الصيف تجعل الزوارق الصغيرة التي تربط مدينة العرائش بشاطئها "راس الرمل" بالضفة المقابلة، لا تتوقف عن العمل طوال النهار وشطر كبير من الليل. رفقة "الهيبي" خيمنا أصيفا كثيرة على رمال ذاك الشط الجميل المحفوف بغابة من أشجار الفلين، جل المصطافين (بالخيام) يضطرون كل مساء لاجتياز المعبر البحري، قصد لقاء الأحبة استجابة للمواعيد المضروبة على أمواج البحر ورماله، وكذا لشراء بعض المؤن (حجا وحاجة). "هاهاها…" لازلت أذكر أن المكان كان بحرا، والوقت ساعة متأخرة من الليل، إذ كان حميد عائدا رفقة الجرو الذي اشتراه بالأمس (بدرهم) رحمة لحاله من صبية تلهو به طيلة ذاك اليوم. وفيما هو مع مجموعة كبيرة من المصطافين، يفوق حملهم طاقة زورق قديم، لم يعد يرضى بتجديفه سوى شيخ هرم، عشش روماتيزم البحر في مفاصل عظامه، وسكنت الأحة صدره حتى ضمر جسده، وتقوس ظهره، ومع كل ذلك حافظت ذراعيه على وضعية التجديف بتلقائية تجعل الزورق المسكين يتعاطف مع الشيخ الهرم، ويشق العباب ويزيد هيكله اهتراء. عوى الجرو لشدة اختناقه، أشفق حميد على حاله وفتح له الحقيبة ثم وضعه على فخديه رفقا وتباهيا بالحيوان الوفي- الذي كان اسمه " the moon " ( القمر )- فاستعاد الجرو هدوءه وأوقف احتجاجه. لكن تلك الحركة لم تكن مدروسة العواقب: فالرجل الجالس قبالة صديقنا حميد لم يكن سوى صاحب الكلب (الحقيقي)، الذي كان يطعم الأسماك من قيئه إذ كان مغرقا في سكره، لما رأى ( the moon ) نط قافزا من مكانه كما لو لسعته عقرب سوداء (من الحجم الكبير)، وأمسك بخناق صديقنا، وصار يتهمه بسرقة الكلب، وبعض أواني خيمته. يتهمه، يصفعه، يتجشأ خمرا، يرتاح قليلا، ، ثم يعود لفعله كما في الأول، حتى ركب الفزع كل الركاب وخالوا أنفسهم كما لو كانوا على باخرة "طيطانيك ": النساء يولولن وهن متشبثات بحاشية الزورق وبتلابيب بعضهن البعض، أما الرجال فراحوا يشهدون ويصلون على النبي، ويلعنون الشيطان، في حين لم يعر "نوتي" الزورق اهتماما لما يحدث، بل ضل يجدف ويردد أغنية: – "يا موجة، ارقصي وغني= عشاء أسماكك عندي". عبثا حاول الصديق إثبات براءته، لكن الرجل ضل وفيا لحماقات سكره و"ماشوزيته"، مما جعل حميد الذي يعاني من "فوبيا" البحر – إذ كان يفر من أصغر موجة تخلى عنها اليم – يخشى على حاله سيما وأنه على زورق آيل للتهتك يحمل فوق طاقته الافتراضية، ويتمايل كالهودج فوق الموج في عز المعبر البحري، والعتمة زادت نار الرعب وقودا، فما كان من المسكين سوى أن أشبك يديه وراء ظهره، واستسلم للمكتوب على جبينه، وراح يردد على مسامع المستأسد العضريط: – أعد على خدي موالك الطويل، وبصفعك اشجيني، لكن لا تجعل الزورق يتراقص بنا يا سيدي ومولاي… نال حميد حظه من صفع لم ينله خائن بعد استقلال، وظل ينوح طيلة "المشوار" كهرة ضالة أتاها الطلق ولا من معين. لكن ما أن تبث الصديق قدميه على "المون" (بر السلامة ) حتى شمخ كالأسد مزمجرا: – وا "هبياه" ! …"فيو… فيو…" كنا نقصر طول الليل بأحاديث عن مقابلة أجريناها ذاك الصباح، لكن شيئا ما أخرس قهقهاتنا: – إنه صفير حميد! هكذا صاح بنا "الهيبي"، فانتفضنا كجيوش وقد باغتها العدو، كل واحد منا التقط ما صادفته يداه من داخل الخيمة أو خارجها، وهرعنا بلا خيول نحو ميدان المعركة، ومن خلفنا أنصار الفرجة المجانية.لم يدر الظالم السكران ما حل به : ضربة لولبية بالمقلاة على رأسه، دوت كطنين نواقيس الكنائس القديمة فأصمت آذاننا جميعا، لكمة تحت الصرة اختزلت للمذنب المسافة الفاصلة بين نجوم السماء وعينيه، "الهيبي" كان يضرب المعتدي ب "الرابوز" (المنفاخ)، ويحوم حوله راقصا رقصة "بوب مارلي"، أكوام طوب انشطرت على ظهره، وأعيد انشطارها من جديد، كل مواويل السب والشتم استظهرناها بعدما حممناه بصاقا، بعض أوتاد خيمتنا أقسمت أن تزور مؤخرته، فلم تحنث، كلبنا العزيز الجائع"دانيال" انتقى وجبة عشائه من لحم فخذ المجرم – الذي صار ضحية – حتى المسالم "حماد" أفرغ حقده (المكبوت) على الكرات التي أضاع تسجيلها في كل المقابلات التي شارك فيها.وبدأ يركل المعتدى عليه ويصيح: – هكذا كان علي أن أقذفها! بمقدمة الرجل؟ لا بل هكذا بالكعب! لا بباطن القدم. تالله لأجربن الضربة "اللولبية" ل (الكابتن) "ماجد" "goal" !؟… تكور الرجل على نفسه! كي يرضي طموح "حماد"، ما نفعه ذلك، شارك " الهيبي" في رقصته! لكن هذا الأخير ما كان ليقتنع برقص ليس فيه نفحة "raggea " علقناه،كتفناه بعمود النور ثبتناه، وفي الأخير جاء حميد يتبختر في مشيه، أشبع كفه بصاقا، وانطلق يشرح للجاهل عاقبة من آذى أتباع مذهب "الهيبية") المسالمين ): – "صفعة بالبحر! بالشط صفعات بعدد موجه". آناء تلك الليلة لم نعد نسمع سوى عواء المربوط، وأمواج بحر (رأس الرمل) وهي تعزف لحنا لمواويل الصفعات "الجوهرية": "ماق مرملاق…ماق مرملاق. .. ماق…"