف ، بعدها سأزور والدتي، نعم أتذكر جيدا، لا أموت الآن إذن ” . هممت بالنهوض ومغادرة المقهى من دون أن ألتفت فما سعفتني قدماي على الوقوف ، شعرت ببرودة تسري في أحشائي ، وحبات العرق أضحت باردة على جبيني، لم أعد أنظر الى ذلك الشيخ الذي يشبهني حتى أحافظ على ماتبقى لي من جأش ، حجبت وجهي بكفيي وصرت أبكي بحرقة في ذاك المكان الذي أضحى غريبا موحشا ، أبكي هذه النهاية التعيسة التي لا تليق بشاب يحب الحياة، عزمت على مناداة الشيخ في محاولة أخيرة للخلاص بأي ثمن، رفعت بصري لم أجده ماثلا أمامي كما كان ، سرت الحياة في شراييني وشعرت بنشاط متزايد يغزو جسمي دفعة واحدة، زال الألم من مقدمة رأسي وحول أذنيي، جاءني النادل مبتسما ومستجيبا لطلبي إياه، نهضت في خفة إلى المكان الذي كان يستوي فيه الشخص ، جلست على مقعده ، كان كثير من الدفء لا يزال بالمقعد ، شممت رأئحة عطري تجوب مكانه كنسمة عليلة من الجنوب ، قمت مفزوعا عندما شعرت بتعرق يديي وألم بظهري الآخذ في التقوس تدريجيا وانكماش في محياي ، لم أنظر حينها إلى مقعدي حيث القهوة مازالت لم تبرد بعد . خشيت على نفسي من أن أجد نفسي هناك فيذهب ماتبقى من عقلي . لم أعد إلى تلك المقهى من يومي ذاك ، إنما عندما يلقاني النادل بالشارع مرارا لا يستفسرني عن غيابي، فربما يراني بمقهاه كل يوم . تركتها قضية غامضة وأحببتها كذلك .