حسم البحث التاريخي حول مدينة القصر الكبير منذ الفترة الاستعمارية في العمق التاريخي لهذه المدينة، وحضورها القوي والمميز عبر مختلف المراحل التاريخية منذ الحقبة القديمة إلى الآن. كما أن موقع المدينة الجغرافي باعتباره صلة وصل بين شمال المغرب وجنوبه، شكل محورا تجاريا مهما جعله معبرا لمجموعات بشرية من مناطق وحضارات مختلفة، إضافة إلى أن المدينة كانت محط اهتمام من طرف الأسر الحاكمة للمغرب، اهتمام كانت درجته متفاوتة حسب طبيعة المرحلة السياسية التي كان يمر منها المغرب في فترات مختلفة. لقد خلف العمق التاريخي لمدينة القصر الكبير، تراثا ثقافيا وتاريخيا غنيا لازالت بعض معالمه قائمة إلى اليوم، منها ما زالت تفاصيله شاهدة على فترات تاريخية مختلفة، ومنها ما اندثر لاعتبارات طبيعية وبشرية، ومعه اندثر جزء مهم من ذاكرة المدينة وتاريخها. خصوصا وأن التراث الثقافي والتاريخي لم يكن يحتل مكانة مهمة سواء لدى المجالس المتعاقبة أو جمعيات المجتمع المدني المهتمة بالتراث. ويمكن القول أن سنة 2010 ستعرف حركية مهمة على هذا المستوى، بعد أن تم تأسيس فريق العمل المحلي لحماية التراث الثقافي، والذي كان مبادرة تشاركية مفتوحة على جميع الفاعلين والشركاء الذي يحملون هم التراث الثقافي لمدينة القصر الكبير والرغبة في إنقاذه. وقد أسفرت المنهجية التشاركية لعمل هذا الفريق عن تحقيق مجموعة من الأهداف، كان أولها الحملة التحسيسية القوية بأهمية التراث الثقافي لدى الناشئة. ويبقى أهم إنجاز لفريق العمل، هو عملية جرد التراث الثقافي والتاريخي للمدينة التي قام بها فريق متخصص من الباحثين، ضمن نتائجه في وثيقة علمية صدرت سنة 2010، وتضمنت تصنيفا على أسس علمية لما تتوفر عليه المدينة من أنواع للتراث الثقافي، كما اقترح فريق الجرد مدارا سياحيا بمواصفات تراثية عالمية. لقد شكلت وثيقة الجرد التي أنجزها فريق العمل المحلي لحماية التراث الثقافي لمدينة القصر الكبير، أساسا صلبا لوضع مجموعة من المشاريع المستقبلية، أهمها: – ترميم المعالم التاريخية الواقعة في المدار السياحي المقترح – وضع لوحات للتشوير داخل المدينة تتضمن معطيات تاريخية حول مختلف المعالم – تنظيم مهرجان تراثي سنوي يبرز المؤهلات التراثية للمدينة – عقد لقاءات علمية سنوية حول سبل تثمين وتأهيل التراث الثقافي والتاريخي كما كانت مبادرات فريق العمل المحلي لحماية التراث الثقافي، منطلقا لحراك محلي يهتم بالتراث الثقافي والتاريخي، كما أن وثيقة الجرد التي أنجزها كانت بشهادة المختصين المغاربة والأجانب المشرفين عليها، نقطة مضيئة في مسار التراكم الذي ينبغي تحقيقه للوصول إلى أمثل السبل لتثمين التراث الثقافي والتاريخي لمدينة القصر الكبير. وقد كانت هذه الوثيقة ثمار عمل تشاركي ممنهج رصين يضع تثمين التراث وتأهيله في صلب أهدافه بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى. وبعد مرور حول خمس سنوات على ما حققه فريق العمل المحلي لحماية التراث الثقافي، فإن الحاجة أصبحت ماسة لحراك مدني ومؤسساتي للنهوض بوضعية التراث الثقافي بمدينة القصر الكبير، ولن يتحقق ذلك بكل تأكيد إلا إذا تضافرت جهود المهتمين والغيورين عليه، باستثمار كل الطاقات التي من شأنها الإسهام في النهوض بالموروث الثقافي للمدينة، والابتعاد قدر الإمكان عن إضفاء الطابع الموسمي على هذا المستوى أو فتح النقاشات الفضفاضة البعيدة عن المنهج العلمي في التعاطي مع الموضوع. فالاشتغال على التراث الثقافي والتاريخي لمدينة القصر الكبير، هو استثمار في ثروة غير متجددة وفق قواعد علمية، تقوم على إنتاج الدراسات المتخصصة والعمل التشاركي المنفتح على جميع الفاعلين. كما أن التراث الثقافي والتاريخي لم ولن يكون أبدا مجالا للتهافت أو تجاوز التراكم الحاصل، ضدا على كل ما هو متعارف عليه في التجارب الناجحة في مجال الحفاظ على التراث الثقافي وتثمينه وتأهيله. التراث الثقافي والتاريخي لمدينة القصر الكبير هو ذاكرة المدينة وملك لساكنتها بجميع أطيافهم، كما أنه جزء من الرأسمال الترابي القابل للاستثمار والتوظيف في التنمية المحلية. ولن يتحقق ذلك إلا بالعمل التشاركي واستحضار التراكم الحاصل في المدينة من طرف مختلف الفاعلين، حتى يتحقق شرط الرصانة في طريقة العمل لأجل الوصول للأهداف المتوخاة.