شخيره يسمع على امتداد المصطاف، بل حتى على مشارف الشط الآخر؛ السمفونية التاسعة ل"بتهوفن" و"موزار" أوحتى باخ لن تساوي بخة من بخاته، أو جرة على كمان حنجرته أو "نوطة" من "ساكسفون" أنفه العجيب، أما مواويله الطويلة تستحق أن تدرس في المعاهد العليا للموسيقى (الهرناطية). ذاك كان حال الرجل النائم في خيمته بجوار خيمة "الهيبي"، الذي لم يزعجه الشخير أو الفرامل التي تمزق هدوء الليل لأنه يعتبر الأمر قناعات وحريات شخصية ينبغي تقديرها واحترامها، كما أن هذا الشخير المتميز كان سميره المخلص متى نام المصطافون والمصطافات، بل أحيانا كثيرة كان يقوم من مرقده ويرقص رقصة "بوب مارلي" على إيقاعات ألحان جاره، الذي جعل المصطافين ينظمون وقفة احتجاجية أمام برلمان خيمته: - شخيرك يعلو على شخير كل الخيام، وصوت ديكك يخرس كل ديوك المصطافين فمتى ننام؟!. هكذا قالت امرأة بعد أن شمرت على تلابيب قفطانها وأدخلتها في حزامها، استعدادا لخدش ونتف وطرح هذا الواقف أمامها. أجابها "الهيبي" ومن خلالها باقي المحتجين وهو يشير إلى قبة رأسه: - إنها هنا فكيف سترونها؟. "قلد و لا تحسد" دعوا الرجل يغني شخيره المتميز، وإن أراد أحدكم أن ينظم إلى جوقة "كوراله" فليفعل أو ليخرس إلى الأبد، ولأن كف عن العزف على ما سأرقص أنا ليلا؟. قالها وانصرف ضاحكا نحو البحر يحيه تحية الصباح لاستهلال طقوس يومه، تسابقنا وراءه كالأتباع لنقاتل الأمواج بالأيدي والأرجل، ونتمرغ في التراب كما يفعل السردين قبل أن يقفز إلى زيت المقلاة. قطار الجمعة يدخل المحطة وعلى متنه صديقنا "حماد"؛ صاحب الدجاجة الأسبوعية، كيف لا ننتظر قدومه بأياد على الخدود؟ و وجبات أسبوعنا كلها حمص أو حمص وبعض الأخطبوطات، التي نصطادها كلما أمر البحر أمواجه بالتراجع إلى الخلف خوفا من جوعنا، الذي يجعل أخطبوطاته مكرهة تغادر جحورها، و تستسلم رافعة أذرعها، فنقلب رأسها وندخلها في العصا التي كنا نتكلف أنا و صديقي"المتوكي" بحملها على طول امتداد الشط، ذاك المشهد كان يتقزز من وحشيته صديقنا "الهيبي" (النباتي)، الذي لم يكن يتأخر في التقاط أذرع الأخطبوط ملتهبة من فم "الطنجرة" ليضعها مباشرة في فمه ثم يبتلعها كوحش لا يعرف الرحمة. على سلم القطار نتلقف "حماد" (بالأحضان يا دجاجتي) نمسك منه حمولته ونتناسى وجوده، نسرع نحو الخيمة نفتح مغارة حقيبته كي نستطلع الموجود فيها، ونتغزل بدجاجتنا التي كانت تأتينا محمرة دون حاجة لشمس الشط. كم مرة على الصحن وجدناها معوقة: - من عوق دجاجتي؟ أين فخذها الثاني؟. يقولها "حماد" وهو ينظر نحو عيوننا المستغربة من فداحة هذه الجريمة النكراء، لكن لعابنا السائح على الذقون، يقنعه ببراءة أمعائنا من هذا الجرم العظيم، وفي الأخير يجيبه "الهيبي" مشيرا إلى بطنه ضاحكا كعادته: - إنه هنا فيكف ستراه؟!. - بالعدل الدقيق كان "حماد" يقتسم علينا دجاجته التي كنا نلتهمها بسرعة النيزك وقت رجمه للشياطين، لكن معدتنا تظل تذكر محاسن الدجاجة على طول أيام الأسبوع. أما عظامها فكنا نحتفظ بها؛ كل صباح ندهنها بقليل من الزيت، ونضعها على مدخل خيمتنا مفخرة و تبجحا على باقي قاطني الخيام، وفي المساء نعيدها إلى داخل الخيمة. - ما المعمول لن يأتي "حماد" هذه الجمعة ولن تأتي معه دجاجتنا؟. قالها "الهنداوي" وهو يخرج يده من تحت الخيمة، فلم يدر ديك الجار كيف صار في يد "الهنداوي" داخل خيمتنا، انفجرنا ضاحكين، وحولقنا جميعا لما فصل رأسه عن جسده وقام ينعي جثته بالسب: - قبحت من ديك وقبح صاحبك، ألم يسهرك شخير صاحبك؟ها قد أرحت الدنيا منك. أمسك رأس الديك من عرفه و أخرجه من الخيمة، رفعه عاليا وصاح بما أوتي من قوة: - ها قد أطحت برأس هذا الديك المبحوح. أصوات نسوة تعالت بالزغاريد والصلاة على النبي، تقدم المجرم و وضع ضحيته في كيس، وانصرف راكدا نحو محطة القطار ليعود إلى مدينته "القصر الكبير". جاءنا صاحب الديك: عيناه بلون الدم المتخثر، والشعيرات (المتبقية على رأسه) كانت خاشعة لهول الحدث، يتأبط خفه، يخفي عصا لو هوى بها على رأس "الهنداوي" لشطره نصفين غير متساويين : - أحد الجيران رأى يدا وقد خرجت من تحت تلابيب خيمتكم، والتقطت ديكي العزيز. أجابه "الهيبي": - أنا نباتي ياسيدي، وعاشق لفنك، ومعجب بزعيق ديكك الجميل. تشجع "المتوكي" و أردف قائلا: - "الهنداوي" معذور لفعل ذلك يا سيدي، فقد كان غناء ديكك مقرفا، نشازا يستوجب هدر دمه. - اخرس أيها الجاهل، بل آذان فجره، هو الذي أعفاه دخول طنجرتي. هكذا صاح الرجل في وجهنا متوعدا كل من سولت له نفسه الإساءة للفقيد.همهم "المتوكي" في سره: - بل صوته المبحوح كان سبب نقله إلى دار البقاء، "إنا لله وإنا إليه راجعون". أنهى "حميد" اللجاج، حين قال: - اذكروا محاسن ديوككم بالخير. انصرف الرجل متأخرا نحو محطة القطار، يسب ويلعن، يضرب كفا بأخرى، ويتلو الفاتحة على روح ديكه الطاهرة، ويردد بين الفينة و الأخرى: "تشيو... تشيو...كوك ريكو"...